الإمام الصادق (ع) ودوره في نشر علوم اهل البيت عليهم السلام
الحث على التفقه والتعلّم
ان جميع أهل البيت عليهم السلام أكدوا على اهمية العلم والتعلّم ولكن في عهد الإمام الصادق ( ع) حيث الصراع العلمي والشبهات الفكرية وظهور العديد من الفرق- استدعى الأمر أن يُسلّح الموالون بسلاح العلم أكثر من العصور الأخرى. ولذا كان الإمام الصادق(ع) يؤكد بشكل حثيث على العلم والتعلّم ومن ذلك قوله (عليه السلام): (ليت السياط، على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام)
وقوله (عليه السلام): (حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة)
وروى بشير الدهّان، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا يا بشير ! إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم.
وقال (عليه السلام): تفقّهوا فإنّه يوشك أن يُحتاج إليكم.
تثبيت مرجعية اهل البيت والامام الصادق عليهم السلام
عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام: "والله لقد اعطينا علم الأولين والأخرين
وكان قبله الامام أبو جعفر الباقر(عليه السلام) قال لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت
عن الإمام الصادق عليه السلام قوله إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالًا، وَإِنَّا وَشِيعَتَنَا هُدِينَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ .
وهذا ما اكده الإمام ابو عبد الله (عليه السلام) في مقولته : "ابى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً ، وجعل لكل شرح مفتاحاً ، وجعل لكل مفتاح علماً ، وجعل لكل علم باباً ناطقاً من عرفه عرف الله ، ومن انكره أنكر الله ذلك رسول الله ونحن"
لذا تصدى الامام للتدريس والتعليم وبث المعارف بين الناس وغص مجلسه بطلبة العلم
قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي لابن عيسى القمي: إني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام)
وازدهر العلم في عصره واتسع نطاقه، يوم أتيحت له الفرص في الفترة بين انقراض دولة الأمويين واستفحال أمر بني العباس، فنشر أحاديث جده النبي (صلى الله عليه وآله) وآبائه الهداة (عليهم السلام)، وبث علومه في أرجاء البسيطة، وقد صنف الحافظ أبو العباس ابن عقدة أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني الكوفي المتوفى سنة 333، كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، فذكر ترجمة 4000 رجل، خرج فيه لكل رجل الحديث الذي رواه.
وقد ألف أربعمائة رجل من أجوبة مسائله (عليه السلام) أربعمائة مصنف سموها الأصول الأربعمائة، ويوجد منها اليوم في أيدينا ولقد بقي (عليه السلام) في الكوفة سنتين أيام أبي العباس السفاح، فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحدانا تستقي منه العلم وترتوي من منهله العذب الروي وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم.
منهج الأئمة عليهم السلام في التعليم
خص الامام عليه السلام جماعة من اصحابه بمزيد عناية لما رأى فيهم من كفاءة في الدفاع عن الحق واهله فعلمهم ووجههم الى اختصاصات معينة من العلوم بما يشبه عالمنا اليوم فهم ما لهم من المام عام بمختلف علوم الاسلام كان لكل احد مزيد اختصاص بعلم محدد :
يقول هشام بن سالم كنا عند ابي عبدالله عليه السلام جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن بالجلوس فأذن له، فلما دخل سّلم فأمره ابو عبدالله عليه السلام بالجلوس ثم قال له: ماحاجتك أيها الرجل؟ قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت اليك لأناضرك، فقال ابو عبدالله عليه السلام في ماذا؟ قال: في القرآن، فقال ابو عبدالله عليه السلام يا حمران بن أعين دونك الرجل، فقال الرجل: انما اريدك انت لا حمران. فقال ابو عبدالله عليه السلام: إن غلبت حمران فقد غلبتني فأقبل الشامي يسأل حمران حتى ضجر وملّ وحمران يجيبه، فقال ابو عبدالله عليه السلام كيف رأيت يا شامي؟ قال: رأيته حاذقاً ما سألته عن شيء إلا أجابني، ثم قال الشامي: اريد ان اناظرك في العربية، فالتفت ابو عبدالله عليه السلام فقال: يا أبان بن تغلب ناظره، فناظره حتى غلبه، فقال الشامي: اريد ان أناظرك في الفقه فقال ابو عبدالله: يا زرارة ناظره، فناظر حتى غلبه، فقال الشامي: اريد ان أناظرك في الكلام فقال الامام عليه السلام: يا مؤمن الطاق ناظره، فناظره فغلبه، ثم قال: اُريد ان أناظرك في الاستطاعة فقال الامام عليه السلام: يا هشام بن سالم كلمه فكلمه فغلبه، ثم قال: اريد ان اتكلم في الامامة فقال الامام عليه السلام: لهشام بن الحكم كلمه، فغلبه ايضاً فحارَّ الرجل وسكت. واخذ الامام يضحك فقال الشامي له: كأنك اُردت ان تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟ فقال الامام عليه السلام: هو ذلك
وكان الامام عليه السلام لا يخصهم بالمادة العلمية فحسب بل يفيدهم ايضا بالاسلوب الذي ينبغي التزامه في مواجهة الآخر المخالف . وهذا النص التالي يوضح ما تقدم .
فقد روي أنّ رجلاً من أهل الشام ورد على إمامنا الصادق عليه السلام ليناظر أصحابه، فطلب الإمام من الراوي (يونس بن عبد الرحمان) أن يخرج فينظر من يرى من المتكلمين الشيعة ليدخله، فهذا الشاميّ يطلب مناظرة الشيعة في حضرة الإمام عليه السلام.
أدخل (يونس) جملةً من المتكلمين كحمران بن أعيَن والأحول وهشام بن سالم وقيس بن الماصر، وما لبث أن ورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطّت لحيته، فَوَسَّعَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله (ع) وَقَالَ: نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ
ثُمَّ قَالَ: يَا حُمْرَانُ كَلِّمِ الرَّجُلَ، فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ: أي غلبه
ثُمَّ قَالَ: يَا طَاقِيُّ كَلِّمْهُ فَكَلَّمَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الأَحْوَلُ
ثُمَّ قَالَ: يَا هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ كَلِّمْهُ فَتَعَارَفَا: أو تعاركا، أي لم يغلب أحدهما الآخر
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (ع) لِقَيْسٍ المَاصِرِ: كَلِّمْهُ، فَكَلَّمَهُ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ الله (ع) يَضْحَكُ مِنْ كَلَامِهِمَا مِمَّا قَدْ أَصَابَ الشَّامِيَّ: فقد حار الرجلُ في مناظرته لقيس الماصر، فبعدما غلبه اثنان وتساوى مع الثالث جاء قيس الماصر وأذهلَهُ فضحِكَ الإمام من ذلك
ثم قال الامام للشامي: كَلِّمْ هَذَا الغُلَامَ، وعنى به هشام ابن الحكم.
حاجَّ هشامُ بن الحكم هذا الشامي، وأثبت له لزوم الامامة، وأنّ القرآن وحده لا يرفع غائلةَ الاختلاف دون إمامٍ ، ولمّا أراد الشامي معرفة الإمام عليه السلام أحاله هشامٌ على الصادق عليه السلام فأخبره الإمام ببعض المُغَيَّبَات: كيف كان سفره، وكيف كانت طريقه، ومن ثَمَّ أقرَّ الشاميُّ بإمامة الإمام وانتهت المناظرة معه، واتّبع هذا الرجل الحقَّ بعدما كلَّمه هشام وأظهر له الإمام ما يقطع به عذره..
ثم التفت الإمام عليه السلام الى أصحابه وهم خمسة، غلب أربعةٌ منهم الشامي وتساوى واحد منهم معه، وشَرَعَ الإمام في تقييم أصحابه .
تقول الرواية: ثُمَّ التَفَتَ أَبُو عَبْدِ الله (ع) إِلَى حُمْرَانَ فَقَالَ: تُجْرِي الكَلَامَ عَلَى الأَثَرِ فَتُصِيبُ.
قال المجلسي (ره) قوله عليه السلام : تجري الكلام على الأثر ، أي على الأخبار المأثورة عن النبي وأئمة الهدى صلوات الله عليهم فتصيب الحق ، وقيل : على حيث ما يقتضي كلامك السابق ، فلا يختلف كلامك بل يتعاضد
أقول : ويحتمل أن يكون المراد على أثر كلام الخصم ، أي جوابك مطابق للسؤال والأول أظهر
وَالتَفَتَ إِلَى هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ فَقَالَ: تُرِيدُ الأَثَرَ وَلَا تَعْرِفُهُ
أي تريد أن تبني كلامك على الخبر عن رسول الله صلىاللهعليه وآله ، ولا تعرفه ، لعدم التتبع في الأخبار ، أو عدم القدرة على الاستنباط الفقهي أو المنطقي.
يريد أن يحتجَّ على الشاميّ بالأحاديث، لكنه لم يكن عالماً بها، فلم يتمكن من إثبات الحق وإن رغب بذلك، فلم يكن أهلاً ليناظر الشامي لذا لم يتمكن من إثبات الحق أمامه فتعادلا
ثُمَّ التَفَتَ إِلَى الأَحْوَلِ فَقَالَ: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ، إِلَّا أَنَّ بَاطِلَكَ أَظْهَرُ
يريد الأحولُ أن يثبت الإمامة، والإمامةُ حقٌّ مطلق، لكنَّه لم يتمكن من اثباتها بالحق، فلجأ الى الأساليب الملتوية، حتى قال له الإمام: أنت تراوغ في حوارك وتقيس أمراً على أمر، والقياس ليس من الدين، بل به يُمحق الدين. فالقياس باطل، لكنك تلزمه بما الزم به نفسه، فبالقياس يفحمه الزاما له (رواغ) اي كلما يحصرك الخصم في زاوية فانك تروغ وتفر من الزامه اياك.
(تكسر باطلا بباطل) يريدُ أن يكسر باطلَ الشامي المخالف للإمامة، فانتهج طريقاً يتضمن باطلاً، وليس هذا طريق يرضى به الإمام عليه السلام، فقال له: قَيَّاسٌ رَوَّاغٌ، تَكْسِرُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ
لعل كلام الامام (عليه السلام) اشارة إلى الاجوبة النقضية التي كان يستخدمها الاحول، وان هذه الاجوبة النقضية كسرت كلام الشامي؛ الا ان الجواب النقضي كان باطلا في حد ذاته، لأن الجواب النقضي تارة يكون صحيحا وتارة يكون باطلا، فالاحول كان يكسر باطلا بباطل (ألا ان باطلك أظهر) اي اجوبتك النقضية أظهر من أجوبته
ثُمَّ التَفَتَ إِلَى قَيْسٍ المَاصِرِ فَقَالَ: تَتَكَلَّمُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الخَبَرِ عَنْ رَسُولِ الله (ص) أَبْعَدُ مَا تَكُونُ مِنْه.
وهذه الجملة فيها محتملات: ومن الاحتمالات ان الادلة العقلية التي كان يسوقها قيس الماصر وان كانت تقطع حجة الطرف الاخر الا انها لم تكن متطابقة مع النقل، فهو من حيث المؤدى والنتيجة قريب من النقل لكن من حيث الاستدلال يستدل باستدلالات تعارض النقل وان كانت نتائجها مع النقل متحدة.
ووجه القرب والبعد هو اختلاف الحيثية فمن حيث النتيجة والمآل قد أصبت وكنت أقرب إلى مفاد الخبر عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لكن من حيث الاستدلال تستدل بما يضاد النقل
يكمل الامام عليه السلام: تَمْزُجُ الحَقَّ مَعَ البَاطِلِ، وَقَلِيلُ الحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ البَاطِلِ، أَنْتَ وَالأَحْوَلُ قَفَّازَانِ حَاذِقَانِ.
لقد مَزَجَ قيس الحق بالباطل، وهذا قد نفعه في غَلَبَةِ الشامي، لكنّه ليس منهج أهل الصراط المستقيم، لأن منهجهم الذهبيّ عبرّ عنه الإمام عليه السلام بالعبارة المتقدمة: وَقَلِيلُ الحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ البَاطِلِ
ثم يكمل الامام (عليه السلام) (أنت وألاحول قفازان) وقفاز صيغة مبالغة أي كثيرا القفز على الطرف الاخر قويان فيه.
ثم قال عليه السلام يَا هِشَامُ، لَا تَكَادُ تَقَعُ تَلْوِي رِجْلَيْكَ، إِذَا هَمَمْتَ بِالأَرْضِ طِرْتَ، مِثْلُكَ فَلْيُكَلِّمِ النَّاسَ، فَاتَّقِ الزَّلَّةَ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْ وَرَائِهَا إِنْ شَاءَ الله (الكافي ج1 ص173
قال يونس بن يعقوب الراوي للخبر فظننت والله انه يقول لهشام قريبا مما قال لهما فقال يا هشام (لا تكاد تقع) فان الطائر عندما يطير قد يكاد ان يقع أما هشام فلا يكاد يقع، نعم من الممكن ان ينخفض لكنه لا يكاد يقع ، في مقابل من يكاد أن يقع وإن لم يقع ، فهشام بلغ مرتبة انه حتى (لا يكاد يقع)
(تلوي رجليك) لأن الطائر عندما ينخفض يلوي رجليه لكي يرتفع من جديد (اذا هممت بالارض طرت) فان الخصم يتصور أنك كدت ان تستسلم وتسقط أحياناً، بسبب مجاراتك له لكن ذلك نوع من التمهيد للغلبة على الخصم
إذن أحياناً الانسان يجاري الخصم في كلامه لكي يفجأه بحجة أقوى ويقلب عليه الاستدلال (اذا هممت بالارض طرت) كأنه كان قاصدا مجارات الخصم فينخفض معه حيث انخفض ثم يحلق عاليا
(مثلك فليكلم الناس) لكن (اتق الزلة) لأن الانسان في الجدل أحياناً يزل وقد تأخذه احيانا العزة بالاثم وان كان على حق وقد يأخذه الغرور العلمي فيذكر ما يعلم انه باطل (اتق الزلة والشفاعة من وراءك) فان كل انسان قد يخطئ، فعليك اتقاء الزلة لكن لو حدث خطأ فنحن معك.
|