• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الايمان بالغيب .

الايمان بالغيب

الايمان بالغيب 
ودوره في تصحيح السلوك الاجتماعي 


الشيخ توفيق علوية 

هناك رابط بين عالم الحس وعالم الغيب، والمرئي وغير المرئي، والمادي والمعنوي، وهذا الرابط هو «الدين».
فالدين هو الذي يربط بين هذين العالمين ويؤسس لنحو علاقة بينهما.
وهناك ثلاثة اتجاهات حول هذا «الرابط» بين عالم الغيب وعالم الحس:
الاتجاه الأول: وهو اتجاه سلبي، حيث يقف موقف المنكر لوجود عالم غيبي وبالتالي لوجود «الدين» المعبر عن وجود هكذا عالم غيبي مزعوم.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه ايجابي، حيث يقف موقف المؤيد لهذه الظاهرة «الغيب» وبالتالي إلى وجود رابط يربط بين العالمين أعني الغيب والحس.
الاتجاه الثالث: وهو الإتجاه الذي ينظر إلى عالم الغيب نظرة حسية، أي بما له من موقعية في عالم الحس حتى ولو كان «عالم الغيب» بحد ذاته غير معترف به عند هذا الاتجاه، ولكن بما أن لعالم الغيب مؤيدين في عالم الحس فإن أصحاب هذا الاتجاه يعترفون لعالم الغيب بهذه الموقعية وبهذا التأييد. ومن هنا نعلم بأن هذا الاتجاه كما الاتجاه الأول ينكر وجود عالم الغيب غايته أنه يفترق عنه بالنظرة إلى ما يمثل هذا العالم من تأييد على المستوى الحسي والعملي وبالتالي هو يعترف بانعكاساته الواقعية بعيداً عن اعترافه بالغيب من رأس.
وبالحق فإن الاتجاه الثالث يمكن التعاطي معه بشكل مرن وحيوي سيما إذا ثبت صلاح ما يطرحه عالم الغيب من أفكار ورؤى مطابقة لما يحتاجه عالم الحس، وعندها لا مجال عند أصحاب هذا الاتجاه إلا الإذعان لأفضلية هذا الطرح وبالتالي الاعتراف بوجود عالم غيبي وبوجود رابط يربط بينه وبين عالم الحس، وإلا فمن أين أتى هذا الطرح التفصيلي الغيبي المنسجم مع تطلعات عالم الحس؟!! فإذا لم يأتِ من عالم الحس نفسه فمن المؤكد أنه أتى من عالم اخر أي «عالم الغيب».
وعلى أي حال فبناءً على الاتجاه الثاني، وبإقرارٍ من الاتجاه الثالث فإن الدين يرى وجود علاقة بين عالم الحس وعالم الغيب، واللَّه عزَّ وجلّ‏َ هو الذي يشرف على إدارة عالم الحس ويهتم بتدبيره وتنظيمه لا على قاعدة الالجاء بل على قاعدة التشريع ... والاختيار.
ومن أهم الصعد التي أشرف الدين على تشريعها وتنظيمها الصعيد الاجتماعي، إذ إن الإيمان بالغيب أي باللَّه عزَّ وجلّ‏َ وملائكته ورسله والاخرة ثواباً وعقاباً يؤثر بالإنسان أيما تأثير على صعيد السلوك الاجتماعي، ومن أبرز مظاهر هذا التأثير ما نلاحظه في العناوين الاتية:
1 الإنخراط في المجتمع: فالإيمان بالغيب يحتم على الإنسان ضرورة الالتحام مع المجتمع البشري، وضرورة عدم كونه معزولاً عنه بأي شكل من الأشكال، ولا شك بأن الالتحام بالمجتمع له شكلان:
الأول: الالتحام القهري الضروري، وهو الذي تستدعيه الحاجة وتتطلبه الظروف الطبيعية والعادية للحياة، وهذا ما يعبر عنه بكون الإنسان اجتماعياً بطبعه؛ فالإنسان ضمن هذه الدائرة لا يستطيع بنحو من الأنحاء الإستغناء عن أبناء جلدته للعامل الفطري الجبلي، ولتأمين حاجياته الضرورية والكمالية، وللأسف فإن ما يشهده العالم الان من علاقات بين الدول والشعوب والتيارات إنما مرده إلى الاتجاه التعيني للناس نحو بوصلة «المصلحة» وليس لاعتبارات أخرى.
الثاني: الإنخراط الطوعي الاختياري، والذي لا يكون فيه الإنسان مقهوراً بسبب «المصلحة» والاحتياجات الضرورية والكمالية.
والإيمان بالغيب يحث الإنسان على كلا الأمرين لأن الأول مشروع، ولأن الثاني يعطي الإنسان هوية حقيقية اسمها «الإنسانية» وبالتالي يعمل الإنسان من خلال إنخراطه الاجتماعي الطوعي على تحقيق الأهداف التي خُلق لأجلها، فيتكامل الإنسان مع مجتمعه القهري والطوعي لبناء مجتمع تعارفي فاضل يكون ميزانه الأساسي «التقوى» لا غير كما قال تعالى: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم»(1) ومن هنا يمنع الدين الناس من الانزواء عن المجتمع لأن عليه إلتزامات مجتمعية مادية ومعنوية ومنها:
أ الاصلاح: قال تعالى: «إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم»(2).
ب إيجاد الرحمة: قال تعالى: «رحماء بينهم»(3) وذلك في صفة أصحاب محمد (ص).
ج افشاء العدل: قال تعالى: «اعدلوا هو أقرب للتقوى»(4).
د مواجهة أعداء المجتمع: قال تعالى: «أشداء على الكفار»(5).
ه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر»(6).
و هداية وارشاد المجتمع: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»(7).
ز نشر العلم والمعرفة: ويعلمهم الكتاب والحكمة»(8).
2 الاعتراف بالقيمة الوجودية للاخر: فالإيمان بالغيب يحث الإنسان المؤمن أن يعترف بالاخر كموجود لأنه يؤمن بوجود الخالق الواحد، وكذا يحثه على الاعتراف بقيمته لأنه يؤمن بأن الإنسان مخلوق لغرض، وبهذا يكون المؤمن الرسالي، وبسبب إيمانه بالغيب معترفاً بوجود الاخر وبقيمته وهذا يجعل البشرية بمأمن من مفهوم «الإبادة» وعدم الاعتراف بالاخر، ومضافاً إلى هذا الأصل فإن المؤمن يتعاطى مع الاخر الذي لا يوصف بصفته الإيمانية من منطلق فطري وحقوقي أوجدهما وأوجبهما الإيمان بالغيب وذلك لأمرين:
الأول: لأن الاخر إنسان يشترك مع المؤمن في الإنسانية.
الثاني: لأن الاخر فيه قابلية الهداية، لأن الإيمان والكفر وصفان للإنسان وليسا أمرين ذاتيين فيمكن للمؤمن أن يصير كافراً وبالعكس.
3 حفظ الأسرة ووقايتها من الأذى: لقوله تعالى: «يا أيها الذين امنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً»(9).
4 السعي في حاجات الناس: فتارة يكون السعي في حاجات الناس الزامياً كما في الواجبات الملقاة على عاتق الحاكم لخدمة الرعية، وطوراً يكون السعي في حاجات الناس طوعياً كما في عنوان «الصدقة» وعدم بيتوتة الجار «مبطاناً وجاره جائع» وغيرها، وإنما يستحث الإنسان خطاه في خدمة الناس طوعاً لمعرفته بوجود الثواب الجزيل على ذلك.
ومن ذلك ما ورد عن الإمام الكاظم (ع) حيث قال: «إن للَّه عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الامنون يوم القيامة»(10).
5 تنظيم العلاقات من خلال:
أ بر الوالدين.
ب صلة الأرحام.
ج احترام الكبير والرحمة بالصغير.
د نصرة المظلوم وردع الظالم.
ه مراعاة حقوق الزوج والزوجة، وحق التربية للأولاد.
والإيمان بالغيب يضع للناس على صعيد العلاقات الاجتماعية ميزاناً رائعاً يقوم على «التواصل الواجب» في حدود الأرحام الذين تجب صلتهم، وعلى «التواصل المحمود» في الأعم من الأرحام وأبرز مظاهر التواصل المحمود «الأخوة» و«الصداقة».
ولا ريب بأن كل ما ذكر أعلاه كان على سبيل الترميز والإشارة وإلا فالبحث يستحق البسط والتوسع ؟


 
(1) سورة الحجرات، الاية: 13.
(2) سورة الحجرات، الاية: 9.
(3) سورة الفتح، الاية: 29.
(4) سورة المائدة، الاية: 8.
(5) سورة الفتح، الاية: 29.
(6) سورة لقمان، الاية: 17.
(7) سورة المائدة، الاية: 32.
(8) سورة الجمعة، الاية: 2.
(9) سورة التحريم، الاية: 6.
(10) ميزان الحكمة، ج‏2، ص‏536.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=26
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2007 / 04 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19