النبي (ص) في مرض الموت
لما تحقق النبي صلى الله عليه وآله من دنو أجله جعل عليه السلام يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذرهم الفتنة بعده ، والخلاف عليه ، ويؤكد وصايتهم بالتمسك بسنته والاجماع عليها ، والوفاق ، ويحثهم على الاقتداء بعترته ، والطاعة لهم ، ويزجرهم عن الاختلاف والارتداد ، وكان فيما ذكره من ذلك قوله : يا أيها الناس إني فرطكم ، وأنتم واردون علي الحوض ، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، وسألت ربي ذلك فأعطانيه ، ألا وإني قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرقوا ، ولا تسبقوهم فتقرقوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، أيها الناس لا ألفينكم بعدي ترجعون كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، فتلقوني في كتيبة كمجر السيل الجرار ، ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي ، يقاتل بعدي على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله " فكان صلى الله عليه وآله يقوم مجلسا بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه ، ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وأمره وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من مقدمي المهاجرين و الأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرياسة ، و يطمع في التقدم على الناس بالإمارة ، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقه منازع ، فعقد له الإمرة ، وجد في إخراجهم وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه ، وحذرهم من التلوم والإبطاء عنه ، فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع ، فقال للذي اتبعه : إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم ، و قال : " السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها " ثم استغفر لأهل البقيع طويلا ، وأقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال : " إن جبرئيل عليه السلام كان يعرض علي القرآن كل سنة مرة ، وقد عرضه علي العام مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي ثم قال : " يا علي إني خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنة ، فإذا أنا مت فاستر عورتي فانه لا يراها أحد إلا أكمه " ثم عاد إلى منزله فمكث ثلاثة أيام موعوكا ، ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمدا على أمير المؤمنين عليهما السلام بيمنى يديه ، وعلى الفضل بن عباس باليد الأخرى ، حتى صعد المنبر فجلس عليه ثم قال : " معاشر الناس وقد حان مني خفوق من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها ، ومن كان له علي دين فليخبرني به ، معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شئ يعطيه به خيرا ، أو يصرف عنه به شرا إلا العمل ، أيها الناس لا يدعي مدع ولا يتمنى متمن ، والذي بعثني بالحق نبيا لا ينجي إلا عمل مع رحمة ، ولو عصيت لهويت اللهم هل بلغت . ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ، ثم دخل بيته وكان إذا ذاك في بيت ام سلمة رضي الله عنها ، فأقام به يوما أو يومين ، فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولى تعليله ، وسألت أزواج النبي صلى الله عليه وآله في ذلك فأذن لها ، فانتقل إلى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمر به المرض فيه أياما وثقل ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله صلى الله عليه وآله مغعمور بالمرض ، فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فاؤذن رسول الله بندائه ، فقال : يصلي بالناس بعضهم فإني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة : مروا أبا بكر ، وقالت حفصة : مروا عمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين سمع كلامهما ورأى حرص كل واحد منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله حي : " اكففن فإنكن صويحبات يوسف " ثم قام صلى الله عليه وآله مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين ، وقد كان صلى الله عليه وآله أمرهما بالخروج مع أسامة ولم يك عنده أنهما قد تخلفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره ، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة ، فقام صلى الله عليه وآله وإنه لا يستقل على الارض من الضعف ، فأخذ بيهد علي بن أبي طالب والفضل بن العباس ، فاعتمد عليهما و رجلاه يخطان الأرض من الضعف ، فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر أبو بكر ، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله مقامه فكبر وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله ، فلما سلم انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد من المسلمين ثم قال : " ألم آمر أن تنفذوا جيش أسامة ؟ " فقالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " فلم تأخرتم عن أمري ؟ " قال أبو بكر : إني كنت قد خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا ، وقال عمر : يا رسول الله إني لم أخرج لاننى لم أحب أن أسأل عنك الركب ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : " نفذوا جيش أسامة نفذوا جيش أسامة " يكررها ثلاث مرات ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف فمكث هنيئة مغمى عليه وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه و ولده ونساء المسلمين وجمع من حضر من المسلمين فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله فنظر إليهم ثم قال : " ايتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا " ثم أغمي عليه ، فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا ، فقال له عمر : " ارجع فإنه يهجر " فرجع وندم من حضر على ما كان منهم من التضجيع في إحضار الدواة والكتف وتلاوموا بينهم ، وقالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد أشفقنا من خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما أفاق صلى الله عليه وآله قال بعضم : ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول الله ؟ فقال : " أبعد الذي قلتم ؟ لا ، ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا " وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا ، وبقي عنده العباس والفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب وأهل بيته خاصة ، فقال له العباس : يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقرا من بعدك فبشرنا وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي ، وأصمت ، فنهض القوم وهو يبكون قد يئسوا من النبي صلى الله عليه وآله ، فلما خرجوا من عنده قال صلى الله عليه وآله : ردوا علي أخي وعمي العباس فأنفذوا من دعاهما فحضرا ، فلما استقر بهما المجلس قال صلى الله عليه وآله : " يا عم رسول الله تقبل وصيتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني ؟ " فقال العباس : يا رسول الله عمك شيخ كبير ، ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرما ، وعليك وعد لا ينهض به عمك ، فأقبل على علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : " يا أخي تقبل وصيتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عني ديني ، وتقوم بأمر أهلي من بعدي ؟ " فقال : نعم يا رسول الله ، فقال له : ادن مني ، فدنا منه ، فضمه إليه ، ثم نزع خاتمه من يده فقال له : خذ هذا فضعه في يدك ، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس سلاحه وخرج إلى الحرب فجئ بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال له ، امض على اسم الله إلى منزلك ، فلما كان من الغد حجب الناس عنه وثقل في مرضه ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام لا يفارقه إلا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله إفاقة فافتقد عليا عليه السلام فقال وأزواجه حوله : " ادعوا لي أخي وصاحبي " وعاوده الضعف فأصمت ، فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر فدعي ودخل عليه وقعد عند رأسه ، فلما فتح عينه نظر إليه فأعرض عنه بوجهه ، فقال أبو بكر فقال : لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي ، فلما خرج أعاد رسول الله صلى الله عليه وآله القول ثانية وقال : " ادعوا لي أخي وصاحبي " فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدعي فلما حضر ورآه رسول الله صلى الله عليه وآله أعرض عنه فانصرف ، ثم قال : " ادعوا لي أخي وصاحبي " فقالت ام سلمة رضي الله عنها : ادعوا له عليا عليه السلام فإنه لا يريد غيره ، فدعي أمير المؤمنين عليه السلام فلما دنا منه أومأ إليه ، فأكب عليه فناجاه رسول الله صلى الله عليه وآله طويلا ، ثم قام فجلس ناحية حتى اغفي رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما اغفي خرج فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علمني ألف باب من العلم ، فتح لي كل باب ألف باب ، وأوصاني بما أنا قائم به إن شاء الله تعالى ، ثم ثقل وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده ، فلما قرب خروج نفسه قال له : " ضع يا علي رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله تعالى ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري ، وصل علي أول الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى " فأخذ علي عليه السلام رأسه فوضعه في حجره ، فأغمي عليه ، فأكبت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل ففتح رسول الله صلى الله عليه وآله عينه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ، ولكن قولي : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنو منه ، فدنت منه فأسر إليها شيئا تهلل وجهها له ، ثم قبض صلى الله عليه وآله ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه صلى الله عليه وآله فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره ، فجاءت الرواية أنه قيل لفاطمة عليها السلام : ما الذي أسر إليك رسول الله صلى الله عليه وآله فسرى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته ؟ قالت : إنه أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقا به ، وأنه لن تطول المدة لي بعده حتى أدركه ، فسرى ذلك عني. (1) ------ (1) البحار ج22 ص465
|