• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الامام الكاظم  عليه السلام خلق ومنهجية .

الامام الكاظم  عليه السلام خلق ومنهجية

الامام الكاظم  عليه السلام خلق ومنهجية

يصادف الخامس والعشرون من شهر رجب ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر (ع) والتي كانت سنة 183هـ، وهو في الخامسة والخمسين من عمره.

والإمام الكاظم(ع)  هو السابع من أئمة أهل البيت ، وقد ولد سنة 128هـ، أواخر الدولة الأموية،التي انهارت سنة132هـ على أيدي العباسيين..

نشأ وتربى في ظل أبيه الإمام جعفر الصادق (ع) ، والذي أتاحت له الظروف آنذاك القيام بحركة علمية كبيرة، مستغلاً ضعف الدولة الأموية الآفلة، والدولة العباسية الناشئة، فاهتم بتربية الكفاءات العلمية في مختلف التخصصات، حتى بلغ عدد تلامذته والرواة عنه أربعة آلاف، حسب ما ذكر العديد من المؤرخين.

في هذه الأجواء العلمية عاش الإمام موسى الكاظم(ع)  مع أبيه الإمام جعفرالصادق (ع) عشرين سنة فآلت إليه الإمامة الدينية. وتحمل أعباءها لمدة خمسة وثلاثين عاماً.

لكن الإمام واجهته المتاعب والضغوط من قبل الحكم العباسي، الذي توطدت أركانه، إلاّ أنه واصل القيام بمسؤولياته الدينية والعلمية إلى أقصى حد تسمح به الظروف، وبلغ عدد من ذكره المؤرخون من تلامذته والراوين عنه 319 شخصا.

الكاظم

من الطبيعي أن يتصف الإمام الكاظم(ع) بمختلف صفات الفضل والكمال، فهو من أهل بيت قد اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وقد تحدث معاصروه، ومن قرأ سيرته من العلماء والمؤرخين، عن ما تجسّده شخصيته من مثل عليا، وقيم سامية، حتى أصبحت بعض مكارم أخلاقه لقباً له، وعلماً عليه.

ومن اشهر ألقابه التي يعرف بها: الكاظم . قال ابن حجر الهيتمي: «موسى الكاظم: وهو وارث «الإمام جعفر الصادق» علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سمي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه، أعلمهم واسخاهم»

ابن الاثير: «إنه عرف بهذا اللقب لصبره، ودماثة خلقه، ومقابلته الشر بالإحسان»

كظم الغيظ

كظم الغيظ صفة أخلاقية هامة تحدث عنها القرآن الكريم : ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران آية 134

والكظم لغة مصدر قولهم: كَظَمَ يَكظِمُ تدل على معنى الإمساك والجمع للشيء، ومن ذلك الكظم للغيظ الذي يعني: اجتراع الغيظ والإمساك عن إبدائه، وكأنه يجمعه الكاظم في نفسه.

جاء في لسان العرب: الغيظ: الغضب، وقيل هو أشد منه، وقيل: هو سَورَتُه وأوله

يقال: كظم فلان غيظه، إذا تجرعه فحفظ نفسه أن تُمضي ماهي قادرة على إمضائه، باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها.

فحينما يواجه الإنسان إساءة تزعجه، أو تصرفاً يؤذيه أذى بالغاً من جهة ما، فينفعل نفسياً، ويمتلأ قلبه ألماً وغضبا، لكنه يسيطر على انفعالاته، ويكتم مشاعره الثائرة، فلا يبدي ولا يظهر أي رد فعل انتقامي، بل ولا ينعكس غضبه حتى على قسمات وجهه، أو ألفاظ لسانه. هذا المستوى من الإرادة والتحكم وضبط الأعصاب، يطلق عليه كظم الغيظ.

ولا يصل الإنسان إلى هذه القمة الأخلاقية السامقة، إلا بدرجة متقدمة من الوعي، والنضج والتهذيب النفسي. حيث أن الطبيعة الأولية للإنسان تستجيب للمثيرات، وتندفع للانتقام، وتقع تحت تأثير الغضب والانفعال.

رسول الله (ص):« من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة

إن كظم الغيظ يدل على قوة الإرادة، وقدرة السيطرة على النفس، وتلك أهم من قوة العضلات.وفي رواية ان النبي (ص) مر بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال :«أفلا أدلكم على من هو أشدُّ منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه.

الكاظم في أخلاقه

لقد جسد الإمام موسى بن جعفر(ع)  هذا الخلق الرفيع في سيرته وحياته، حتى اصبح لقباً له مصاحباً لإسمه، ويذكر المؤرخون العديد من الشواهد والمواقف، التي ضرب الإمام موسى الكاظم(ع) فيها أروع الأمثلة والنماذج على كظم الغيظ، في تعامله الشخصي مع الآخرين، وكانت نتيجة ذلك التعامل في الغالب التأثير في أولئك المسيئين وتحويلهم إلى محبين.

في أول اعتقال للإمام من قبل الخليفة هارون سنة 179هـ حمل الإمام من المدينة إلى البصرة، وأودع في السجن، تحت إشراف عيسى بن أبي جعفر، والذي كان بحسب وظيفته، وأوامر السلطة، يضيّق على الإمام في سجنه، لكن تعامل الإمام معه بلطف واحسان، وما رآه من سيرة الإمام، وصدق أحاديثه وتوجيهاته، ولمدة سنة كاملة أوجدت تحولاً في موقفه فاصبح يظهر للإمام كل احترام وتقدير، وأخيرا اعتذر للخليفة هارون عن تنفيذ مهمة اغتيال الإمام أو الاستمرار في سجنه، وكتب الرسالة التالية: «يا أمير المؤمنين، كتبت الي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فان رأى أمير المؤمنين أن يعِفيني من أمره،أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله،فاني منه في غاية الحرج .

وحينما اعتقل الإمام للمرة الأخيرة في سجن السندي بن شاهك في بغداد، والذي عانى الإمام فيه الكثير من الأذى والتنكيل، لكن ذلك لم ينعكس على تعامله مع المحترفين لإيذائه، وكان أحدهم يقال له بشار، وهو مولى لمسؤول السجن السندي بن شاهك، وكان بشار هذا من اشد الناس بغضاً لآل أبي طالب، وكان يبالغ في إيذاء الإمام، لكن الإمام كان يتحمل إساءاته وتنكيله دون أن يقابله حتى بلفظة نابية، أو نظرة قاسية، وبعد فترة من الزمن تغيرّت شخصية بشار، واصبح من المحبين والموالين للإمام.

الإمام الكاظم (ع) في منهجيته

وربما يكمن السبب الاهم لاطلاق لقب الكاظم على الإمام موسى بن جعفر(ع)  ، والتفسير الادق يكمن في طبيعة المنهجية التي اتسمت بها سيرة الإمام، وطريقة تعامله مع الظروف السياسية التي احاطت به.

فقد تحمل أعباء الإمامة لخط أهل البيت  في ظروف بالغة الحساسية والصعوبة، حيث تركزت السلطة في أيدي العباسيين، وكانوا في أوج قوتهم السياسية والاقتصادية،.. وقد دانت لهم البلاد، وخضع لهم العباد.

من جانب آخر فإن العلاقة بين الحكم العباسي والعلويين كانت متوترة متشنجة، لأن العلويين كانوا شركاء العباسيين في الثورة على الحكم الأموي، بل كانت الشعارات والدعوة باسمهم، وكانوا هم المرشحين لاستلام الحكم، بموجب مؤتمر (الأبواء) الذي اجتمع فيه زعماء هاشميون من علويين وعباسيين، واتفقوا على مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن ، وممن تقدم لمبايعته السفاح وابو جعفر المنصور اللذان توليا السلطة فيما بعد، وتجاوز العباسيون العلويين وتجاهلوهم وانفردوا بالحكم فاصبحوا حذرين من العلويين، يتوقعون منهم ردّ فعل مناوئ، ولتوقي اية مضاعفات محتملة من قبل العلويين تجاه الحكم العباسي، بدأ العباسيون حملة من الضغوط والتضييق على منافسيهم وابناء عمهم العلويين، نتيجة لهذا الواقع ولهذه الضغوط تفجرّت بعض الثورات من قبل العلويين،كثورة محمد بن عبدالله بن الحسن، وثورة أخيه ابراهيم، في عهد المنصور، وثورة فخ الشهيرة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن، في عهد موسى الهادي.

والإمام موسى بن جعفر (ع) رغم أنه لم يشارك في أي من ثورات العلويين وانتفاضاتهم، لكن السلطة العباسية كانت حذرة قلقة من وجوده، لما يمثله من موقعية روحية دينية عظيمة الشأن.

لذا اتجهت الانظار إلى ائمة اهل البيت ، باعتبارهم الامل في تصحيح واقع الامة وانقاذها. ونتيجة للنهضة الفكرية الثقافية الواسعة التي قادها الامامان الباقر(ع)  والصادق (ع) انتشرت المفاهيم والمعارف التي تتبناها مدرسة اهل البيت (ع) ، والتي تمثل مبادئ الإسلام الحقة، ومناهجه الاصيلة، المنبثقة من الكتاب والسنة والنقية من الاهواء والتأثيرات السياسية والمصلحية. كما أن التميز الواضح في شخصيات ائمة اهل البيت علماً وتقوى واخلاقاً،جعل افئدة الناس تهوي اليهم.

لكل هذه الاسباب كان خط اهل البيت(ع)  في تقدم ونمو مطرد، وخاصة في عهد الإمام موسى بن جعفر(ع) ، حتى وصل بعض الموالين لأهل البيت إلى مناصب ومواقع حساسة في جهاز الدولة، نتيجة لكفائتهم المتميزة، ولتشجيع الإمام  الكاظم (ع)  لهم، من اجل أن ينقذوا ما يمكن انقاذه من المصالح العامة، وليكونوا عوناً للضعفاء والمؤمنين كعلي بن يقطين الذي أصبح وزيرا في عهد المهدي ثم في عهد هارون .

ومن مظاهر تقدم خط اهل البيت في تلك الفترة، المبالغ الطائلة التي كانت تبعث للإمام من مختلف الامصار، كزكاة وخمس، يقول يونس بن عبد الرحمن: مات موسى بن جعفر وليس من قوّامه احد إلاّ وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته، طمعاً في الاموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن ابي حمزة ثلاثون ألف دينار

إن خط اهل البيت لم يعد مقتصراً على الحجاز والعراق، بل اتسعت رقعته إلى إيران ومصر والمغرب وسائر البقاع. يقول أحدهم محرضاً لهارون الرشيد ضد الإمام  الكاظم (ع) : ما ظننت أن في الارض خليفتين حتى رأيت موسى بن جعفر يسلّم عليه بالخلافة، وأن الاموال تحمل اليه من المشرق والمغرب .

اشتداد الضغوط على الإمام(ع).

 تعرّض الإمام الكاظم (ع) لضغوط كبيرة قاسية أكثر من سائر ائمة اهل البيت ، فقد اعتقل خمس مرات، لمدد متفاوتة، قد يصل مجموعها إلى سبع سنوات، ووضع تحت الاقامة الجبرية في بعض الفترات. كما عانى في بعض السجون تنكيلاً واذى رهيبا يتمثل في تقييده بالقيود والاغلال الثقيلة من الحديد، وفي جعله في سجن مظلم ضيق، وتسليط جلاوزة حاقدين عليه.

كما كانت الرقابة شديدة عليه ترصد حركاته حينما يكون خارج السجن، اضافة إلى الضغط النفسي الكبير الذي يعانيه بسبب اضطهاد العلويين من اسرته ومطاردتهم. كل هذه الضغوط كانت تدفع باتجاه أن يعلن الإمام (ع)معارضته للحكم العباسي، وان يتحرك لمواجهته، دفاعاً عن نفسه وحريته، ولوضع حد لمعاناة اسرته العلوية واتباعه الموالين ولم تكن تنقص الامام الشجاعة والجرأة، وماكان يشكو من قلة الاتباع، لكنه كظم غيظه، وقاوم الضغوط المتوجهة اليه، من اجل ان لا يعطي الفرصة للسلطة لتشن حرب ابادة ضد اتباع خط اهل البيت، وحتى لا تتأزم الامور اكثر فتحدّ من نمو التشيع وتقدمه واتساع رقعته.

فالإمام ليس طامحاً للسلطة، ولا طامعاً في الحكم، إنه صاحب رسالة، يفكّر من خلال مصلحة الرسالة والامة، ويتجرع الغيظ، وينطوي على الالم، ويتحمل المعاناة، لكنه لا يضحي بالمصلحة العامة، استجابة للانفعال, وطلباً للانتقام.

وهنا يتجلى كظم الغيظ كمنهجية عمل، وكسياسة دعوة،وكخطة تحرك، وبهذه المنهجية، بقي خط اهل البيت(ع). مدرسة اصيلة في فهم الاسلام يتحدى الضغوط، ويتجاوز العقبات، ويبشّر بغدٍ مشرق للاسلام والعالم.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1076
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 03 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28