• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : الاصلاح النفسي .
                          • رقم العدد : العدد السادس عشر .

الاصلاح النفسي

16 

 


الاصلاح النفسي


الشيخ سعد الله خليل


إن عملية الاصلاح النفسي هي من أعقد الأمور وأصعبها باعتبارها تدخل في عمق المسائل الخاصة التي تتداخل فيها كل مقومات بناء الإنسان وبنيته التكوينية والتربوية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها بما في ذلك عامل الزمان والمكان وبالتالي فإن لهذه المقومات ملامسة مباشرة للعقل والقلب والنفس والاحساس والشعور والعاطفة ومخزون القابليات الايجابية منها والسلبية.
ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن اصلاح النفس إنما هو عملية بحث وعلاج لخلل قد طرأ عليها وفساد وقعت فيه وإلا لما احتاجت إلى اصلاح وهذا يجرنا للحديث عن نشوء قابليات وتشكيل قناعات وولادة مشاعر وأحاسيس وموت كثير من القيم والمعايير.
وعملية اصلاح النفس ليست عملية تطهير أو تنظيف لجسد دنسته بعض القذارات المادية بصبة من الماء أو تعفير بقليل من التراب كما يتوهم البعض بل هو عملية ترويضية مبرمجة ومشروطة باعتبارها تحدياً لما هو قائم من تراكم التجربة وتمادي السلوك وعنفوان العادة وإرادة الطباع. وهذا التحدي للنفس هو ما عبر عنه النبي P بالجهاد الأكبر. وجهاد النفس من أجل السيطرة عليها والتحكم بها هو العنوان الأبرز للسلوك الإنساني الذي يأخذ غالباً أرجحية العقل بعين الاعتبار وتحكّمه بالأهواء والغرائز البهيمية وإلا لما استطاع الإنسان أن يقوم بدوره على مستوى تحمله للمسؤولية الكبرى التي افترضها الله عليه كخليفة له على الأرض والسعي إلى سيادة القوانين الإلهية.
فالنفس الإنسانية أشبه ما يكون بالساحات المجتمعية التي تتكون من مجموعة القوى السياسية المتنوعة والمختلفة التي تتصارع فيما بينها وفي النهاية يفترض أن تكون الغلبة فيها للقوى المؤمنة والصالحة التي تنهض بالمجتمع نحو التغيير الأمثل والأفضل.
فالنفس الإنسانية هي ساحة تسيطر عليها مجموعة من القوى (قوى الرحمن وقوى الشيطان) وفي النهاية لا بد لقوى الرحمن أن تسيطر بقوة على ساحة النفس لتجعلها نفساً مطمئنة منزوعة من أسلحة الشيطان التي تأمر الإنسان بالسوء وتدفعه نحو تفعيل الغرائز والأهواء وبالتالي انحرافه عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله وافترض أن يكون سلّم الكمال الذي يصعد من خلاله الإنسان إلى ملكوته حيث الحصانة الإلهية ورفع منسوب الحكمة والصفاء الروحي وتجلي الحقيقة الإنسانية التي أراد الله من خلالها أن يكشف عن مكنونات الإنسان الحقيقية والسر الذي جعله محور حركة الكون وعلة نشأته وفي ذلك مصداق واضح لقول أمير المؤمنين علي َ مخاطباً الإنسان: وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
فالإصلاح النفسي إذن هو إعادة النفس إلى جوهرها الأصلي، إلى جوهرها الصافي، إلى طهرها الفطري، إلى ما قبل التلوث، لأن الأصل في النفس الطهارة والنقاء من كل شائبة والصفاء والبراءة. واصلاحها يكون من خلال اخراجها من ما وقعت فيه ودُنّست به وسقطت تحت تأثيره من الأوبئة والأمراض القلبية والتضليل الفكري والثقافي واسقاطات المجتمع والبيئة وأوهام التقاليد والأعراف وفلسفات المدعين.
فاصلاح النفس عملية شاقة ولكنها ليست مستحيلة إذا ما توافرت الشروط المطلوبة والأسباب الموضوعية لذلك.
إذن، ما هي الشروط المطلوبة للقيام بعملية الاصلاح النفسي؟
هناك شروط كثيرة لعملية الاصلاح النفسي لا يتسع المجال لذكرها ولكن اقتصر على المهم منها:
1 – الإعتراف: الاعتراف بالفساد أو الخلل النفسي أو الخروج من الغفلة والاستيقاظ هو الخطوة الأولى في عملية الاصلاح والتغيير فالغافل لا يمكن أن يقوم بخطوات مدروسة ذات هدف وموضوع. لذلك كانت الخطوة الأولى صحوة الضمير إذا صح التعبير واتخاذ المبادرة إلى سلوك الطرق التغييرية والارتقاء الروحي والنفسي.
يقول الإمام الخميني{: إن اليقظة هي الخطوة الأولى في عملية السير نحو الله تعالى والتي تعني استيقاظ الإنسان من غفلته والتفاته إلى ربه حيث تأتي خطوة السير إليه بعد هذه اليقظة وذلك بفعل الواجب وترك الحرام كحد أدنى.
2 – النية والعزم: النية تعني قصداً وتوجهاً وشعوراً، وبالنية يعرف الإنسان ما يريده والجهة التي سيتوجه إليها فيصل إلى شعور بالعثور على شيء والحصول عليه، علاوة على أن النية أساس الأفعال، فهي وسيلة لكل الاتجاهات والميول التي ينسبها الإنسان لنفسه، كما أن أمتن قاعدة للإرادة وأسلم أساس لقابلية الإنشاء في الإنسان هو النية، بل نستطيع القول أن كل شيء في الكون ولدى نفس الإنسان اعتباراً من بدايته وامتداداً إلى استمراره ودوامه متعلق بالنية فبدون الاستناد إليها لا يمكن لأي شيء أن يكتسب وجوداً ولا يمكن له الاستمرار، فكل شيء يبدأ كتصور في الذهن ثم يتم الانتقال إلى التخطيط ثم إلى تحقيقه بعزم وقرار. فبدون وجود هذا التصور الأول (النية) لا يمكن البدء بأي عمل، كما أن أي نية لا يعقبها عزم وقرار لا تؤدي إلى أي نتيجة وتبقى عقيمة.
3 – اكتشاف العيوب: فإصلاح النفس والترقي بها قدماً في سلّم المكارم لا يتأتى بتجاهل العيوب ولا بالغفلة عن تفقد النفس وكما قال ابن المقفع: من أشد عيوب الإنسان، خفاء عيوبه عليه فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره. فإن معرفة واكتشاف عيوب النفس هي السبيل الأول للعزم على اصلاحها وتصفيتها فمن لم يكشف عيب نفسه يعجز عن إزالته وهو أمر طبيعي لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولإكتشاف العيوب لا بد له من معيار وميزان وإلا لما استطاع أن يكتشف إنسان ما عيبه لأن العيب بحد ذاته نسبي والدليل أن نفس الأمر الذي يعتبر عيباً في مجتمع معين لا يعد عيباً في مجتمع آخر أو حتى على مستوى أفراد معينين.
فالعيوب التي نتحدث عنها هي من منظور إسلامي فإن الإسلام حدد كل العيوب والتي تعنونت بالمحرمات والانحرافات الشاذة عن طريق الله عزَّ وجلَّ. وبالتالي فإن كيفية اكتشاف العيوب أو الطرق المؤدية إلى معرفة العيوب هي بمقارنة ما نقوم به من أعمال أو مقاربتها بالإسلام وعقائده وأحكامه ومفاهيمه فإن كل ما يتوافق من أعمالنا أو سلوكياتنا أو مواقفنا مع الإسلام وروحيته فهو ليس بعيب وبالتالي فالعيب هو ما تعارض مع الإسلام وثقافته ومع ما جاء به كتاب الله وسنة رسولهP.
وضع برنامج اصلاحي: وهذا الأمر يستدعي من الإنسان الساعي لاصلاح نفسه بعد معرفته التامة بعيوبه المبادرة إلى وضع برنامج اصلاحي لنفسه تُراعى فيه الأولويات والعمل الجاد والدؤوب من أجل اصلاحها خطوة خطوة واستشارة أهل الرأي في هذه المواضيع وأهل الاختصاص إذا استدعى ذلك. فلا بد من وضع صيغ وآليات معينة وممكنة على المستوى العملي نخرج من خلالها وبعد مدة من ظلمات الذنوب إلى نور الإيمان والهداية والصحة النفسية التي تؤهلنا إلى الدخول في عالم الطهر والصلاح وبالتالي العودة إلى إنسانيتنا الحقة التي وهبنا الله إياها.
فالبرنامج الاصلاحي هو الوسيلة الأنجع في سبيل الوصول إلى التحكم الخالص بغرائز النفس وأهوائها والخروج من تحكم وسيطرة الشهوات وبالتالي قطع الطريق على شياطين الجن والإنس الذين لا يعدمون وسيلة من أجل جعل الإنسان في حضيض البهائم والرذائل وهذا ما نراه عند الكثيرين الذين أهملوا أنفسهم واستسلموا لراحتهم وتحولوا إلى عبادة الشيطان بدل عبادة الرحمن فضلوا بذلك الطريق وسقطوا في أوهام الجهل وأحضان الدنيا الزائلة.
إذن، لا بد من وضع صيغ وآليات نخرج من خلالها من ظلمات الذنوب إلى نور الإيمان ومن الصيغ والآليات المطلوبة لهذا الهدف الإلتفات إلى أهمية الجانب العبادي في تحسن الصحة النفسية والتي تعتبر المدخل الطبيعي للإصلاح النفسي. فالصحة النفسية من قبيل غذاء الروح فقلما يعتني به الناس لأنهم لا يلمسونه ولا يعبأون بالمخاطر التي تنتج عن اهماله. فالروح محتاجة في غذائها إلى العبادة وأداء الواجبات الدينية والارتباط بالله الخالق الجبار. وقد ثبت في مجموعة من الدراسات أن المواظبة على حضور الطقوس الدينية والتواصل مع الآخرين تساعد على تحسين الصحة النفسية.
وقد توصل باحثون من جامعة آيوا الأمريكية إلى أن مدة حياة الأشخاص الذين يواظبون على الذهاب إلى دور العبادة كانت أطول بحوالي 35 في المائة مقارنة مع الذين لا يترددون عليها. وتوصلوا أيضاً إلى أن جهاز المناعة ينشط عند الأشخاص الذين يرتادون أماكن العبادة باستمرار وبصورة منتظمة بعدما درسوا هذه الظاهرة عند 550 شخصاً.
فالصلاة مثلاً هي علاج شامل بل صيدلية ملأى بالعقاقير الروحية لشتى أمراض النفس، وهي ليست علاجاً فقط بل تشكل مصدر قوة لنفس الإنسان تجعله آمناً من المعاناة وهذا ما نفهمه من قول النبي P: «ارحنا بها يا بلال».
والدعاء أيضاً لون هام من ألوان العلاج الروحي للأمراض النفسية وهو مظهر عبادي بل هو مخ العبادة وخلاصتها.
والتوبة تُعدّ علاجاً روحياً ونفسياً وبالتالي اصلاحاً للنفس لكون التوبة تصحيحاً للمواقف والتصرفات الصادرة من الشخص سواء كانت في حق الله أو حق الناس وهي إذا كانت توبة نصوحاً تزيل كل ما يبدد الطاقة الروحية للشخص وتقويه تجاه الضغوظ والنكبات النفسية التي يتعرض لها من محاسبة الذات، ومن النتائج المترتبة للتوبة التخلص من عقدة الذنب ودفعها الإنسان لاستئناف حياة ومواقف فضلى.
والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يميز الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والادراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي تختزن العبر ما يوجب صلاح القلب والنفس. وهكذا آثار الصوم والصبر والجهاد وسائر العبادات فإن كل منها له انعكاسه الخاص على النفس وصلاحها ورقيها نحو الكمال والخلو من الشوائب والأمراض.
ومن ناحية أخرى فإن عملية الاصلاح النفسي تقف دونه عقبات لا بد من الحديث عنها والوقوف عندها للنظر في عملية تجاوزها وعدم تأثيرها  سلبياً في استمرارية مسيرة الإنسان في طريق الاصلاح الصعب. وأهم هذه العقبات:
الشعور بالعجز: إن أسوأ ما يمكن أن يعيشه الإنسان من الحالات النفسية هو شعوره باليأس  والعجز عن القيام بأي عمل يمكن أن يخرجه من السقوط والانحراف والاستغراق في آتون الغريزة والشهوة والأهواء وهذا إنما يدل على أن القابليات السيئة قد سيطرت كلياً على النفس، وإذا تملك الإنسان هذا الشعور فإن ذلك يؤدي إلى فقدان الطاقة الروحية والنفسية إلى أبعد الحدود مما يجعل المريض بهذا الشعور فاقداً للأهلية التي تتأثر بالدوافع والحوافز والظروف المساعدة وتشكل عنده حالة الخوف وعدم الثقة بالنفس والافتقار إلى الشجاعة وروح المبادرة.

المعاناة:
الناشئة من الظروف المحيطة والتي تدفع بالإنسان دائماً إلى رؤية الصور النفسية المؤلمة التي تحد من نوافذ الأمل في الحلول المطروحة. علماً أن المعاناة يفترض أن تشكل بالنسبة للإنسان السليم والسوي جسر عبور إلى فهم الحياة الحقيقية التي تعين الإنسان للوصول إلى آفاق واسعة من المعرفة وصقل الشخصية القوية والحاضرة والفاعلة والمتماسكة التي غالباً ما تسيطر على الصراعات النفسية وتمكّن من التحكم بها.
الخمول: وهو مزاج عام يتملك بالفرد ويجعله يكره كل ما حوله ولا سيما العمل فيتهرب منه أو يقوم به مكرهاً ويصل بالإنسان إلى حالة صعبة يمكن أن تشل الجسم والعقل والإرادة وكل عمل يتطلب جهداً لا سيما على المستوى الفكري والذهني.
إذن، فإن ما يواجه الإنسان من عقبات ومشاكل ومآسي في حياته يجب أن لا تكون سبيلاً إلى اليأس والقنوط والإحباط فهذه كلمات إذا تسللت إلى النفس تفقدها قوتها على العزيمة ورغبة العمل كما أنها تجردها من كل أمل وكل قيمة.
قال وليم بولثيو: «ليس أهم شيء في الحياة أن تستثمر مكاسبك، فإن أي أبله بوسعه أن يفعل هذا ولكن الشيء المهم حقاً في الحياة هو أن تحيل خسائرك إلى مكاسب، فهذا أمر يتطلب ذكاء وحذقاً وفيه يتم الفارق بين رجل كيس ورجل تافه».
وهذا مصداق قول عبد الله ابن عباس عندما فقد بصره: إن يأخذ الله من عيني نورهما
ففي فؤادي وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج

وفي فمي صارم كالسيف مشهور

فهو قابل الألم والوجع بتسلية نفسه والتهوين عليها وتذكيرها بأن نعم الله كثيرة عليه.
كما أن لحظة تأمل في أحوال الناس يجد فيها الإنسان نفسه أحسن حالاً من غيره في بيئته ومحيطه، فقد يكون الإنسان فقيراً ولكن غيره محبوس بسبب دين لم يستطع تسديده، وقد لا يملك وسيلة نقل لكن غيره مبتور القدمين... الخ.
لذا فإن ترويض النفس على مقاومة مثل كل هذه الأفكار والموانع والسيطرة عليها هي مهمة لمن يريد اصلاح النفس ولكن الأمر يحتاج إلى صبر كبير والصبر سلاح فعّال في مواجهة كل أنواع المشاكل ويملك من خلاله الإنسان روحية التحدي التي غالباً ما يحتاجها الفرد في كل عمليات الترويض والاصلاح والجهاد لنفسه ولغيره يقول أحد الشعراء:
تنكر لي دهري ولم يدر
 أني أعز وأحداث الزمان تهون

فبات يريني الدهر كيف اعتداؤه
 وبت اريه الصبر كيف يكون

كذلك يقول ثامسيطيوس: «لم يتفاضل أهل العقول والدين إلا في استعمال الفضل في حال القدرة والنعمة وابتذال الصبر في حال الشدة».
كما أن لرضا الشخص عن قدراته وصورته وهيئته وامكانياته التي منحها الله له دوراً كبيراً في غرس الأمل والرغبة في الاصلاح.
لا بد من غرس الأفكار الإيجابية وإثراء المشاعر المتفائلة مع الاستعانة بالمخيلة والتكرار لتثبيت هذه العوامل الايجابية في الذهن كما أنه طرد لكل الأفكار والتصورات الانهزامية السابقة. وبالتالي تخطي العثرات التي تعيق تحقيق الاصلاح والتغيير اللذين يتطلبان كل ما يمكن بذله مما أسلفنا فيه القول وتجنب كل ما يمكن تجنبه من القضايا التي عرّجنا عليها أيضاً في ما مر ذكره. فعملية التحلي والتخلي كما يسميها علماء الأخلاق لا بد أن تكون هي المعادلة القائمة لمعالجة الفساد والإنحراف والشذوذ، فالتحلي هنا يعني أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة وكل مكونات الطاقة الروحية والنفسية لاستعادة ما فاتنا منها ونيله من جديد والتخلي هنا يعني أن نتخلى ونترك كل ما يعيق عملية التكامل والرقي بهذه النفس التي أودعها الله أمانة في أعناقنا لا بد أن نخرجها إلى عالمها الملكوتي بريئة من كل دنس وتلوث.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=222
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19