• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : سيرة .
                    • الموضوع : الإمام السجاد عليه السلام باعث الإسلام من جديد .

الإمام السجاد عليه السلام باعث الإسلام من جديد

الإمام السجاد عليه السلام باعث الإسلام من جديد

بعد أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام مع أهل بيته وأصحابه

واطمأن الأمويون فقط إلى أن آل علي ، قد انتهى أمرهم وطويت صفحتهم ، ولن تقوم لهم بعد أية قائمة، ولن تبرق لهم في الأفق أية بارقة.. بعد ذلك ومع ذلك فقد استمروا في إتباع سياساتهم الرعناء تجاه أهل البيت والأمة، بهدف تكريس الأمر نهائياً في البيت الأموي، ولكن قد خاب فألهم، وطاش سهمهم.. فما كانت سياساتهم تلك إلا وبالاً ودماراً عاد عليهم أنفسهم.. وعلى كل حال فإننا نستطيع أن نقول: أن سياسات الأمويين تلك تتمثل بالخطوط التالية:

1_ملاحقة أهل البيت إعلامياً بالافتراء عليهم، وتوجيه مختلف التهم الباطلة إليهم، وتصويرهم على أنهم هم المعتدون، والظالمون الآثمون.. وحتى قتل الحسين عليه السلام، فإنه لم يكن إلا لأنه كان هو الجاني على نفسه، والساعي إلى حتفه، وهو المذنب والمعتدي..

ومن ذا الذي يستطيع أن يرد على دعايات الأمويين هذه أو يظهر الترديد والتشكيك فيها؟ وبالأحرى من ذا الذي يستطيع أن يجهر بالحقيقة ولو من دون أن يعرض لدفع دعايات الأمويين ودحض افتراءاتهم وأكاذيبهم؟.

2_ سياسة التجويع والحرمان لأهل البيت وشيعتهم، وحرمانهم من كل الامتيازات ومصادرة أموالهم، وحتى هدم بيتهم، حتى لا يجدوا لقمة العيش إلا على موائد الأمويين ومن لف لفهم، ودار في فلكهم.. وإجبارهم على التوجه إلى الحكام في وفادات منتظمة، لاستجداء لقمة العيش،.. حتى إذا تأخرت أحياناً وفادة بعضهم عليهم تجدهم هم أنفسهم يطالبون بذلك ويساءلون عنه وعن سببه وسره.. إن لم يبادروا إلى استقدامهم بشكل مباشر وصريح. وبذلك يكونون قد شغلوا تلك الشخصيات بالبحث عن لقمة العيش وصرفوا همتهم إلى هذا المجال..بالإضافة إلى أنهم يستفيدون من ذلك سياسياً وإعلامياً كما هو واضح.

3_ ثم هناك سياسة الاضطهاد والملاحقة المرة والشرسة لكل من يتصل بأهل البيت، أو يظهر منه الميل إليهم.. الملاحقة التي لا تنتهي إلا بالتصفيات الجسدية والنفسية، أو بما لا يقل سوءاً وفظاعة وبشاعة عن ذلك .. ويستغلون بذلك أمرين :

الأول: الحرب النفسية لآل علي أنفسهم، ومحاولة جعل اليأس يتطرق إلى نفوسهم، فلا يفكرون بعد بأية حركة، ولا بالوقوف أي موقف يتعارض مع مصلحة الهيئة الحاكمة..

الثاني: منع الناس من الاقتراب منهم، والاستفادة من تعاليمهم، والتخلق بأخلاقهم، والتعرف على الإسلام الصحيح الذي عندهم.. فإن الناس إذا علموا أن الاقتراب من آل علي لا يعني إلا الدمار والشقاء لهم، ولكل من يلوذ بهم، فإنهم سوف يجنبون أنفسهم ذلك.. ويؤثرون السلامة والراحة على التعب والعناء، وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق كان إصرارهم على لعن سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر بل كانوا يعتبرون كما يقول مروان: أن بذلك استقامة ملكهم وبقاء سلطانهم، فإن لعنه إنما يعني:

ألف: خوف من يعرف الحقيقة من الاتصال بأهل بيت علي عليه السلام وشيعته، وحرمانه من ثم من الاستفادة من تعاليمهم، والتخلق بأخلاقهم والسير على منهاجهم، الذي هو مناج الإسلام الصحيح كما قلنا فإسلام علي عليه السلام، لم تطلع عليه الأمة ، ولم تعرفه كما يجب، وإنما عرفت الإسلام الأموي إسلام المصالح والأهواء، الإسلام الذي يستحل السلب والنهب، وقتل  النفوس البريئة، وفعل كل عظيمة، وارتكاب كل جريمة في سبيل الملك والسلطان، وفي سبيل المال.. واللذة..

وأما من لا يعرف الحقيقة فلسوف يصدق بأن هذه الشخصية ومن يمت إليه بصلة أو رابطة شخصية منحرفة حقاً، وليس من المناسب، ولا من الصالح الديني، ولا الدنيوي الاتصال بها وبمن يمت إليها بصلة.. حتى ليتجرأ معاوية على القول لأهل الشام : أن علياً عليه السلام لم يكن يصلي وحتى أن عشرة من قواد أهل الشام وأمرائهم، إلى قيام الدولة العباسية ما كانوا يعرفون أن للنبي(ص) قرابة سوى بني أمية، وقد حلفوا على ذلك لأبي العباس السفاح بأغلظ الإيمان، وغير ذلك من الشواهد الكثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، في عهد الأمويين وبعده.

باء: وشيعة علي وأهل بيته أيضاً يرون أنفسهم غير مقبولين اجتماعياً، ولا يمكنهم ممارسة أي نشاط مهما كان، فتخمد جذوة الثورة في نفوسهم، وينصرفون عن التخطيط لأي عمل يضر بصالح الهيئة الحاكمة..

جيم: كما أن الأمويين يكونون قد أخذوا بثارات بدر وغيرها، وكذلك الجمل وصفين، وشفوا غيظ قلوبهم من علي عليه السلام هذا الذي كان القضاء النازل عليهم، والبلاء المبرم، الذي لم يجدوا منه مناصاً ولا عنه محيداً.

4_ سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة بأسرها ويكفي أن نذكر: أن الناس والهاشميين بالذات كانوا في زمن السجاد عليه السلام، لا يعرفون كيف يصلون، ولا كيف يحجون.

وإذا كانت الصلاة التي هي الركن الأعظم في الإسلام ويؤديها كل مكلف خمس مرات يومياً كان لا يعرف حدودها وأحكامها من هم أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل ، والذي يفترض فيهم أن يكونوا أعرف من كل أحد بالشريعة، وأحكام الدين، فكيف تكون حالة غيرهم من أبناء الأمة، وما هو مقدار معرفتهم بالشريعة والدين إذن وبالأحكام الأخرى التي يكون التعرض لها والابتلاء بها أقل؟ إننا نترك الجواب عن ذلك إلى أنس بن مالك الذي يقول: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله (ص) قيل: الصلاة؟ قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها. وقال الزهري: دخلنا على أنس بن مالك بدمشق يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وقد ضيعت.. وبعد عصر أنس بقليل نجد الحسن البصري يقول: لو خرج عليكم أصحاب رسول الله(ص) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم.. كما في جامع بيان العلم

وروى مالك في الموطأ عن عمه عن جده مالك أنه قال: ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة.. فنقل السيوطي في شرحه عن الباجي قوله: يريد الصحابة، وأن الأذان باق على ما كان عليه، لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة، فقد أخرت عن أوقاتها، وسائر الأفعال دخلها التغيير انتهى.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص انه قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه.

وبعد هذا  فإن من الطبيعي أن يعتبر من حفظ عن رسول الله(ص) بعض الأحاديث أنه أعلم الناس وأعظمهم في وقته وعصره، ولاسيما إذا أضاف إلى ذلك وزاد عليه ما شاءت له قريحته ، وسمحت به نفسه، حيث لا رقيب عليه ولا حسيب، ولا من يستطيع أن يميز هذا عن ذاك.. ولذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتى بعض من أسلم من أهل الكتاب نجد أن سوقهم قد راج، صاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم على التخلي عنها، حتى لنجد أن السجاد عليه السلام يقول في الصحيفة السجادية في دعاء 48 الخاص بيوم الجمعة وعرفة: اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها.. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدلاً، وكتابك منبوذاً وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة.

بل نجد السجاد عليه السلام أيضاً يقول للقاسم :إياك أن تشد راحلة ترحلها هنا لطلب العلم، حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج.

وكان السجاد عليه السلام إذا سافر صلى ركعتين ثم ركب راحلته، وبقي مواليه يتنفلون، فيقف ينتظرهم ولا يمنعهم من ذلك مع أن النوافل في السفر غير مشروعة.. بل نجد أن علياً قبل ذلك يشكو من عدم تمكنه من إظهار علمه ونشره، فهو يتلهف ويقول: أن في صدري هذا لعلماً جماً علمنيه رسول الله لو أجد له حفظة.. كما أن الباقر عليه السلام يقول ما يقرب من هذا..

وعلي عليه السلام أيضاً يتنفس الصعداء على المنبر ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني فان بين الجوانح مني علماً جماً هاه هاه ألا لا أجد من يحمله.

وقال عليه السلام : لو أجد ثلاثة رهط أستودعهم العلم، وهم أهل لذلك لحدثت بما لا يحتاج فيه إلى نظر في حلال ولا حرام، وما يكون إلى يوم القيامة..

وكذلك هو يقول: أنه لو حدثهم ببعض ما يعلم من الحق في الكتاب الذي نزل به جبرائيل على محمد لتفرقوا عنه حتى يبقى في عصابة حق قليلة..

فإذا كان هذا هو حال الأمة في زمن علي عليه السلام ولم يكن الأمويون بعد قد تسلطوا على الأمة بشكل فعال، فكيف كان حال الناس بعده.. في زمن معاوية وزمن يزيد، الذي أخذ مسرف بن عقبة البيعة من أهل المدينة على أنهم خول له، والذي قتل الحسين وضرب الكعبة ثم بعده عبد الملك بن مروان والحجاج وغيرهم من جبابرة وملوك بني مروان؟

نعم.. لقد صار أولئك الوضاعون والكذابون وأصحاب المصالح، وحتى مسلمة أهل الكتاب هم مصدر الثقافة والمعرفة، وهم معلموا الأمة وهداتها. وقد ساعدهم الحكام على ذلك. ووفروا لهم الحماية الكافية، والمال، وساعدوهم في كل ما يريدون، ويشتهون وذلك لأمور:

الأول: أن هؤلاء كانوا يخدمون العرش الأموي بشكل فعال ، ويؤيدونه بمختلف المختلقات والافتراءات ، على شكل روايات تتخذ صفة القداسة في نفوس الناس، وتترسخ في وجدانهم، لأنها منسوبة إلى نبي الأمة الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: أنهم قد وجدوا فيهم ما يقدمونه للناس على أنه البديل عن أهل البيت عليهم السلام، فلا يعيش الناس في الفراغ النفسي والعقائدي والتشريعي الذي سوف يتركه ابعاد أهل البيت عن المجال العملي العام..

الثالث: وهو الأهم: أن السياسة الأموية كانت قائمة أساساً على أبعاد الناس عن الإسلام الصحيح، وحتى على القضاء على الشخصية النبوية في نفوس الناس قضاء مبرماً ونهائياً .. هذه الشخصية التي سوف لن يكون تعرف الأمة عليها على حقيقتها في صالح العرش الأموي على الإطلاق..

ولذلك نجد أنه كانت ثمة رقابة كاملة على سنة النبي (ص) وسيرته، وحتى على سيرة أصحابه ولاسيما الأنصار منهم كما يظهر من كتاب الموفقيات للزبير بن بكار، وعلى سيرة علي عليه السلام وأهل البيت وسلوكهم ومفاهيمهم وتعاليمهم بشكل اخص.. ومحاولة التعتيم عليها أو التشكيك فيها، وحتى قلبها رأساً على عقب أن أمكن ذلك.. وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصيل في مقال سابق فلا نعيد..

وقد ساعدهم على ذلك سياستهم الخاصة تجاه صحابة النبي(ص) وتجاه حديث النبي, والتي كانت تقضي بالمنع عن التحديث عنه(ص) إلا بنوع خاص من الأحاديث وبمنع كبار الصحابة من السفر إلى البلاد لتثقيف الناس.. حتى مات هؤلاء الصحابة وانقرضوا أو كادوا ، ولم يبق إلا بعض الصغار منهم، والذين لم يعرفوا الكثير منه(ص) ولم يعايشوه بالشكل الواعي والكافي.. بل أنك لتجد أن بعض كبارهم كان يعاشره البعض سنة فلا يسمعه يقول قال رسول الله (ص) وكان يجعل هذا من ميزاته وحسناته ويفوز بكثير من المدح والثناء عليه..

كانت تلك لمحة خاطفة عن الوضع الذي كانت تعيش فيه الأمة في زمن السجاد عليه السلام.. وكانت تلك بعض الخيوط السياسية للحكم الأموي آنذاك..

وفي هذا الجو بالذات كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بمهمة إمامة الأمة وهدايتها إلى الإسلام، الإسلام الصحيح، أسلام محمد(ص) وعلي (ع) .. إسلام القرآن..

ولقد كانت مهمته هذه في غاية الصعوبة والخطورة.

فقد عرفنا موقف الحكم الأموي منه، ومن أبيه وجده، وعمه، ومن أهل بيته وشيعته، وكل من يلوذ بهم بسبب أو نسب.

وإذا أضفنا إلى ذلك: أن الإمام الحسين عليه السلام كان أعظم شخصية في الأمة الإسلامية ولم تنس الأمة بعد ما سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقه.. مع ما عرفته فيه طيلة سبعة وخمسين عاماً من السلوك المثالي، والاستقامة على الحق، والعلم والوعي الذي لا يقاس ولا يضاهى، وغير ذلك من المواصفات الفضلى، والسجايا النبيلة، ولم يكن لولده السجاد زين العابدين عليه السلام الذي لم يكن عمره يزيد على ثلاثة وعشرين عاماً هذه المكانة التي كانت لأبيه الحسين، ولا كان معروفاً لدى الأمة على نطاق واسع، ولا اشتهر عنه بعد ما كان قد اشتهر وشاع عن أبيه صلوات الله وسلامه عليه..

وحينما استشهد الحسين عليه السلام مع أهل بيته وأصحابه اعتبر الأمويون والناس: أن أهل البيت قد انتهى أمرهم، وأفل نجمهم.. فلا الأمويون يخافونهم ولا غير الأمويين يرجونهم، هذا عدا عن عدم جرأة أحد على الاتصال بهم، وعدا عن الجهل المطبق بالإسلام ، فكانت الردة عن أهل البيت والابتعاد عنهم عامة وشاملة، وحتى ليقول الصادق عليه السلام: أرتد الناس بعد قتل الحسين إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم(ولعل الصحيح حكيم بن جبير) ثم أن الناس لحقوا وكثروا..

وإذن.. فلا بد للسجاد عليه السلام أن يبدأ العمل من نقطة الصفر تقريباً ولاسيما عقائدياً ويعيد الإسلام من جديد ويوجه الناس نحو تعاليمه وأحكامه، ويعيد للناس عقيدتهم التي كانت قد تعرضت للكثير من التحريف، وأن يعيد لهم ثقتهم بأهل بيت نبيهم.. والخلاصة: أن يبدأ تماماً كما بدأ النبي(ص) فيما سبق من نقطة الصفر.. والسجاد عليه السلام هو خليفة ذلك النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا بد له أيضاً.. من الحفاظ على العلويين ، وكل من يتشيع لهم..

ولا بد له بالإضافة إلى ذلك: من أن يكسر ذلك الطوق الحديدي الذي ضربه الحكم حولهم لاحتواء كل تصرفاتهم ونشاطاتهم.

ولا بد له كذلك.. من إعادة ثقة الأمة بأهل البيت، وتوجيهها نحوهم واعتبارهم المصدر الأصفى لتعاليم الإسلام، الإسلام القرآني الصحيح، ومصدر كل المعارف والعلوم النافعة والأفكار الراقية، والأخلاق الفاضلة الكريمة.

ولقد نجح عليه السلام في كل ذلك أيما نجاح، رغم قسوة الظروف ورغم الأخطار الجسيمة التي كان يواجهها، حيث لم يكن له أية حماية أو رعاية من أي جهة كانت ، ومن أي نوع كانت.. نعم لقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، حتى أنه عندما خرج ولده زيد على الحكم الأموي بايعه الآلاف الكثيرة وأن كانوا قد تركوه ولم يثبتوا معه.. ثم توالت الثورات الشعبية العارمة واحدة بعد الاخرى، وأغلبها كان بدوافع دينية، وشعور مذهبي..

ويكفي أن نذكر أن من نتائج جهوده عليه السلام أن هيأ الجو على النحو الأكمل والأفضل لمدرسة الإمامين بعده: الباقر والصادق عليهما السلام وعلى آبائهما وأبنائهما الطاهرين..

وأما عن أسلوب عمله وجهات جهاده ونضاله.. فإننا لا نستطيع في هذه العجالة.. أن نلم بكل جوانبها ومجالاتها، فضلاً عن دقائقها وتفصيلاتها.. ولذلك فنحن نكتفي بالإشارة إلى الأمرين التاليين:

الأول: أنه بالإضافة إلى أنه كان يوجه الأمة من خلال سلوكه وتصرفاته ومواقفه.. فإنه كان أيضاً يوجه الأمة من خلال أدعيته، التي كان يضمنها مختلف المعارف الإسلامية : عقائدياً وسياسياً وأخلاقياً وغير ذلك.. ولم يكن بإمكان أحد أن يعترض عليه ويقول له: لا تدع ربك.. فإن ذلك سوف يكون مستهجناً ومرفوضاً من كل أحد.. حيث يرونه لا يتعرض لدنيا هؤلاء الحكام ، وإنما شغل نفسه بعبادة ربه، وتصفية وتزكية نفسه..

ويظهر أن الحكام أنفسهم أيضاً قد اطمأنوا إلى أنه عليه السلام ليس في صدد التخطيط والعمل ضدهم، ولا يفكر في الخروج عليهم، فراق لهم انصرافه عن دنياهم، بل لقد أصبح له عندهم مكانة عظمى واحتراماً خاصاً لم يكن لأحد من أهل البيت قبله، ولا كان لأحد منها بعده.. ولذلك تجد الثناء العاطر ينهال عليه من كل جانب ومكان من قبل من ترضى عنهم الهيئة الحاكمة، وتعتبرهم من أعوانها.

ولقد فاتهم: أنه كان في الظاهر يدعو الله، ولكنه كان في واقع الأمر يدعو الله، ويوجه نحوه، ويعرف الناس سبيله، ويضمن كلامه الكثير من التعاليم الإلهية، والمعارف الدينية التي تهمهم في أمر دينهم ودنياهم.. كما اتضح ذلك جلياً فيما بعد . وأنه كان يقود عملية التغيير الشامل في بنية العقيدة للأمة الإسلامية بأسرها.

الثاني: اهتمامه عليه السلام المتميز بشراء الموالي وعتقهم، حتى ليقول عبد العزيز سيد الأهل في كتابه: زين العابدين: ... باعوا أنفسهم له، واختاروا وتفتلوا من أيدي السادة ليقعوا في يده، وجعل الدولاب يسير، والزمن يمر، وزين العابدين يهب الحرية في كل عام، وكل شهر، وكل يوم، وعند كل هفوة وكل خطأ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، كلهم في ولاء زين العابدين، قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون.

ويقول أيضاً: فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم، ولكن ليعتقهم ، وقالوا: أنه أعتق مائة ألف..

ودعا عليه السلام مملوكه مرتين فلم يجبه وأجابه في الثالثة، فقال له: يا بني ، أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالك لم تجبني؟ قال: أمنتك، قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني.

وكان عليه السلام لا يضرب مملوكاً، بل يكتب ذنبه عنده، حتى إذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وقررهم بذنوبهم، وطلب منهم أن يستغفروا له الله كما غفر لهم، ثم يعتقهم، ويجيزهم بجوائز، وما استخدم خادماً فوق حول..

ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة يأتي بهم عرفات، فيسد بهم تلك الفرج، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال..

ونحن نلاحظ هنا الأمور التالية:

أولاً: أنه يخاطب مماليكه بيا بُني، وكان يهدف إلى إعطاء النظرة الصحيحة للإسلام تجاه المماليك، وأنه يعتبرهم بمنزلة الأخوة والأبناء..

وأن الإسلام الذي يفرض على الإمام السجاد عليه السلام أن يعامل مماليكه معاملة يؤمنوه معها يختلف عن ذلك الإسلام الذي يدعيه الآخرون الذين يعتبرون الموالي أحقر وأذل من الحيوان.

وثانياً: أن كتابة إساءاتهم، ثم محاسبتهم عليها، وعتقهم حينه إنما يهدف إلى تربيتهم، وترسيخ ذلك في نفوسهم، ولاسيما حينما تطرح كقضية حاسمة في أسعد لحظات حياتهم: اللحظات التي ينالون فيها حريتهم، التي هي في الحقيقة هوية وجودهم..

فهم إذن قد نالوا أعز ما في الوجود من غير استحقاق .. وفي هذا ضغط نفسي من نوع معين، ليحاولوا الارتفاع بأنفسهم إلى درجة الاستحقاق والجدارة، ويبعث في نفوسهم روح العمل الجاد في سبيل التكامل في الفضائل الإنسانية، والالتزام بالتعاليم الأخلاقية الإسلامية..

وثالثاً: أن في ذلك يجعل له مكانة خاصة في نفوسهم والنظر إليه نظرة خاصة فيها كل الاحترام والتقدير، واعتباره نوعية أخرى، تختلف عما يعرفون ويعهدون، وهذا يؤهلهم في المستقبل إلى الاستماع إلى تعاليمه، واحترام آرائه التي هي تعاليم وآراء الإسلام، ثم السير على منهاجه وإتباع سلوكه.

ورابعاً: وإعطاؤهم المال في هذا الظرف بالذات.. فبالإضافة إلى إنهم يكونون عادة في أمس الحاجة إليه في هذا الظرف بالذات، حيث لا يملكون فيه من حطام الدنيا شيئاً، ويمنعهم بذلك من إتباع الأساليب الملتوية من أجل الحصول على لقمة العيش.. فبالإضافة إلى ذلك هو يؤكد على إنسانية تعاليم الإسلام، وأنه يعيش قضية الإنسان، ويتفاعل معها، ويهتم اهتماماً حقيقياً بحلها.. ولا يتاجر بآمال الناس وآلامهم وبكراماتهم كما هو شأن غيره ممن لم يعد أمرهم خافياً على أحد..

وخامساً: لقد كان من نتيجة هذه السياسة التي لا نجدها بهذا الشمول والسعة لدى غيره من الأئمة حتى علي عليه السلام.. لقد كان من نتيجة ذلك أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت عليهم السلام هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام، وكانوا مستعدين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف، ولا نعدم بعض الشواهد التي تظهر أن الموالي كانوا ينتصرون للعلويين إذا رأوهم تعرضوا لظلم أو لبغي من قبل السلطات.

وسادساً: وأخيراً: أن ذلك كان إدانة لمنطق الأمويين القائم على أساس تفضيل العربي وإعطائه كل الامتيازات، وحرمان غيره منها بكل صورة واعتباره أذل وأحقر من الحيوان حتى كان يقال: لا يقطع الصلاة إلا كلب أو حمار أو مولى، ومنعوهم من الإرث ومن العطاء ومن القضاء، ومن الولاية وإمامة الجماعة، ومن الوقوف في الصف الأول منها، واعتبر غير العربي ليس كفؤاً للعربي، وأباحوا استرقاقهم، ولا يسترق غيرهم.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.

وإذا لا حظنا أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم  شأن يذكر، ولا كان لهم حكم ولا سلطان، وإنما كان الحكام هم غيرهم.. فإن من الطبيعي أن ترضي هذه السياسة غرور العربي، الذي أصبح يرى نفسه حاكماً على ملك الأكاسرة وغيرهم، وذلك ربما كان يزيده عنفاً وغلواً في معاملته القاسية لغير العرب؟؟ ومن الجهة الأخرى.. فإن من الطبيعي أن يحس غير العرب بالغبن وبالمظلومية وعدم حفظ حقوقهم.. فكان هذا سبباً لتعاطفهم مع الدعوة العباسية التي تسببت في الإطاحة بالعرش الأموي.. وعلى الأخص حينما رأى غير العرب أنه لم ينصفهم ويعاملهم معاملة عادلة وحسنة إلا علي بن أبي طالب، ثم جاء السجاد وغيره من أئمة أهل البيت ليعلن رفض الإسلام لمنطق الأمويين هذا القائم على أساس التمييز العنصري البغيض، وأن هذا لا يمثل رأي الإسلام الصحيح، ولا ينسجم مع منطلقاته في التعامل والتفضيل القائم على أساس العمل فقط: ان أكرمكم عند الله أتقاكم، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.

فكان كل ذلك.. قد هيأ الأجواء لتعاطف غير العرب مع الدعوة ضد الأمويين ، كما أنه في نفس الوقت قد خفف من غلوائهم وحقدهم.. ولهذا فإننا لا نجد تطرفاً كثيراً في معاملة غير العرب للعرب حينما حكموهم في الدولة العباسية في فترات متعددة.. وأن كان للظروف الخاصة الأخرى أثر كبير أيضاً في هذا المجال..

وهكذا فإن علي بن الحسين قد قام بمهمة شاقة جداً وخطيرة جداً، مهمة بعث الإسلام في الأمة من جديد في حين أنه لم يكن يعترف بإمامته في وقت ما غير ثلاثة أشخاص وهيأ الظروف والأجواء وأعاد العلاقات والروابط والصلاة بين أهل البيت وبين الأمة رغم جهد الحكام المستمر والمستميت لقطعها، والقضاء عليها. نعم.. لقد قلب كل الموازين رأساً على عقب كما أوضحناه بأسلوبه الحكيم، والهادئ والرصين.. صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين..

من كتاب دراسات وبحوث في التاريخ والاسلام (بتصرف يسير)


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=268
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 02 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29