معرفة أهل البيت عليهم السلام.. حفظة سر الله
آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي حفظه الله
كلمة "حفظة" جمع "حافظ" مشتقة من المادة "حفظ"، على وزان كتبة وكاتب، طلبة وطالب، و "الحفظ" بمعنى حياطة الشيء من الضياع والتلف، والمحافظة هي المراقبة.
وكلمة "السر" تقابل كلمة "الإعلان" والسر هو ما يكتم من الأمور.
علماء الأسرار:
إن في مراحل الخلقة المختلفة حقائق مستورة، ينكشف بعضها بالحواس الظاهرة أو بالتفكر، بينما لا ينكشف الكثير منها لا بالحواس ولا بالتجربة، ولا بالعقل والتدبر، وهي أسرار نظام الوجود، التي قد يحمل كل موجود من موجودات العوالم المختلفة بعضاً منها، وربما لا يعلم هو نفسه بوجود سر فيه.
وليس يخفى أن للذات الإلهية علماً حضورياً بمجموعة نظام الوجود، لذا فهو سبحانه عالم بكل الأسرار، ومنها ما هي خاصة به تعالى، لأنها في الحقيقة حريم الواجب الباري، وليس لأحد من سبيل للعلم بها، مثل العلم بذاته تعالى وخصوصياتها.
ومنها ما يُطلع عليها تعالى عباده الأخيار، وأهل بيت الرسول الأكرم(ص) هم أكثر الخلق نصيباً منها. قال أمير المؤمنين(ع): بل اندمجتُ على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.
وحفظ كل شيء بما يناسبه، فالمال يحفظ بأن يوقى من التلف والضياع، والأمانة تحفظ بترك خيانتها وجحودها، والصلاة تحفظ بأدائها في أوقاتها، والقسم والعهد يحفظان بالوفاء والبر بهما.
معنى حفظ الأسرار:
لحفظ الأسرار معنيان:
الأول: القدرة على الفهم والتحليل وشرح المعارف والأسرار الجليلة، والتسليم بها واحتمالها، قال الإمام الباقر عليه السلام: إن حديثنا صعب مستصعب، أجرد ذكوان، وعر شريف كريم، فإذا سمعتم منه شيئاً ولانت له قلوبكم فاحتملوه واحمدوا الله عليه، وإن لم تحتملوه ولم تطيقوه فردوه إلى الإمام العالم من آل محمد(ص)..، وقال أيضاً: إن أمرنا صعب مستصعب على الكافرين، لا يقر بأمرنا إلا نبي مرسل، أو ملك مقرب، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
وقال العلامة المجلسي معقباً: لعل المراد الإقرار التام الذي يكون عن معرفة تامة بعلو قدرهم.
وفي رواية أخرى قال الإمام: حديثنا صعب مستصعب، لا يؤمن به إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
ويشهد لهذا الفهم حديث رواه جابر عن الإمام الباقر(ع)، قال: فإذا ورد عليك يا جابر شيء من أمرنا فلان له قلبك فاحمد الله، وإن أنكرته فرده إلينا أهل البيت، ولا تقل: كيف جاء هذا؟ وكيف كان وكيف هو؟ فإن هذا والله الشرك بالله العظيم.
وبدون هذه القدرة على الاستيعاب والتحليل، وبدون هذا التسليم، ربما يكون حاله كحال أبي ذر الذي جهل بعلم سلمان، ولو علم ما في قلب سلمان لقتله، كما في رواية عن الإمام السجاد عليه السلام. وربما صار إلى ما صار إليه النبي موسى عليه السلام، حينما اعترض على معلمه الخضر عليه السلام، فحرم من دوام متابعة ذلك العبد الصالح.
وفي الرواية أن الأصبغ بن نباتة ذكر لميثم التمار حديث: إن حديثنا أهل البيت صعب مستصعب..، فذهب ميثم من فوره إلى امير المؤمنين عليه السلام ليعرف معنى هذا الكلام، فذكر له أمير المؤمنين عليه السلام ما كان من قصة جهل الملائكة بسر خلق آدم، وجهل النبي موسى عليه السلام بسر صنيع الخضر، مع أنه من أولي العزم من الرسل وصاحب شريعة، لكنه لم يعلم السر فلم يسطع صبراً.
الثاني: الحذر من إذاعة الأسرار ونشر المعارف الإلهية بلا ضابطة وحساب، ومعرفة فن الجواب المناسب لطالبيها، لأن لكل شيء نفيس طلاباً كثراً، لا سيما إن كان خافياً وبعيداً عن متناول اليد، ولكن ليس كل طلابه عارفين بقيمته الواقعية، ومن الممكن أن يضيع ويذهب هدراً إذا ما صار في متناول الأيدي وأسيئت الإفادة منه، وعلاوة على هذا ربما خلقوا المصاعب لهم أو لغيرهم.
إن المتقي الأمين هو من يعرف القيمة الواقعية للأمانة المؤتمن عليها، ويعرف طالبيها الحقيقيين، ويجيب طلب كل فرد منهم بما يناسب حاله، فالتقوى والأمانة توجبان عليه السكوت في بعض الحالات، بل وعدم الإخبار بامتلاكه جوهراً ثميناً، وفي بعض الحالات قد تقتضي الحال الاخبار عن امتلاكه ذلك فقط، وقد تقتضي حال آخرين الإخبار بموضع إخفائه، وقد تقتضي حال آخرين إراءته لهم.. وهكذا، وعليه فحفظ أو إشاعة كل شيء رهن أمرين: قيمة ذلك الشيء، وأمانة صاحبه ومعرفته بقدره.
ثم إن الأسرار الإلهية درر ثمينة، بعضها لا يمكن قوله لأحد أبداً، لعدم قدرة أحد على تحمله، وهي الأسرار التي عناها الإمام الصادق عليه السلام في رواية أبي الصامت، قال: إن من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل ، ولا عبد مؤمن، قلت: فمن يحتمله؟ قال: نحن نحتمله.
وعن بعض أهل المدائن قال: كتب إلى أبي محمد عليه السلام: روي لنا عن آبائكم عليهم السلام أن حديثكم صعب مستصعب لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان؟ قال: فجاءه الجواب: إنما معناه: أن الملك لا يحتمله في جوفه حتى يخرجه إلى ملك مثله، ولا يحتمله نبي حتى يخرجه إلى نبي مثله، ولا يحتمله مؤمن حتى يخرجه إلى مؤمن مثله، إنما معناه أن لا يحتمله في قلبه من حلاوة ما هو في صدره حتى يخرجه إلى غيره.
وللأسرار والمعارف المأذون إذاعتها مراتب متفاوتة، فلا يمكن تعليم كل سر لكل أحد، لأن طاقات الناس متفاوتة. قال أمير المؤمنين عليه السلام في خبر من أتاه مدعياً للتناقض في القرآن: " ... وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس، لأن منهم القوي والضعيف، ولأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله، إلا من يسهل الله له حمله، وأعانه عليه من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم.
وفي الرواية عن جابر بن يزيد الجعفي، أنه قال للإمام الباقر عليه السلام: جعلت فداك إنك حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سركم، الذي لا أحدث به أحداً، وربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبيه الجنون، قال: يا جابر! فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبان، فاحفر حفيرة ودل رأسك فيها، ثم قل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا. مع أن جابراً هذا هو القائل: حدثني أبو جعفر بسبعين ألف حديث لم أحدثها أحداً قط، ولا أحدث بها أحداً أبداً.
وكان خواص أصحاب الأئمة عليهم السلام مختلفي الرتب أيضاً، وما يمكن قوله لسلمان مثلاً لا يقال لأبي ذر، لعدم تحمله، كما أن بعض الأسرار تقال لأبي ذر وحده فقط، وهكذا.
إشارات
- أقسام السر والعلن
للسر والعلن ـ كما للغيب والشهادة ـ أقسام، منها:
السر النفسي المطلق، وهو الهوية الوجودية للذات الإلهية بنحو اللابشرط المقسمي، وهي الهوية التي لا يحيط بحرمها الآمن أحد ولا يحيط بها كائن، ولا يخرج شيء من مكمنها النهائي ومن سرها المطلق.
السر النسبي القياسي، فإن الوجود أو الظهور أمر مشكك، فكل مرتبة عالية منه هي سر وغيب بالنسبة للمرتبة الأنزل، لعدم قدرة إحاطة الداني بالعالي، ولكنها لنفسها وللمرتبة الأعلى منها بمثابة العلن، لذا فكل موجود مجرد عال يمثل حجاباً نورياً لما دونه، لأن العبور من المعبر النوراني للمجرد العالي غير ممكن لما دونه وإن كان مجرداً، وهو بدوره سر وحجاب نوري بالنسبة لما دونه.
العلن النفسي المطلق، مثل عالم المادة، فإنه لا سر ولا غيب فيه.
العلن النسبي القياسي، وقد اتضح معناه في القسم الثاني.
- الأسرار العلمية
المسائل العلمية تماثل المجردات التكوينية في كونها ذات مراتب ودرجات، بحيث إن بعضها يعتبر سراً وحجاباً بالنسبة لبعض الأفراد، مثل البحث العلمي العريق في مسألة القضاء والقدر، فإنه سر بالنسبة لفريق من الناس، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام للسائل عنه: ... سر الله فلا تتكلفوه.
فالأسرار العلمية إنما هي كرموز المواهب والمقامات الإلهية، ذات مراتب عديدة، ويجب حفظها عن عبث الأغيار، بمعنى أنه إذا كان للنبوة والرسالة والولاية مراتب ومقامات فللمعارف الدينية أيضاً مراحل، فالظاهر منها علن لباطن، والباطن منها سر لظاهر، والإنسان الكامل هو من يطوي هذه المراحل كلها، ويصون كل مرتبة في موطنها الخاص بها.
- الفرق بين كتمان السر والصبر
كتمان السر علامة العقل، والحكيم يحتفظ بسره في صندوق قلبه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: صدر العاقل صندوق سره.
ولكنْ هناك فرق بين كتمان السر وتحمله وبين الصبر على عيوب الآخرين واحتمال طباعهم، فإن الصبر عليهم وإن كان فضيلة في نفسه إلا أنه لا يعد تحملاً للسر، لأن السر نفسه من أسباب العظمة والرفعة، وسبب لنبع باطنّي خاص، يفور ويفور ليصير بركاناً متفجراً، ومقاومة غرور تلك الحالة والسيطرة على ذلك التفجر ولجمه ومحاصرة ذلك الهيجان عمل صعب شاق، ومن كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: "والاحتمال قبر العيوب"، وظاهرٌ الفرق اللطيف بين القبر والصندوق.
- احتجاب الذات الإلهية الأقدس
يتضح من مطاوي الكلام عن السر والحجاب النوري، معنى احتجاب الله، في كل عبارة: "يا محتجباً عن كل عين" مع أنه تعالى نور السماوات والأرض، ويتضح أيضاً معنى احتجاب الأئمة الأطهار عليهم السلام، في فقرة "وبشرُك المحتجبين" مع أنهم أنوار إلهية.
- حفظ أسرار الناس
أسرار عباد الله من الأسرار الإلهية، والأئمة عالمون بها، كما ذكر سابقاً لأنهم يرون في هذه النشأة باطن أعمال الناس وظاهرها بإذن الله، ليشهدوا بها يوم القيامة.
إن الله سبحانه يصون ماء وجوه عباده ولا يخزيهم، حتى أن بعضاً من أعمالهم لا يستره عن الناس وحسب، بل يستره أيضاً عن الملائكة الكرام الكاتبين الموكلين بكتابة الأعمال، فورد في الدعاء: "..الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني، وجعلتهم شهوداً عليّ مع جوارحي، وكنتَ أنتَ الرقيبَ عليّ من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم، وبرحمتك أخفيته، وبفضلك سترته". والأئمة الأطهار عليهم السلام الذين هم أتمّ وأكمل مظاهر الله تعالى أيضاً يحفظون أسرار خلقه، ويصونون ماء وجوههم.
وإنما وجب كتمان أسرار الناس لأن حفظ النظام الاجتماعي والحيلولة دون اختلاله من الأمور المهمة، وقليلة هي الأمور التي حظيت بما حظي به هذا الأمر من اهتمام التعاليم الإسلامية، ولذا نهي عن الغيبة والتهمة والتجسس، وعن كل ما يخل بالعلاقات الاجتماعية.
والحفاظ على انسجام المجتمع وبقاء أركانه رهن بحفظ شخصية افراده وصيانة ماء وجوههم من أن تراق، لأن الناس يتعاشرون ويتعاضدون في حل مغالق الأمور، ويأنسون ببعضهم على أساس حسن الظاهر وما يرونه، فلو انكشفت أسرارهم، وعلم الناس ما قام به فلان سراً وخفية لانفرط عقد المجتمع وتهاوت عمده، وفي رواية عبد العظيم الحسني، عن الإمام الجواد عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: لو تكاشفتم ما تدافنتم.
إن ّ هتك السر وإراقة ماء الوجوه ليس من فعال المهذبين وفنهم، بل الفن أن يصون المرء ماء وجوه الناس ويستر عيوبهم.
لذا كان ستر عيب المؤمن علامة الإيمان، وهو من حقوق المؤمن على المؤمن. قال أمير المؤمنين عليه السلام في علامات الإيمان: المؤمن... لا يهتك ستراً ولا يكشف سراً... وإن عاين شراً ستره، يستر العيب ويحفظ الغيب.
شعر:
إن كنت في قوّة الفيل فكن كالنملة تواضعاً...
وإن كنتَ سلطان الكونين فامش على الأرض هوناً
وعِ هذه الحكمة: إنّ عيب كل امرئ... تراه فتعامى عنه تكرّماً
وفي الرواية يقول الإمام الباقر عليه السلام: يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة.
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون في ثلاث خصال: سنّة من ربه وسنّة من نبيه(ص) وسنّة من وليه عليه السلام، فأما السنّة من ربه فكتمان السر، وأما السنّة من نبيه(ص) فمداراة الناس، وأما السنّة من وليه عليه السلام فالصبر في البأساء والضراء.
|