رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك
الامام الحسين عليه السلام يتكلّم ويتعامل بلسان الحبّ والرضا والعرفان مع الله تعالى ففي آخر المعركة وضع خدّه المبارك على تراب كربلاء اللاهبة، وقال إلهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك.
وهكذا الإنسان المؤمن يتصف بالرضا على ما يختاره الله تعالى سواء على مستوى الأمور التشريعية ، أو على مستوى الأمور التكوينية كالفقر والمرض والشدة وإن خالفت هوى النفس، قال تعالى: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء:65)، فترى أن من شروط الصدق في الإيمان عدم الاعتراض على ما اختاره الله تبارك وتعالى.
اما الاعتراض فينمّ عن خلل في الايمان وينافي الإخلاص، فعن الإمام الصادق (ع):
لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: (فلا وربِّكَ..) ثم قال أبو
عبد الله فعليكم بالتسليم)
وذمتهم الآية الشريفة: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أعمالهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ – سواء على مستوى التشريع أو التكوين - فَأَحْبَطَ أعمالهُمْ] (محمد: 8-9
ولذا ورد التحذير الشديد من الاعتراض على قضاء الله تعالى في جميع الأمور، والحث الأكيد على استشعار الرضا والتسليم لقضاء الله تبارك وتعالى
فعن الصادق (ع) إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل.
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره لم يقضِ الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له)
وسئل الإمام الصادق (ع) بأي شيء علم المؤمن أنه مؤمن؟ قال بالتسليم لله والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط)
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى
درجة الرضا)
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين أنه قال: (طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله سبحانه)
كيف نستشعر في قلوبنا الرضا والتسليم بقضاء الله تعالـى
ذلك يكون بالالتفات إلى عدة أمور تطبيقاً للمعنى الحقيقي لذكر الله على كل حال، الذي هو من أعظم الأعمال، فتكون على اتصال دائم به، وتحيا معه دائماً، فمن هذه الأمور:
1 إن الله رحيم وهو أرحم بعباده من أنفسهم ومن الأمِّ الشفيقة، فلا يختار لهم إلا ما يصلحهم، فقد ورد في الحديث القدسي: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فأغنيه، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر فأفقره، ومنهم من لا يصلحه إلا المرض فأمرضه)
فكل ما يختاره الله تعالى لنا فهو خير
وعن الإمام الصادق (ع) قال الله عز وجل: (عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمد من الصديقين عندي)
وعن الإمام الصادق (ع) قال: إن فيما أوحى الله إلى موسى بن عمران (ع) يا موسى ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما ابتليته لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضاي وأطاع أمري).
وعليه أن يضيف إلى هذا الأمر جهله بعواقب الأمور قال تعالى: [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] البقرة216
2 إن قضاء الله جار في عباده سواء رضي الإنسان به أم لم يرض، فلماذا لا يجعل هذا القضاء فرصة للطاعة والقربة إلى الله تعالى مادام إن سخطه واعتراضهُ على البلاء لا يدفع عنه القضاء، لذا جاء في بعض الأحاديث (إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور)
3 إن الإنسان المؤمن لابد أن يتعرض للبلاء في دار الدنيا: [ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ] (العنكبوت: 1-2)
فعن الصادق (ع) إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم)
وعنه (ع) إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه)
وعن موسى ابن جعفر (ع) أيٌّ من صفت له دنياه فاتهمه على دينه)
وذكر عند الإمام الصادق (ع) البلاء وما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه)
وفي ضوء هذه الأحاديث يستشعر الإنسان المؤمن السرور عند حلول البلاء به؛ لأنه يكشف عن إيمانه وتعاهد الله إياه بيد رحمته، وبالتأكيد فإن بلاءً يستطيع تحمله
(الأحاديث في الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 77 )
4-أن يتذكر ما وعد الله الصابرين على البلاء والمحتسبين له عند الله تعالى
عن الإمام الصادق (ع) من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد)
وعنه قال: (إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظلّ عليه، وتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم فإن عجزتم فأنا دونه)
وعنه (ع): الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان)
(وللصبر أقسام: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على قضاء الله)
5 إننا جميعاً ندعو أن نكون ممن يحظى بنصرة الإمام المنتظر(عج) وصحبته والجهاد بين يديه، فأيهما أسرع استجابة لدعوة الإمام (ع) ونصرته: المؤمن المبتلى والصابر ،
أم المترف المتنعم المتبرّم؟
فمن يرغب في نصرة الإمام (ع) فليوطن نفسه على كل الصعوبات، فإنها من مؤهلاتكم لهذا الفوز العظيم، والذي يثقل عليه البلاء البسيط لا يحظى بذلك الشرف كما قال أمير المؤمنين (ع) : (إذا كنتم من الحر ومن البرد تفرون، فأنتم من السيف أفر)
6 إن أي شيء لا ترضاه يصدر من محبوب لك، فلكي لا يؤثر فيك تأثيراً سيئاً تذكر ما يحبِّب ذلك الشخص إليك، والله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه عليك، فلماذا تنساها كلها وتذكر فقط هذا البلاء الذي نزل بك؟
ورد في دعاء زين العباد (ع): إلهي لو قرنتني بالأصفاد، ومنعت سيبك من بين الأشهاد، ودللت على فضايحي عيون العباد، وأمرتَ بي إلى النار، وحُلت بيني وبين الأبرار، ماقطعتُ رجائي منك، وماصرفت وجه تأميلي للعفوِ عنك، ولا خرج حبك من قلبي، أنا لا أنسى أياديك عندي، وسترك علي في دار الدُنيا.
والأيادي جمع اليد ، وأكثر استعمال الأيادي في يد النعمة ، أي لا أنسى نعمتك وفضلك عندي ، وهذا صار سببا لعدم قطع الرجاء وعدم صرف التأميل عنه وعدم خروج حبّه من قلبه.
وكذلك عندما يسيء لك شخص لا بد من تذكر نقاطه الإيجابية فسيتبدل غضبك عليه إلى حب له، لذا ورد في الحديث: (اذكر اثنين وانسَ اثنين: اذكر إساءتك للآخرين وإحسان الآخرين إليك، وانسَ إحسانك للآخرين وإساءة الآخرين إليك)
فالمؤمن الحق هو من يسلّم امره لله تعالى ويرضى بقضائه وبلوغ هذا المقام الرفيع يتوقف على المعرفة بالله تعالى وحسن الظن به ومن ثم جهاد النفس لتحصيل ذلك الامر وتلك المرتبة العليا من رقي النفس والطمأنينة وسبيل ذلك التأسي بأنبياء الله واوليائه والوقوف على جميل صفاتهم ومواقفهم المخلصة والخالصة لله تعالى ومنهم سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام الذي اصيب في كربلاء باعظم المصائب ولكنه واجهها بالتسليم والرضا قائلا : الهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك.
|