• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : عاشوراء .
                    • الموضوع : الهجرة واقسامها وآثارها وموانعها .

الهجرة واقسامها وآثارها وموانعها

الهجرة واقسامها وآثارها وموانعها

الهجرة وهي الانتقال والرحيل سواء كان من الوطن إلى غيره أو من حال الى غيرها.

وإنّها من أكمل الصفات الحسنة و أجلّها إن كانت ناشئة من الحبّ الحقيقي الواقعي للّه سبحانه و تعالى والانقطاع إليه جلّ شأنه، وبها يحصل الودّ و الحبّ له عزّ وجلّ، ومنه تعالى لعبده.

بل أنّ الهجرة من الفناء في ذاته جلّت عظمته؛ لأنّ بها يخرج الإنسان عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة ويبعد عن المعاصي- الّتي تحصل عن الأهواء الشيطانيّة- كالكبر و الحسد والبطر والجهل و غيرها.

وبالهجرة يفوز الإنسان و ينال الكمالات بأنواعها و أقسامها الظاهريّة والمعنوية، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه وآله: «من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وبالهجرة يرتقي الإنسان عن حدود البشريّة في طلب حضرت الربوبيّة إلى منتهى السعادة بصفاء القلب وتزكيته والعروج إليه جلّت عظمته؛ لأنّ البقاء والسكون فيها الّذين لا يرضاهما تعالى من آثار الحجب والبعد عن ذاته المقدّسة و القرب من الشيطان.

وبها يستغني المهاجر عن ما سواه تعالى، و يذوق لذّة العبوديّة للّه جلّ شأنه، و ينال شرفها بالخضوع الحقيقي له عزّ وجلّ. فالهجرة الواقعيّة من أسمى الصفات الكريمة وأجلّ الكمالات الواقعيّة و أرفع المنازل العظيمة، وأشرف الحقائق بل هي غاية السير والسلوك إليه عزّ و جلّ؛ لأنّها مبايعة اللّه تعالى مع عبده بالهجرة إليه عزّ و جلّ.

أقسام الهجرة:

للهجرة أقسام مختلفة تنشأ من علو الهمّة الّتي هي تختلف باختلاف الأشخاص ومراتب الإيمان ومنازل الأوطان:

الأوّل:

الهجرة من الوطن إلى غيره لنيل الدنيا، فإنّ هجرته إلى ما هاجر إليه، كما تقدّم عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله ولا شرف فيها، بل في التعبير بها تسامح، والآيات الشريفة و السنّة المباركة بمعزل عنها.

الثاني:

الهجرة بترك الأوطان والبعد عن الإخوان لنيل الكمال المنشود في رضائه تعالى بصحبة عالم عامل أو حكيم عارف أو معلّم مشفق. و لها مرتبة من الشرف، وقد يحصل بها الرقي إلى المنازل الرفيعة و الدرجات الساميّة، و تسمّى بهجرة الأخيار.

الثالث:

الهجرة من وطن الملك بالسعي في ترك جميع الحظوظ النفسانيّة للوصول إلى عالم الملكوت. أو من وطن المعصية إلى شرف الطاعة و السكون فيه بمعرفة الحقّ و تجليه له، و هي من أكملها و أعلاها و تسمّى بهجرة الخواص، و بها يبلغ المقصود و يخضع له ما في عالم المشهود لخضوعه الواقعي له عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب»، و قد تقدّم في التفسير مكرّرا أنّ الرزق أعمّ من الإفاضات الظاهريّة و المعنويّة.

الرابع:

الهجرة من وطن الغفلة إلى شرف اليقظة، أي: من وطن الحسّ إلى وطن المعنى بمكاشفة الأفعال و مشاهدة الصفات في ترك إقبال الخلق و العزل عن طلب الكرامة فيهم، و لا ينال هذا القسم إلّا من امتحن اللّه قلبه بالإيمان.

و بهذه الهجرة ينال العبد أسمى صفات العبوديّة و أجلّها، و هي كما عن الصادق عليه السّلام: «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة»، و بها يستغنى عن ما سواه تعالى و لا يعظم غيره عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت الآخرة نيّته جمع اللّه‏ عليه أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا، و هي صاغرة»، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ‏، و تسمّى هذه الهجرة بهجرة الأبرار.

الخامس:

الهجرة من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أي من الأكوان إلى المكوّن، وهي تختصّ

 بأخصّ الخواص، وتسمّى بهجرة المقرّبين و من أجلّها الإسراء و المعراج: وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ [سورة النجم، الآية: 42].

والجامع بين الأقسام الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين، ومنه إلى حقّ اليقين، أو من الشهود إلى المعرفة و منها إلى المعاينة. فمن هاجر من هذه المواطن قاصدا بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة و أشرف منازل الكرامة.

أسباب الهجرة:

تنشأ الهجرة النفسانيّة و عروج القلب إلى المشاهدة بتجاوز حدود البشرية من أسباب عديدة، أهمّها المحبّة للّه تعالى، و الغنى به جلّت عظمته، و الصدق في العبوديّة- بالاستسلام لما يورد عليه و الاستعانة منه جلّ شأنه- و اليقين في أحكام الربوبيّة، بتزكية النفس و مخالفة هواها؛ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و لكلّ من هذه الأمور مراتب و درجات و حدود، و لو لا قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه وآله: «المؤمن ملجم»، لكان لغور البحث فيها مجال.

آثار الهجرة:

لكلّ من أقسام الهجرة آثار تختلف حسب الهجرة الّتي هاجرها المهاجر، بهجران الصفات الرذيلة و تبديل الأخلاق الفاسدة بالحسنة و ترك الحظوظ النفسانيّة و قهر الهوى بالمقامات العالية، فقد ينقّى الأثر بالرقي إلى مكارم الأخلاق، و الوصول إلى أقصى مراتب الكمال بسعادة الدارين، و نيل رضاه عزّ و جلّ، و يبلغ القصد بالشهود بشرف العبوديّة في السير والسلوك حتّى لا يحتاج إلى دليل وبرهان في إثبات صفات الجمال و الجلال، تبعا للهجرة الموصلة إلى المطلوب، بل قد ينال من الحياة الأبدية في هذه النشأة، كما ورد في شأن بعض الخواص من أصحاب الصادق عليه السّلام.

ولو مات المهاجر قبل أن يصل إلى مراده و مسعاه، فله نصيب من بلغ إلى ذلك المقام، ففي الأثر: «أنّ المؤمن إذا مات و لم يحفظ القرآن، أمر حفظته أن يعلموه في قبره حتّى يبعثه اللّه يوم القيامة مع أهله»

 وقد ثبت في محلّه أنّ الرقي في عالم البرزخ موجود لأهله.

و أمّا قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ [الإسراء: 72]

 إنّما هو بالنسبة لمن لا معرفة له أصلا، لا من انكشف عنه الغطاء بالهجرة و ارتفع العمى و الحجاب بالسير و السلوك إلى حضرة الربوبيّة في رضاه تعالى برؤية آثاره وصفاته جلّت عظمته. و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله»، هذا بالنسبة إلى أعماله الخارجيّة و أمّا بحسب فضله تعالى فلا يتصوّر فيه حدّ حتّى ينقطع، و المهاجر الحقيقي كان من نيته دوام الهجرة و التوطّن في المقامات العالية؛ و لأجل ذلك أضاف جزاءه إلى نفسه الأقدس بقوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ‏، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في القدسيات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي، و إنّما يسعني قلب عبدي المؤمن».

موانع الهجرة:

وهي العوائق الموجودة في النفس، المستندة إلى الأهواء الشريرة المتوطّنة في النفس البشرية الحاصلة من الوساوس الشيطانيّة، كالتخويف بالموت أو الفوت أو المحبّة لما سواه تعالى من الأهل و المال و الجاه، فهذه حجب شيطانيّة تمنع عن الهجرة بالسير والسلوك، و تحجب عن مشاهدة التجلّيات و هو جمال الحقّ، فحسن الأعمال نتائج حسن الأحوال من صلاح القلب و التوجّه إلى اللّه، و بذلك تصلح الهجرة و الرحيل، وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ‏، أي: بيت بشريته بترك الدنيا و قمع الهوى‏ مُهاجِراً الى التقرّب به جلّ شأنه بمبايعة رسوله، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ‏ قبل وصوله إلى مطلوبه و مسعاه، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ‏، أي: بذمّة كرمه وفضله ورحمته فيبلغه إلى أقصى مقاصده إن كان المانع أجله، «فإنّ نيّة المؤمن خير من عمله»، و «يحشر الناس على نيّاتهم»، هذا إذا لم يأت بما يوجب بطلان الهجرة و البعد عن تشرّف الوصلة بالتقرّب إليه، وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للذنوب خصوصا ذنب أنانيّة الوجود، رَحِيماً بتجلّي صفة جوده حتّى يبلغ العبد إلى كمال مقصوده و مسعى غايته بمنّه وجوده و كرمه.

+ من كتاب مواهب الرحمن في تفسير القرآن، ج‏9 ص 196 وبعدها

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1261
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 06 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 06 / 26