• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : الظاهر والباطن بلسان أهل الحقيقة والولاية .
                          • رقم العدد : العدد الواحد والثلاثون .

الظاهر والباطن بلسان أهل الحقيقة والولاية

 الظاهر والباطن بلسان أهل الحقيقة والولاية

الشيخ حسن بدران

تمهيد

يقوم علم الدلالة على العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، ويبحث في طبيعة الارتباط بين ما هو مادي تنتظم به الدلالة بوصفه دالا لفظيا أو كتابيا، وما هو ذهني بوصفه مدلولا ينطبق فيه المعنى على أشياء هذا العالم.

ويترتب على تشابك العلاقات الدلالية بين الدوال ومدلولاتها - سواء لجهة الوضع أو لجهة السياقات الحافة - اتساع حقل الدلالة داخليا وخارجيا، بحيث يشتمل على ما يتضمنه الوضع، ويستبطنه في طياته، أو يستلزمه بحسب الوعي الارتكازي العام لمنطق اللغة.

وعلى هذا النحو، تتوسط اللغة سياقات ذات طبيعة دلالية معقدة، بسبب من امتداد أشعة اللغة الى خارج الإطار الدلالي المرسوم فيما يشبه تمادي الخيال في التصوير الأدبي، فتظهر نتيجة ذلك ألوان من التأويل والرمز والمجاز في محاولة استيعاب وعاء اللغة لوقائع تتجاوز الشيئيات المألوفة في عالم الوضع، وتزيد من زخم الدلالة وتفاقمها وتعقيدها.

وإذا كان قدر اللغة ان تتناسل فيها الدلالات وتتشعب إلى أولية أو ثانوية، إلا أنه لا يصح أن تفتقد بذلك قدرتها على التوليد الدلالي مهما كانت طبيعة الحقل الشيئي الذي تعمل عليه، إلا أن تكفّ في نفسها عن كونها لغة، او تخرج عن إطار المواضعة اللغوية العامة.

ان ما يسوغ لظاهرة الباطنيات هو آفة القصور التي تعتري الفهم البشري إزاء الخطاب الذي يسعى بحكم الضرورة للامتلاء والاكتمال. وان ما يجعل من البطون لغة مرنة قابلة للتخاطب هو ضرورة استيعاب مراكمة الزمن في زخمه المعرفي والتنوع الشديد في الاذواق والافهام والحاجات بالمقدار الذي يمكن التعبير عنه في طبيعة النص المكتمل دلاليا والمتفاوت بالظهور والبطون.

في هذا المجال، تطرح ثنائية الظاهر والباطن في سياق البحث عن المسوغ الذي من شأنه أن يرمم المسافة الفاصلة بين ما هو ظاهر وما هو باطن على صعيد اللغة نفسها. الأمر الذي شهد تجاذبات حادة في الحقول العلمية المختلفة. وقد ظهر ميدانه البكر في النص القرآني الذي يشير الى الظاهر والباطن كصفتين من صفات الله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) الحديد: 3. او كوصفين للنعم الإلهية (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) لقمان: 20. واتخذت هذه الثنائية سبيلها الى التعبير الواسع من خلال النصوص الروائية، وتاليا على ألسنة علماء الاصول والفقه والتفسير. ومع ذلك، فقد تحرّز هؤلاء عن الخوض بعيدا في دلالات الباطن، واقتصروا في معناه على دلالات يمكن ملاحظتها في سياق العرف اللغوي العام، من قبيل نظرية اللوازم، أو نظرية المصاديق، أو نظرية التعميق؛ إذ يشير الباطن إلى لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ، وهي لوازم قد تقصر عقولنا عن ادراكها (الخراساني)، وقد يشار به إلى المصداق الذي ينطبق عليه المعنى العام المدلول للفظ القرآني (العراقي)، أو إلى ما قد يدرك من مناطات تتساوى فيها بالتأمل والتدقيق الأبعاد العميقة مع الأبعاد الظاهرية للنص (الطباطبائي).

ومهما يكن، فإن احتكام هؤلاء العلماء الى قواعد الألفة اللغوية في تناول قضية الظاهر والباطن هو أمر مشروع في حد ذاته، إلا أن تناول العرفاء لهذه الثنائية هو خارج إطار المواضعة والنص، وينتمي الى فضاء الوجود والشهود المعرفي بعامة دون أن يتقيد بالإثبات النصي ودلالته الخاصة، وما ذلك إلا بحكم طبيعة المنهج المتبع في العرفان النظري والذي يباشر المدلول الوجودي والشهودي للنص دون أن يشغل من قريب أو بعيد بكيفيات الاثبات العرفي وقواعده العامة. ومع ذلك، نجد من الصعوبة بمكان أن نتلقف الدلالات الصوفية والعرفانية في كافة ابعادها في إطار هذا العرض السريع، إلا أن نقتصر على جانب من العرفان النظري مما يرتبط تحديدا بثنائية الظاهر والباطن والاطلاق والتقييد في معالجة مقولات من قبيل الحقيقة والشريعة والولاية والنبوة وما إلى ذلك من أدوات منهجية ومعرفية مكثفة وبقدر ما أتيح لنا فهمه، وهو شيء لا يعتد به بإزاء واقع الحال.

 

الظاهر والباطن بلسان أهل الحقيقة والولاية

تحدث العرفاء عن نوعين من أنواع العمل الإنساني، أحدهما هو العمل الظاهري الذي يمارسه الانسان في حياته الاعتيادية، وهذا العمل يصدر عنه من الجهة الخلقية حسب تعبيرهم، بأن يندفع اليه الانسان بدافع الغريزة وجلب المنافع ودفع المضار. والآخر هو العمل الباطني والذي هو أساس وجوهر العمل الظاهري، غاية الأمر أنه ينبع من نوايا الانسان وضميره وروحه وايمانه بربه، أي يصدر عنه من الجهة الحقية. وهذا يعني ان واقع الانسان متفاوت؛ فهو يتجاوز البعد الطبيعي الأرضي الى بعد من نوع أسمى؛ ويحتوي على جهات باطنية إلى جانب الجهات الظاهرية.

ولأن الجهة الباطنية أشرف وأكمل وأكثر تعبيرا عن جوهر الانسان وحقيقته من الجهات الطبيعية والظاهرية، من هنا، كانت قيمة العمل إنما هي بالجهة الباطنية، أي التي يكون فيها للحق تعالى. يقول الامام الخميني (ره): " إن كمال عمل الأولياء (عليهم السلام) إنما كان بواسطة الجهات الباطنية، وإلا فصورة العمل ليست لها الأهمية الكثيرة، فإن نزول عدة آيات من السورة المباركة: (هَلْ أَتَى) [ 76: 1 ] مثلا في مدح علي (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين ليس بسبب إعطاء قرص من الخبز وإيثارهم به، بل كان للجهات الباطنية ونورانية صورة العمل، كما أشار إلى ذلك في الآية الشريفة حيث يقول: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) [ 76: 9 ] " [1]. وعليه، إن لكل انسان جهة إلى الخلق، وجهة إلى الحضرة الالهية: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [ 2: 148 ].

وقد تحدثوا عن الجهة الباطنية باعتبارها مؤشرا الى الحقيقة ورمزا عليها، والحقيقة الوحيدة الناصعة في المتن العرفاني هي الله، وهي تحديدا أسماء الله وصفاته التي تشير الى الذات المكتنزة، وكل الحقائق الأخرى تستمد حقيتها من انتسابها إلى عالم الأسماء والصفات الإلهية "من عرف نفسه عرف ربه"، فإن معرفة النفس تقود الى معرفة الرب من جهة كونها وسيلة لا غاية؛ والانسان يسير الى الله في مسير نفسه التي هي طريقه وباطنه، وبهذا تميز العرفان الإسلامي عن سائر الروحانيات الأخرى والتي تدور حول معرفة النفس لذاتها، أو معرفة الحقيقة الكلية في شكلها الكلي والعام.

أما النفس وفق المبنى العرفاني فإن معرفتها وحصول الكمالات لها يرجع الى فناءها في الحق وبقائها به، فإذا تخلقت بأخلاق الله وتحققت بأسمائه وصفاته، تشهد حينئذ الحق في مظاهر الخلق، وهذا هو مقام الولاية الذي يصحح النسبة؛ بأن يصير العمل صادرا عن الانسان من الجهة الربانية لا البشرية.

وللولاية شكلها المكتمل والذي هو الولاية المطلقة؛ والفناء والبقاء في الولاية المطلقة حاصلان بحسب الباطن أزلا أبدا، من هنا قالوا: ولا بد أن يصير الفاني بهذا الفناء مظهرا لأسماء الله بإطلاقها.

وقد صاغ العرفاء نظرية الظاهر والباطن على أساس التقييد والاطلاق، فالمطلق ظاهر في المقيد، والمقيد متقوم بالمطلق الذي هو حقيقته وباطنه.

 

الظاهر

الولاية صفة إلهية وشأن من الشؤون الذاتية، تظهر كل يوم في شأن من شؤونه، وفي كل مظهر بنعت من نعوته، واختلاف الظهورات لا يقدح بوحدة الحقيقة؛ فقد نتعقل معنى من المعاني بصورة عقلية مجردة، ثم نتخيله بصورة مقدارية جزئية، ولا يختلف المعنى باختلاف ظهوراته الخيالية والعقلية... وكذلك الولاية في مظاهرها وتجلياتها؛ إذ كلهم نور واحد، وحقيقة واحدة " أولنا محمد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد، وكلنا محمد " [2].

وقد جعل بعض العرفاء مراتب الشرع الذي هو الدين القيّم على ثلاث مراتب، هي الشريعة والطريقة والحقيقة. وكان نظرهم متمحورا حول جانب الحقيقة، لهذا عدوا الشريعة ظاهرا للطريقة، والطريقة ظاهرا للحقيقة، والحقيقة هي الباطن. وعبروا عنها بالولاية، وهذه الحقيقة – الولاية - هي باطن الشريعة والنبوة. والمقصود بالنبوة هنا هو إخبار عما تحكيه الحقيقة في مظاهرها، وليس هي بالضرورة إخبار عما تحكيه الحقيقة من أحكام وتشريعات. فإذا كان لأهل الكلام والفقه والتاريخ أن يتتبعوا مظاهر النبوات بوصفها عقيدة وشريعة وسيرة، فإن للعرفاء أن يتعقبوا جوهر النبوة بوصفها حقيقة كلية.

والانبياء مخولون بالإعلان عن الحقيقة اعلانا ذاتيا بحكم ما لهم من مقام القرب المعبّر عنه بالولاية، وهو التحقق بالحق، والتخلق بأخلاق الحق، وشهود الحق في مظاهر الخلق. كل هذا مع التأكيد على أن الحقيقة بهذا الاعتبار ليست سوى تجل ومظهر، وليست هي الحقيقة المجهولة في ذاتها. وبالتالي، فإن الاعلان عن الحقيقة هو اعلان عن ذواتهم من حيث هي مجلى الحقيقة ومظهرها.

وإلى الحقيقة النبوية الكلية، ترجع جميع الحقائق الكلية الثابتة في جميع الاديان والنبوات، وكذلك تقدير تنزلاتها المختلفة في سياق التاريخ وبحسب اقتضاء المصالح وتفاوتها، فهي النبوة بنحو الاطلاق، والتي تكمن – بنظر العرفاء – وراء جميع النبوات الظاهرة.

وهذه النبوات ترتبط بالنبوة المطلقة ارتباط المقيد بالمطلق، فكما أن مرجع المقيد إلى المطلق؛ كذلك مرجع جميع النبوات إلى هذه النبوة المطلقة، وما النبوات الممتدة في سياق التاريخ إلا ظهورات متنوعة لتلك الحقيقة الواحدة.

من هنا ذهبوا الى أنه قبل النبوات المقيدة توجد نبوة حقيقية مطلقة، وأن هذه النبوة المطلقة إنما تظهر في النبوات المقيدة، فكما أنه لا يوجد للماء سوى حقيقة واحدة، هي الحقيقة المائية ذاتها. وإنما تظهر الحقيقة المائية في البحر والنهر والجدول والساقية، فيتميز البحر بسعته وملوحته، والنهر بجريانه، والجدول بمحدوديته في المكان، وكل هذه التمايزات لا تنتمي الى الحقيقة المائية ذاتها، وإنما هي قيود دخيلة طارئة، فإذا تجرّد الماء عن العوارض والقيود الدخيلة، فليس هناك سوى ذات الماء وحقيقته المطلقة، كذلك النبوة واحدة، مطلقة. وتجلياتها في التاريخ هي ظهورات تلك النبوة.

ويرى العرفاء أن التواصل مع الحقيقة النبوية المطلقة، انما يتم بواسطة النبوات التي تجلت عبر التاريخ والتي هي قيود ومظاهر النبوة المطلقة. وليس المراد بالنبوات - في اصطلاحهم - هو نبوات التشريع خاصة، أو نبوات الوحي فحسب، بل تشمل النبوة كل إخبار عن الحقائق الالهية ومعرفة ذات الحق وأسمائه وصفاته وأحكامه. وهو ما يعبر عنه بالسفر في عوالم الانسان، وحقائق الوجود، وملكوت السماوات والارض، فإن الحق يتجلى فيها بوصفها مظاهره التي هي عين الفقر والتعلق به تعالى.

ومع ذلك، يؤكد العرفاء على أن الاتجاه التصاعدي الذي اتبعته النبوات عبر التاريخ، ما هو في الواقع سوى سير واقتراب من المقيد الى المطلق، ومن الظاهر الى الباطن، ومن الشريعة الى الحقيقة، ومن البدء الى الختم. وحين نصل الى نقطة الختم تزول الحدود الفاصلة بين البدايات والنهايات، ويحصل الإنباء المطلق؛ وما ذلك إلا لأن النهايات عين البدايات، وأن الحقيقة المطلقة لا ينبئ عنها إلا لسان النبوة المطلقة.

وينظر بعض العرفاء الى نبوة موسى (عليه السلام) على أنها مظهر الجلال وشريعة الجسد، وإلى نبوة عيسى (عليه السلام) على أنها مظهر الجمال وشريعة الروح، وهذا النحو من الانباء الذي لهما هو جوهر نبوتهما. وهو إنباء عن الحقيقة المطلقة من جانب دون آخر. بينما ينظر إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) على أنها المظهر الجامع للجمال والجلال، فختم بنبوته جميع مراتب الظهور، وأوتي جوامع الكلم، وكانت أمته أمة وسطا.

ومع أن نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) هي نبوة مقيدة بحسب الزمان والمكان وظرف الاجتماع، إلا أنها كانت موازية للنبوة المطلقة بحسب الختم في امتداد سائر النبوات. وهو ختم الكمال فضلا عن ختم الزمان، فشكّلت نبوته اللبنة الاخيرة في جدار النبوة.

وعليه، فالتعريف بالحقيقة، والإنباء عنها، هو في اساس النبوات، وحيث ان الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فلا يمكن التعريف بالحقيقة المطلقة والانباء عنها بنحو الاطلاق إلا من خلال النبوة المطلقة " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " [3]. أو ما في حكمها " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة... " [4].

 

الباطن

الولاية باطن للنبوة، باعتبار أن نسبة الولاية إلى النبوة كنسبة الحقيقة إلى الشريعة، والشريعة لا تكون إلا لمن اطلع على الحقيقة، فلا يمكن الوصول لأحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية إلا بالولاية.

والولاية هي الجهة التي يأخذ منها النبي الفيض من الله تعالى، ولولا هذه الجهة لم تكن جهة النبوة. والأنبياء لكونهم مظاهر الولاية المطلقة وسائر الفيوضات الإلهية، صاروا قبلة للناس وانجذب الناس إليهم. كما أن متابعة الولي في التأويل هي عين متابعة النبي في التنزيل، والاختلاف بينهما لا يعدو الظاهر والباطن، فالشريعة ظاهر النبوة، والولاية باطنها.

وكذلك النبوة المطلقة هي من لوازم الولاية المطلقة، وحيث إن الولاية صفة الهية، فتكون النبوة المطلقة بهذا الاعتبار صفة الهية " يا من دل على ذاته بذاته " [5]. وإن لم يطلق على الله تعالى اسم النبي، ولا يجري عليه اسم غير الأسماء التي وردت في لسان الشريعة؛ فإن أسماء الله توقيفية [6].

فالنبوة والولاية توأمان يثبتان له (صلى الله عليه وآله) بلحاظ الواقع ونفس الأمر، ولا يقبلان الزوال ما دام لله تعالى عناية في الخلق، وله تعالى ظهور فيه. فان اطلاع النبي المطلق على الاستعداد الذاتي في جميع الموجودات، وإعطاء كل ذي حق حقه من حيث الإنباء الذاتي، ناشئ بالضرورة من حصول مجموع الكمالات له بحسب الباطن. فجهة نبوته المطلقة ناشئة من جهة ولايته المطلقة، وجهة ولايته المطلقة هي الباطن لها.

والولاية المطلقة عبارة عن حصول الكمالات. وهو تعريف باللازم، اذ يلزم من حصول الفناء والبقاء والتحقق بالوجود الحق، حصول الكمالات كما لا يخفى.

وأما اطلاقها؛ فلاحتوائها على مجموع الكمالات من حيث كمال القابلية، وعلى مجموع الازمنة ازلا وابدا. وما كان كذلك فهو من شؤون الباطن والحقيقة. لذلك، فالولاية صفة إلهية، ليس لها حد محدود، ولا نعت موجود، بل هي مطلقة وعامة.

إلا أن الولاية تقتضي الظهور، أي الانتقال من دائرة وحدة الذات الى دائرة كثرة الاسماء والصفات، حيث تتوالد الاسماء وتتكاثر جراء اقتران الصفات بالذات على ما تقدم، وإنما كان الظهور الأول للولي المطلق لاشتماله على مجموع الكمالات.

وهذه الولاية هي اقتدار النفس على التصرف في مادة الكائنات تكوينا هي باطن الخلافة، وهي المقام المسمى بمقام " كن ". والى هذه الخلافة يشير الامام الخميني (ره) بقوله: " هذه الخلافة التي سمعت مقامها وقدرها ومنزلها هي حقيقة الولاية، فان الولاية هي القرب أو المحبوبية أو التصرف أو الربوبية أو النيابة " [7].

ويمكن ملاحظة عدة اعتبارات لتفسير كون الولاية باطنا للنبوة.

منها: إن السالك الى الله تعالى في سفر الولاية، يتخلق بأخلاق الله تعالى ويتحقق بأسمائه وصفاته، ويصير مظهرا لأسماء الله تعالى وصفاته، فيصدر عنه ما يصدر عن الرب من الآثار، وبذلك يكون السالك مظهرا للاسم الولي الذي هو من أسماء الله تعالى، وتكون له ولاية التكوين، ويطلع على حقائق عالم الانسان وملكوت السموات والارض وينبئ عن الأسماء والصفات. فإذا أمر بالتبليغ يكون نبيا بالتشريع. وعليه، فالنبوة إنما تحصل من جهة الولاية، ونسبة الولاية إلى النبوة كنسبة الحقيقة إلى الشريعة، ولا تكون الشريعة إلا لمن اطلع على الحقيقة، ولا يمكن الوصول لأحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية إلا بالولاية. فالولاية باطن النبوة وأصلها وجذرها.

وبتعبير آخر، إن للنبي وجهتان: وجهة إلى الله تعالى؛ بها يأخذ الفيض من الله تعالى، وهي جهة القرب والولاية. ووجهة إلى الخلق بها يقوم بتبليغ الخلق كلام الحق، وهي جهة الانباء والنبوة. ولولا جهة الولاية لم تكن جهة النبوة، فالأنبياء لكونهم المظاهر التامة للولاية المطلقة وسائر الفيوضات الإلهية، صاروا قبلة للناس وانجذب الناس إليهم.

ومنها: أنه لا يمكن الوصول الى الحقيقة إلا باتباع الشريعة؛ ذلك أن النبوة هي أحكام الشريعة والنواميس الالهية، والولاية إنما تحصل بالعمل بهذه الاحكام والنواميس الالهية. فتكون النسبة بين النبوة والولاية هي النسبة بين الظاهر والباطن. فالدين هو ظاهر الولاية باعتبار أن السبيل للوصول الى الولاية هو اتّباع تعاليم النبوة: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [ 3: 31 ]، (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [ 4: 80 ]، وإليه أشار القرآن الكريم بلفظ الدخول في قوله تعالى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [ 89: 29 - 30 ]؛ لأن الدخول بحسب المعنى في عباده المخلصين الذين هم الأولياء والاوصياء هو شأن مَن اتبع الرسول، فاذا انقلبت الظواهر بواطن والبواطن ظواهر فلا اعتبار حينئذ بالنسب والصور والقرابة المجازية لقوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [ 80: 34 - 36 ]. فتكون أفضلية الباطن حينئذ باعتبار أكملية الغاية من ذيها؛ فإن النبوة اسم ظاهر تتعلق أحكامها بالتحلية، والولاية اسم باطن يفيد التجلية، ومن الواضح أن التحلي الحاصل باتباع الشريعة، هو من مقدمات التجلي بالحقيقة.

ومنها: أن باطن النبوة هو الولاية؛ باعتبار أن النبوة ظاهرة في التنزيل، والولاية باطنة في التأويل. أي باعتبار الوظيفة الموكلة لكل من النبي والولي؛ فإن التنزيل يفترض الظهور في البعد الزمني والكوني، والتنزل الى عالم التفصيل، ويرتبط بعالم الخطاب اللفظي، والامتثال العملي " صلوا كما رأيتموني أصلي " [8]. وأما التأويل فيقتضي رد الفروع المتكثرة إلى أصول الحقائق المحكمة، وصيرورة الانسان ناطقا بالحقائق بلسان الحال لا المقال.

ومتابعة الولي في البيان والتأويل هي عين متابعة النبي في التنزيل والتشريع، لا يختلفان إلا ظاهرا وباطنا، ولذلك قالوا أنه عند انقطاع نبوة التشريع باتمام دائرتها، وظهور الولاية من الباطن، انتقلت القطبية الى الأولياء مطلقا، فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم قائم في هذا المقام؛ لينحفظ به هذا الترتيب والنظام. قال سبحانه: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) [ 13: 7 ]، وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) [ 35: 24 ]. فإذا انقطع الظاهر، بقي الباطن. وما ذلك إلا لأن الباطن حق، والحق لا يزول، وأما الظاهر فهو خلق، والخلق يزول. فالولاية جهة الحق، والنبوة جهة الخلق. والنبي من جهة الخلق مشرع، ومن جهة الحق ولي؛ فالشريعة ظاهر النبوة، والولاية باطنها؛ من هنا قالوا أن الولاية باطن النبوة؛ ولا يمكن لأحد من الأنبياء وغيرهم الوصول إلى الحضرة الإلهية إلا بالولاية.

 



[1] سر الصلاة، الامام الخميني، الطبعة الاولى، 1995 م، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني، طهران، الصفحة 70 - 71.

[2] بحار الأنوار، المجلسي، الجزء 25، الطبعة الثالثة، 1983 م، دار احياء التراث العربي، بيروت، الصفحة 363.

[3] عوالي اللئالي، ابن ابي جمهور، الجزء الرابع، الطبعة الأولى، 1985 م، تحقيق مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، قم، الصفحة 121.

[4] أصول الكافي، الشيخ الكليني، الجزء الأول، تحقيق على أكبر غفاري، الطبعة الخامسة، دار الكتب الاسلامية، طهران، الصفحة 58.

[5] بحار الأنوار، المجلسي، الجزء 84، الطبعة الثالثة، 1983 م، دار احياء التراث العربي، بيروت، الصفحة 339.

[6] مصباح الهداية، الامام الخميني، المصباح 52.

[7] مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، الامام الخميني، الصفحة 73 - 74.

[8] الانتصار، الشريف المرتضى، 1415، مؤسسة النشر الاسلامي، الصفحة 151.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=779
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 12 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 19