• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : النظرية العرفانية عند الإمام الخميني .
                          • رقم العدد : العدد السادس عشر .

النظرية العرفانية عند الإمام الخميني

 

 


النظرية العرفانية عند الإمام الخميني
بين تأصيل الذات وخلاص المجتمع


الشيخ حسن المحمود

يجد العرفان في المقدس حلاً للمعضلات الإنسانية التي تعاني منها، فإلى جانب أنه موقف فردي، يتخذه فرد، ويعلن عنه، فإنه في جانب آخر منه موقف إنساني، يعبر عن نزعة كامنة في داخل كل فرد من أفراد البشرية، أي نزعة الكمال والارتقاء. فالعرفان ليس مجرد سلوك، يتوخى العارف من خلاله تحقيق معارف، وتحصيل فهم ووعي في قضايا تتصل بحقله المقدس، بل هو، كسواه من العلوم، يهدف إلى تقديم أطروحة خلاصية لحل المشكلات غير المتأصلة التي تعترض الإنسانية في وجودها. فهي رؤية معرفية، وسلوك معرفي واجتماعي في آن، وبالتالي، يبدو العرفان نظاماً معرفياً مستقلاً قائماً بذاته، ينفصل عن سواه من الحقول المعرفية في نظرته واتجاهه وفي فضائه وميدانه الخاص، وتالياً، في المنهج وطريق المعرفة.
وهكذا، نجد أن طريقة العرفان، وفق هذا المنظار، تختلف عن طريقة الفلسفة في فتح أبواب المعرفة إلى حقله، ولذلك بالضبط شكّل العرفان، في خطابه، خرقاً للخطاب الفلسفي، لا سيما في تجاوزه لإطار البحث والنظر الذهني في تناول قضايا الوجود، الذي يحكم الخطاب الفلسفي وخروجه من الفضاء الأنطولوجي إلى فضاء الفعل والممارسة الخارجية، بما يجعله أقرب إلى الحقيقة من البحث الذهني، لأنه متحقق فيها، ذاك أنه إذا كان يبحث في الوجود المطلق، فإنه ينطلق من ذاته ومن نفسه، لأن ذاته هي مرآة لهذا الوجود، فإن «شهودنا للحق شهود أنفسنا» . فضلاً عن أن يراه ويشاهده في ما يحيط به في الوجود الكائن فيه، وفي تأمله في فضاءات الوجود، فإن العارف ينطلق في كشف المعرفي من نزوع داخلي إلى الكمال، متجذر فيه، أساسه الفطرة التي أودعها الخالق في مخلوقاته، إذ إنه يسعى إلى تحقيق كماله المعرفي والوجودي، عبر اقترابه من أفق الوجود المطلق، ذلك أن الفطرة «تتوجه إلى الكمال. فالعاشق الحقيقي لا يكون من دون معشوق، ولا يكون غير الله الكامل معشوقاً تتجه إليه الفطرة. فلازم تعشّق الكمال المطلق وجود الكمال المطلق» .
إن هذا النزوع لدى العارف الذي تدفعه إليه فطرته إلى رفع النقص الذي يعانيه، بتحقيق الكمال المطلق الذي لا يتوفر لشيء سوى الله تعالى، إنما يعبر عن وضعية أصيلة في الكائن البشري عن حال القلق والشعور بالرغبة في إزاحة العجز عن ذاته، ورفض الوضعية التي يعيشها في ظل ما يحيط به من شرور، يحتوي عليها العالم الذي فيه يعيش، وهي التي لا تزال تشكل، منذ أن وجد في هذه الحياة، حافزاً أساسياً ورغبة جامحة له، في امتلاك القوة التي تمنحه القدرة على الارتقاء والتكامل، والتحكم في واقعه وفرض شروطه على الطبيعة وإخضاعها لها، عوضاً عن الخضوع لشروطها، وبالتالي، تثبيت ولايته في إدارة واقعه ووجوده، سواء على صعيد واقعه الذاتي أو على صعيد واقعه الاجتماعي العام. ويشهد على هذه النزعة الإنسانية المحاولات الحثيثة من قبل الشعوب، قديمها وحديثها، لوضع أطروحات نظرية، وتوفير الامكانات والقدرات الهائلة من أجل الارتقاء بمستوى مجتمعاتها، والتخلص من المشكلات التي تعاني منها.
ومن أبرز الشواهد التي قد نجدها في هذا السياق، ما ورد في رسالة الإمام الخميني { إلى الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف، إثر اعلان الأخير ما يسمى بإصلاحات «البيرسترويكا»، فقد جاء في نص تلك الرسالة «حضرة السيد غورباتشوف، الواجب هو التوجه نحو الحقيقة. إن مشكلة بلدكم الأساسية لا تكمن في مشكلة الملكية والأزمة  الاقتصادية وقضية الحرية، بل إن مشكلتكم الأساسية هي فقدان الإيمان الحقيقي بالله، وهي نفس مشكلة العالم الغربي التي قادته إلى الانحطاط والطريق المسدود أو ستجره إلى ذلك» .

وظائف الطقوس في المجال العرفاني
تؤدي الطقوس والممارسات الدينية في المجال العرفاني وظيفتين أساسيتين: معرفية واجتماعية. فهي ليست مجرد سلوك تقليدي (عبادي) موجه إلى موجود أسطوري/خيالي أو سحري، ولا هي محض سلوك فردي، يعبر عن شعور داخلي لذات فردية، وتستهدف إشباع نوازع نفسية لا شعورية، كامنة في الذات الفردية، لا عمق ولا بعد اجتماعي لها.
فالطقوس في هذا المجال هي قواعد السلوك المستندة إلى معتقد روحي، تعيّن للعارف كيف يجب أن يتصرف حيال الوجود المطلق/المقدس. فهي سلوك فردي ذات بعد وعمق اجتماعيين، الغاية منها: أولاً، توليد معارف تنتمي إلى المقدس، إذ «إن النتيجة الأصلية لجميع العبادات والسر الحقيقي لها هو الحصول على المعرفة»  قال تعالى: }واعبد ربك حتى يأتيك اليقين{ (الحجر: 99). والغاية منها ثانياً، لفّ وتجميع المنتمين إلى العرفان، وتجديد شعور الانتماء والتضامن لديهم. ونلحظ ذلك على سبيل المثال في وصية الإمام الخميني الخالدة للمسلمين «أن لا يغفلوا عن صلاة الجمعة التي هي مظهر البعد السياسي للصلاة، فصلاة الجمعة من أعظم عنايات الحق تعالى على الجمهورية الإسلامية في إيران . فالصلاة وسواها من الطقوس تحكي وتعبّر من زاوية اجتماعية عن انتماء المرء إلى تصورات مشتركة، تتولد وتفرض نفسها عليه من خارج، باعتبارها جزءاً من الثقافة التي يولد فيها الفرد.
ولا مراء في أن الطقوس، لا سيما الدينية أو الروحية منها، لا تخلو من اقتران بتجارب انفعالية، أو أن تكون عملية الانفعال فيها بمثابة علامة فارقة في تحديد درجة التزام الفرد أو الجماعة بتأدية قواعد هذه الطقوس والغايات المعزوة لها. وفي إطار العرفان تبدو هذه الحقيقة ماثلة، فهي تتجلى قبل أي شيء في ارتهان العارف ودينونته للإله المقدس، من خلال حرصه على الالتزام بقواعد السلوك الديني والأخلاقي، والانضباط ضمن إطار السلوك العقلي. وفي هذا الإطار يقول الإمام الخميني «إن ذلك الإنسان الذي تطرأ في قلبه تجليات نور الإيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية، وتكون ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل والشرع» .
ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه أن ثمة وظيفة أخرى أساسية للطقوس العرفانية القائمة على أساس الركائز الثلاثة المذكورة (الدين، العقل، الأخلاق) تتمثل في قدرته على تجريد النفس، وطرد حالة الاضطراب والقلق المعرفي، فضلاً عن النفسي والروحي، حيال أسرار الحياة وشؤون الغيب، مما يعجز المرء أو يصعب عليه مواجهته أو التغلب عليه، وبالتالي، في قدرة هذه الطقوس على توفير حال من الطمأنينة النفسية، وإحداث يقين معرفي، فيما يتصل بأسرار الوجود المقدس. وهذا ما يعبر عنه في العرفان بالفتح إذ «الفتح في مشربهم عبارة عن فتح أبواب المعارف والعوارف والعلوم والمكاشفات على الإنسان من قبل الحق سبحانه بعد أن كانت موصدة في وجهه ومغلقة عليه. فما دام الإنسان في البيت المظلم للنفس، وأنه مشدود بالتعلقات والرغبات النفسية، تكون أبواب المعارف والعوارف عليه مسدودة، وعندما يغادر هذا البيت المظلم ببركة ترويض النفس وأنوار الهداية واجتياز منازل النفس تنفتح أبواب قلبه عليها – العلوم والمكاشفات – تلقى المعارف في قلبه، ويصبح من ذوي القلب» .
النزعة الإنسانية للعرفان
يرى البعض أن تعاليم العرفان تتركز في أطروحتها حول قضيتين رئيسيتين، هما: «وحدة الوجود» و»الإنسان الكامل». والجدير ذكره، أن مصطلح «الإنسان الكامل» يرادف في دلالته ألفاظاً أكثر تداولاً واستخداماً في الخطاب الديني الإسلامي مثل: النبي، والولي، والخليفة... إلخ.
ومما لا شك فيه أن أطروحة الإنسان الكامل التي يطرحها العرفان الإسلامي، بما لها من امتدادات وجذور ثقافية دينية مشتركة بين الفلسفات الإنسانية والرسالات الدينية، تضعنا مباشرة مع «الإنسان» كحقل للبحث والمعالجة، ولا شك في أن قضية «الإنسان» في الفكر الإنساني، القديم والمعاصر، استحوذت، ولا تزال تستحوذ، على اهتمام متميز، وقد بذلت في سبيل التعرف عليه جهود هائلة منذ الأيام الأولى لوجوده على هذا الكوكب الأرضي. ولا ريب في أن أيّاً من المدارس الفكرية والفلسفية لم توفق إلى تقديم صيغ تحقق نجاة الإنسان وسعادته وإنقاذه من حالة القلق والاضطراب الذي يعتريه، وبصفة خاصة إنساننا المعاصر، وبصفة أخص الإنسان الغربي الذي ابتعد عن نفسه، وانشغل عنها، بسبب توجه اهتمامه إلى الخارج، واستنفاد جهده في تحقيق إنجازات تقنية وتكنولوجية، دون التفات إلى كوامن ذاته ونوازعها. فيما نجد أن ثمة إمكانية في تخطي عقدة الفصل القائم بين العقل العلمي والعقل الديني، وقد أشار إلى هذه الحقيقة العالم الفرنسي جان غيتون والأخوان بوغدانوف استناداً إلى المعطيات العلمية التي توفرها الاكتشافات الفيزيائية التي «تسمح باستشفاف تحالف ممكن وتلاق لا يزال غامضاً بين المعارف الفيزيائية والمعرفة اللاهوتية، بين العلم والسر الأعظم» .
لقد أكدت النظرية العرفانية على أصالة الوجود الإنساني، التي تبنتها ونادت بها النظريات الإنسانية، القديمة منها والحديثة. ولكن، بالرغم من اتفاق النظريات الإنسانية على أصالة الإنسان، إلا أنها تختلف في حدود أصالة الإنسان وإرادته ووعيه، وأمانيه المثالية، وقيمه.
ففي الميثولوجيا اليونانية القائلة بأصالة الإنسان، ثمة حالة عدائية بين الآلهة والناس، وهناك صراع بين عالمين «عالم الآلهة وعالم الناس» وأن الآلهة هي قوى ضد الإنسان، وعلى هذا الأساس كانت الأومانيسم اليونانية التي تسعى للوصول إلى أصالة الإنسان بجحودها للآلهة وإنكار سيادتها، وقطع حبل عبودية الإنسان – السماء .
أما المثاليون القائلون بأصالة الإنسان، فقد أنكروا واقعية العالم الخارجي، وأعطوا لفكرة «الإنسان المدرك» أصالة، حيث وقعوا في مفارقة إنكار العالم المادي، وإثبات أصالة الإنسان، واعتباره ذهناً مجرداً عن عالم الواقعية، على النقيض من النظرة الليبرالية الواقعية والمادية.
وبين كلتا النظريتين المادية، اليونانية والحديثة (الليبرالية والشيوعية)، والمثالية، تقع النظرة العرفانية التي تجد أصولها وجذورها في النظرة الدينية الإسلامية. فقد نظر العرفان، وفاقاً للدين، إلى أن الكائن الإنساني مكوّن من بعدين يشكلان قوام وجوده في العالم الخارجي، فيما يسمى بالحياة الدنيا: أحدهما ظاهر، ويتمظهر في وجوده المادي الذي يتكون منه جسده. ومن هذا البعد تتولد الرغبات واللذات المادية التي تحاكي الطبيعة، وتعبر عن حال من التفاعل والاندماج معها. والآخر باطن، ويتمثل في الوجود المثالي أو الروحي، ومن هذا البعد تتولد الانشدادات إلى أمور مثالية، تتجلى مظاهرها في القيم الدينية والأخلاقية، وحب الجمال والخير والأماني... الخ. والإنسان يؤكد انتماءه إلى أحد هذين البعدين بمقدار تغليب بعد منهما على الآخر، ولا ترى هذه النظرية ضرورة في إخماد نزعات الجسد ورغباته، بقدر تغليب نزعات الباطن ولذاته ورغباته، بل بدلاً من ذلك، فقد دعت إلى تلبية احتياجات الجسد، في حدودها الطبيعية التي حددها الشرع، إذ وفق هذه النظرية على السالك «أن يتمالك في أيام سلوكه كطبيب حاذق ويعاملها على حسب اقتضاءات الأحوال وأيام السلوك، ولا يمنع نفسه الطبيعية في أيام اشتعال نار الشهوة وغرور الشباب من حظوظها بالكلية. وعليه أن يخمد نار الشهوة بالطرق المشروعة، فإن إطفاء الشهوة بطريق الأمر الإلهي إعانة كاملة على سلوك طريق الحق. فلينكح وليتزوج، فإنه من السنن الكبيرة الإلهية» .
فالإنسان وفق هذه النظرية العرفانية لا يمكن أن ينسلخ عن بعده الجسدي وأن يخرج من جلده، كيما يحقق أصالته ككائن وذات مستقلة، حرة، مريدة، واعية، وذات طاقة خلاقة وإبداعية، بل إن بقاء الجسد شرط ضروري وحتمي لتحقيق هذه الأصالة، ذاك أن الإحساس بالوعي والتعبير عنه، إنما يتم عبر المسار الذي يسلكه الجسد ويمارسه، مثلما أنه لا يمكن للإنسان أن يلغي بعده الباطن أو أن يختزله في الجسد الظاهر. وهذا ما يعطي الإنسان فرادته وتميّزه عن باقي الكائنات.
وهكذا، تتجلى مكانة الإنسان الكامل، في النص العرفاني، على أنها تكتسب أصالتها ووجودها الحقيقي، من خلال أنها مثال للحقيقة الإلهية، وتجل من تجلياتها، ومظهراً من مظاهرها. فالكمال المطلق، إذن، هو السبيل أو الشرط الضروري اللازم للإنسان الذي يستحق لقب الخليفة أو النبوة أو الولاية، على اعتبار أن الإنسان هو «الكون الجامع لجميع المراتب العينية والمثالية والحسية، منطو فيه العوالم العينية والشهادتية وما فيها، كما قال الله تعالى }وعلم آدم الأسماء كلها{ فهو خليفة الله على خليقته» .
ولا يخفى التلازم بين مفهوم الخلافة ومفهوم السلطة، وكذلك أيضاً إن الخلافة والسلطة بمثابة نتيجة طبيبعية، تتولدان للإنسان الكامل، في مجال العرفان، فور تحققه في كماله الذاتي، المعرفي والوجودي، المطلق.
ولا مراء في أن هذه الرؤية في تحديد الإنسان، جرياً على النص القرآني، تعبر من جهة عن مدى القيمة التي يحظى بها الإنسان دون سواه من الكائنات من علو شأن وسمو مقام، تجعل منه في مستوى القدسي، أو ما يقرب من حدوده، وفقاً للنص القرآني }ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى{ (النجم: 8 و9). وتعبر من جهة أخرى عن المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الإنسان في إطار ممارسة دوره الاستخلافي في الكون، بما يحقق للمستخلف غايته وأهدافه. عن طريق الالتزام بتنفيذ الصيغة الاستخلافية التي وضعت له.
وعلى ضوء ذلك، فإن ممارسة السلطة لا يعد خروجاً أو تعارضاً مع المسلك العرفاني، كما أن الابتعاد عن السلطة ومآثرة العزلة، والابتعاد عن المجتمع، والهروب من الطبيعة والبيئة، لا يؤكد تحقق العرفان فإنه «لا الاعتزال الصوفي دليل الارتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الانفصال عن الحق. الميزان في الأعمال دوافعها. فكثيراً ما يكون العابد مبتلى بشرك إبليس، وهو يوسع ذلك الشرك بما يناسبه من الأنانية والغرور والعجب والتكبّر وتحقير خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق ويؤدي به إلى الشرك. وكثيراً ما يكون التصدي لشؤون الحكومة ذا دافع إلهي، فيحظى بمعدن قرب الحق، كداوود وسليمان(ع)، وأعلى منهما وأسمى النبي الأكرم (ص) وخليفته الحق علي بن أبي طالب (ع)، وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالمية» ، ذلك أن الحكومة الإسلامية ليست مجرد دولة تقوم بإدارة شؤون المجتمع عن طريق التقيد بالشروط والقواعد الدينية فقط، وإنما هي أيضاً مظهر من مظاهر التجليات الإلهية، بمعنى أن ما يتم ويجري فيها يحاكي في معاشه وحراكه الإرادة الإلهية ومشيئتها وتحقق الغاية من تحقيق نجاة الإنسان وكماله. ومن المعلوم أن اتخاذ المشروعية من الجانب الإلهي في قضية الاستخلاف لا يستلزم بالضرورة إضفاء القدسي على ممارسات المجتمع وأفراده، ونزع صفة الدنيوي عنها، فإن تكوين الوعي هو شكل آخر مختلف عما هو ممارس، وهما عالمان مختلفان، وإن استلزم أحدهما الآخر في كثير من الأحيان.

العرفان كأطروحة خلاصية
لقد بدا واضحاً مما تقدم أن العرفان يمثل نظرية متكاملة في الوجود وأطروحة إنسانية متميزة، ترتبط بتاريخ المعتقد الديني الإسلامي بصفة خاصة، وهي تقدّم بمثابة صيغة خلاصية للكائن الأرفع في الوجود الكوني، بحيث تتوخى توجيه الإنسان إلى الحقيقة.
ولا شك في أن الإنسانية اليوم هي إنسانية قلقة، أكثر من أي وقت مضى، ولم تف الانجازات العلمية الهائلة التي حققها إنساننا المعاصر، في إخراج الإنسانية من حالتها الوجدانية هذه. ولعل السبب في ذلك، على ما يرى بعض الفلاسفة المعاصرين، يعود إلى التصور الخاطئ الذي يقيمه الإنسان لماهية التقنية، إذ إنه يعتبر أنها شيء حيادي، في حين أنها وسيلة من أجل تحقيق غايات، وإن «الاستعمال الجيد لهذه التقنية على أنها وسيلة هو النقطة الجوهرية في هذه المحاولة. لهذا نريد – كما يقال – أن نتحكم في التقنية ونوجهها لصالح غايات «روحية». نريد أن نصبح سادة عليها. إن إرادة السيادة هذه تصبح أكثر إلحاحاً كلما هددت التقنية أكثر بالانفلات من مراقبة الإنسان» .
من هنا، فإن ثمة ما يدعو إلى اجراء حال من التصالح أو التحالف بين ما هو علمي وما هو روحي، بين ما هو إنجاز وما هو اعتقاد، باعتبارهما مجالين من مجالات عقلنا الإنساني. وهذا ما نجده ماثلاً بصورة جلية في التصالح الذي تمكّن الإمام الخميني {أن يقيمه في خطابه العرفاني، بل إنه وسّع إطار دعوته إلى التصالح بين الطريقة والشريعة والفقيه والسلطان في إطار الديني. ولذا، لم يجد ثمة فرقاً بين أن يكون العارف فقيهاً أو حاكماً أو عالماً بأمور الحياة، ويمتاز بفهم ووعي علميين، وبانياً لمجتمع مدني، فيه جميع شروط المجتمع العلمي الإنجازي، وقد أسس الجمهورية الإسلامية على أساس حاكمية الفقيه، بحيث يحتل الفقيه السلطتين التشريعية والتنفيذية، «وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا، ويملك الحاكم من أمر الإدارة والرعاية السياسية للناس ما كان يملكه الرسول (ص) وأمير المؤمنين (ع) على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة» .


 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=206
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28