• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : نظرة أولية في الديموغرافيا اللبنانية (2) .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

نظرة أولية في الديموغرافيا اللبنانية (2)

 

 


نظرة أولية في
الديموغرافيا اللبنانية (2)


إعداد: الشيخ علي سليم سليم

إن للجغرافيا تأثيراً أساسياً ومباشراً على أحداث التاريخ وتطوراته. وإن التفاعل بين العلمين جذري وحي ومتواصل. لذلك كان الترابط بين الموقع الجغرافي والبيئة الطبيعية، ونوازع الإنسان ودوافعه، وقابلياته وسلوكه من الأمور البديهية والمحتمة في مقدمة المبادئ العامة التي لا بد أن تحكم السياق التاريخي لأي بقعة من الأرض. أو مجموعة من البشر منذ بداية النشاط الاجتماعي والمدني والحضاري للإنسان من أقدم الأزمنة وحتى عصرنا الحاضر.
انطلاقاً من هذا المبدأ يقول الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان: أعطني خارطة بلد ما واذكر لي صفاته السطحية وعيّن جغرافيته الطبيعية وسأخبرك ما سيكون عليه الإنسان في هذا البلد وأي دور سيلعبه في التاريخ ليس خلال حقبة واحدة من الزمن بل في جميع الفترات.
كيف كتب تاريخ لبنان؟:
التاريخ مادة سياسية بامتياز، خصوصاً في مجتمع كالمجتمع اللبناني. على أن الدراسة التاريخية تتخذ أحياناً شكل النبش الأركيولوجي (علم الآثار) في الذكراة الجماعية لشعب من الشعوب..
فمعظم كتب التاريخ لها وجه طائفي، ليس لدينا تاريخ مكتوب بموضوعية وأمانة علمية بالرغم من ادعاء معظم المؤرخين الموضوعية. غير أن هذا الزعم سرعان ما يتلاشى ويضمحل عند أدنى منعطف للأحداث التي من المستحيل أن يتجرد فيه المؤلف من نوازعه ودوافعه وعاطفته المذهبية أو الطائفية... والوقائع الحاصلة في كل الأحقاب ما يؤشر على ذلك مثلاً الأمير فخر الدين المعني ويوسف الشهابي وطانيوس شاهين أبطال تاريخين بينما أدهم خنجر وصادق حمزة وسواهم ممن حاربوا الاحتلال الفرنسي قطاع طرق ومجرمين! ومن يدري فلعل من قاوم ودحر الاحتلال الإسرائيلي من لبنان وانتصر على حرب الابادة في عدوان تموز يكون كذلك!
بدأت في الفترة الأخيرة تظهر عن بعض المراكز الجامعية والمجلات المتخصصة أبحاث علمية موضوعية حول تاريخ الشيعة في جبل لبنان العثماني في أميركا وأوروبا تستند بشكل خاص على الوثائق الحكومية الرسمية. وتقارير الرحالة والدبلوماسيين الأوروبيين، يبرز فيها الدور الشيعي وأهميته الواقعية، وتركز على التجاهل المنهجي المقصود والطمس المتعمد للدور الأساسي والرئيسي الذي قام به الشيعة في الفترتين المملوكية والعثمانية في تاريخ المناطق التي يتألف منها لبنان الحالي، وكيف حاول التاريخ الكلاسيكي منذ ظهور البطريرك الدويهي وما ظهر بعده في القرون اللاحقة من حصر للتاريخ اللبناني في منطقة ضيقة هي جبل الدروز وتعميمه بدون مبرر على غالب المناطق اللبنانية الأخرى في جبل لبنان والبقاع وجبل عامل، وهي تؤلف القسم الأعظم من لبنان الذي كان تحت الحكم الشيعي حصراً معظم الفترة العثمانية، ولم يكن للمعنيين والشهابين وغيرهم من حكام جبل الدروز موقعاً سياسياً أساسياً فيه يتجاوز دائرة الجوار والتبعية للولاية العثمانية نفسها.
إن الاعتماد على المصادر المعروفة والمتداولة وحدها... تبقي أي بحث في تاريخ لبنان داخل أسوار مغلقة من المعلومات الموضوعة والمفترضة، كي تخدم سياقاً مرغوباً ومأمولاً ومعتمداً بشكل مسبق، وجامداً لا يلامس إلا ما يتوافق معه، حريصاً على الباسه ثوب الواقعية والمصداقية الموهومتين، ولو بدون توفيق وإقناع في غالب الأحيان .
تشعر أحياناً حينما تتصفح بعض الكتابات في التاريخ وأحداثه كأنك في جنة الفردوس! حيث تجد المودة والوئام والسلام! عالم المُثل هذا المدهش يجعلك تسأل: ما كان يجري من صراعات طائفية، هو صراعات مذهبية أم مجرد صراع عصبيات بين زعامات عشائرية بحسب ما يقول البريطاني ريتشارد إدوارد؟ فهل التعايش الطائفي حقيقة تاريخية مؤكدة... أم مجرد رواسب من كليشهات الصيغة اللبنانية كما تقدمها الأدبيات الرسمية وما تبعها والتعبير الأدق الذي ينطبق على هذا «العيش» هو عيش الضرورة!
ولكن لم تعدم الأحوال في فترات عديدة من التاريخ ما قام به عقلاء طوائف من لجم لتداعيات الأحداث والفتن خصوصاً أحداث 1860 وإبطال مفاعيل التضليل المذهبي الذي مارسه طانيوس شاهين، إذ برر غاراته على قرى الشيعة بأن ادعى تلقي الدعم من البطريركية.
بيد أن هذه الصيغة سرعان ما تتهاوى عند تصادم مصالح الزعامات وتنازع رجالاتها، وسيكون على عوام الطوائف أن يدفعوا الثمن ويعانوا التنكيل والقتل والتهجير، فيما يبرز العامل الخارجي لاعباً أساسياً وراسماً للمصائر والذي يعود إلى مرحلة التأسيس الأولى للوطن الذي قام على عقيدة الارتباط بحكم المتصرفين ثم القناصل ثم السفراء، وصولاً إلى قادة الجيوش الأجنبية، والذي استمر على ثقافة التسليم للخارج مهما كانت هويته بأنه شريك طبيعي في حل الخلافات الداخلية... وكل ما افتعل منذ الاستقلال وحتى اليوم من تربية وثقافة وطنية كان مجرد هراء، سخرت منه الحروب الأهلية المتواصلة وخطوط التماس التي رسمت ولا تزال ترسم دون انقطاع بين الطوائف والمذاهب وأقامت البرهان عليه تلك المواقف الخارجية، العربية والأجنبية، التي تخفي احتقارها للبلد وأهله، وتؤمن بالفعل بالمقولة الخالدة: لبنان ليس وطناً للبيع، بل للإيجار لمن يدفع أكثر ! وبعد ثمة من يحدثك عن الدولة والحفاظ عليها!! وترنيم أغنية التعايش والوحدة الوطنية وغيرها من الشعارات الفارغة المضمون، والتي يفترض ان تكون صادقة وحقيقية، لأن الطريق الوحيد لحماية الوطن من عبث العدو بالأمن والاستقرار. هو الولاء الحقيقي للوطن وحفظ سيادته والذود عنه وبذل المهج دونه.
ولا يمكن اخفاء ما قام به الولاة العثمانيون من أعمال التسليح والتمويل للموارنة في سابقة ليس لها مثيل في تاريخ السلطنة، وامعاناً في اذكاء النفور والتحريض المذهبي. مضافاً إلى الفتاوى الشرعية غير المألوفة والتي أباحت دم الشيعة وحللت للذمي قتل المسلم الشيعي والاستيلاء على أملاكه بدون مساءلة. الأمر الذي جعل الشيعة يتصدون لقرار دولي إقليمي كبير بقدرات متواضعة.
إبان ذلك أدرك شيخ مشايخ العاملين ناصيف النصار أن التخلص من الاحتلال العثماني لا يتم إلا بإقامة الوحدة الداخلية والاتفاق الاقليمي والتحالف مع القوى المتمردة على السلطنة. فوحد كلمة المشايخ العاملين أولاً (1750م) ثم انطلق لتوحيد كلمة الفلسطينيين والدروز ومشايخ جبل لبنان الحماديين من أجل إنشاء جبهة واحدة عريضة تقوم على شراكة سيادية استقلالية لمواجهة الاحتلال فعقد لقاء تاريخياً توحيدياً في عكا مع الشيخ ظاهر العمر (1767م) كان أحد أهدافه فك الارتباط مع والي صيدا بحيث لا يكون للباشا شأن مع جميع المتاولة في دفع المال الميري. وتحالف مع علي بك المصري المتمرد على السلطنة، واستفاد من دعم الأسطول الروسي ليشن عدة معارك كبرى وناجحة ضد الولاة العثمانيين.
إنّ فكرة تهجير الشيعة من جبل لبنان وإقامة كيان طائفيّ مغلق في بلادهم وتنصيب أمير مسيحيّ على رأسه، والتي بدأت المناداة بها والترويج لها في أوساط رهبانية وقنصلية في حلب، انتقلت إلى لبنان وأصبحت موقفاً سياسياً دائماً وثابتاً تعمل له جهات لبنانية وأوروبية متعددة ومحدّدة، وتسعى لإيجاد الأرضية المناسبة لاطلاقه والعمل على تحقيق حشد الدعم الدوليّ له بانتظار الأجواء الدولية والعثمانية الملائمة التي تسمح بالشروع في الخطوات التنفيذية على أرض الواقع، والسير في التخطيط المعدّ مقدّماً بدراسة وعناية تؤمّن له سبل الولادة والنموّ.
يرى محمد جميل بيهم أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التهجير تعود إلى أسباب داخلية وخارجية، من أن سياسته العثمانية تعمل على كسر شوكة كل أسرة يبدو خطرها، فلما استفحل أمر هؤلاء إبان ما كانت فرنسا ومن ورائها الفاتيكان تريد إعادة الحكم للموارنة على تلك البلاد استجابت اسطنبول لباريس. غير أنه كلام يفتقر إلى الدقة لأنه لم يكن وجود للموارنة قبل القرن السادس عشر والتواجد الشيعي في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي.
في منتصف القرن الثامن عشر كان هذا المشروع الخطير قد تجاوز مرحلة البحث والدراسة، وأصبح ملفاً مكتملاً ومُعدّاً للتنفيذ ينتظر الظرف السياسي الدولي المؤاتي في دوائر القرار في روما وباريس. وبين يدي المتابعين لمراحله والساهرين على ابقاء الاهتمام به قائماً لدى الجهات الإرسالية والكنسية اللاتينية المحلّية.
التواجد الشيعي أصيل:
فقد شمل حكم بني عمار مضافاً كطرابلس جبيل وسواحل كسروان حتى نهر الكلب من عام 1069م إلى حين سقوط هذه الأماكن بأيدي الصليبيين. وذكر ناصر خسرو عند زيارته لطرابلس 1047م أن سكانها كلهم شيعة، وقد شيد الشيعة مساجد جميلة في كل البلاد أي الجوار .
وكانت جماعات من الشيعة تسيطر على لبنان كله، ما عدا مناطق  بشري والبترون وجبيل في الشمال. أما كسروان وأكثر سكانها اليوم من الموارنة، فظلت حتى القرن الرابع عشر آهلة بالشيعة. وما زال جبل الضنية، يحمل اسم الجماعة الشيعية إلى اليوم...
وكان معظم سكان بلاد الشام حتى أواخر القرن الثالث عشر من النصارى، كما كان معظم المسلمين من الشيعة.. وفي عهد المماليك تحول إلى المذهب السني في بلاد الشام كثير من النصارى والشيعة تفادياً للاضطهاد المستمر . ويعود تكاثر عدد السنة في لبنان إلى هذا العهد وللأسباب الآنفة.
كان الموارنة يسكنون في شمال لبنان، أي في منطقة الزاوية وبعض قرى البترون وجبيل. وسبقه الوجود الإسلامي بنحو خمسة قرون.
وعن بعض مؤرخيهم: المطران يوسف دريان: أن الموارنة كانوا في الواقع قليلي العدد وكانوا يقطنون مشارف الجبل ووهاده في أسقفيات جبيل والبترون وطرابلس.
ويقول الأب لامنس: وعندنا أن الموارنة لم يتوطنوا كسروان قبل القرن السادس عشر.
ويذكر عن البطريرك الدويهي أنه لم يكن في كسروان ولا كنيسة واحدة. فأول كنيسة شيدت في سيدة عجلتون عام 1665م، وأول دير أقيم فيه هو دير مارشليطا عام 1628م. وكل ما انشئ فيها من كنائس هو مستحدث بعد هذا التاريخ .
بقيت القوى المؤثّرة في عملية التهجير متحالفة لمدّة طويلة لاحقة منتهجةً سياسة متكاملة ومنسجمة بسبب وحدة المصلحة التي تجمعها في منع عودة الشيعة واستكمال تهجير الباقين ومحاولة معالجة ذيول كلّ ذلك من النواحي الواقعية والديموغرافية. ورغم تبدّل الظروف والمعطيات، بقي هذا الحلف متماسكاً وناشطاً وفعّالاً بأعمدته الثلاثة: السلطة العثمانية والارساليات الأجنبية والكنيسة المارونية إلى وقت متأخّر. ولا بدّ من الإشارة إلى الدور المتنامي الذي قامت به الرهبانيات اللبنانية معتمدةً على فعاليّة تنظيمها ودقّته، وازدياد مواردها المالية إلى حدٍّ كبير بعد أن أنشأت الصندوق العام للرهبنة سنة 1748م وازداد انغماسها في القضايا السياسية والاجتماعية، ووضعت في رأس أهدافها جعل لبنان مدى حيوياً للرهبنة المارونية أي للطائفة المارونية نفسها. وعملت على «إعادة الطابع الماروني الأصيل للمنطقة في جبيل والبترون والزاوية من سنة 1766م. فصاعداً». وكانت هذه الأهداف الشديدة الوضوح الركيزة الأساسية للوطن القوميّ المسيحيّ الذي سيصبح بعد حين شعار الرهبنة «لبنان بيت مارون أو المدى الحيوي للرهبانية». فقامت بجهود كثيفة متعددة الوجوه مالية وسياسية واقتصادية واجتماعية لاستئصال كلّ مظاهر الوجود الشيعيّ وآثاره في المناطق التي اعتبرتها قد استعيدت للمارونية، وحان الوقت لتثبيت مارونيّتها الصافية.
لا بدّ أنّ عرّابي  مشروع التهجير والمتحمّسين له والمستفيدين منه قد لحظوا أنّ الوقت قد حان لتنفيذ ما ينتظرون منذ زمن ملاءمة الأوضاع للسير به، وهي فرصة قد لا تتكرّر مرّةً أخرى على الصعيد الدوليّ. وما وصل إليه النفوذ الفرنسيّ والبابويّ الداعم لهذا التوجّه في عاصمة الدولة العثمانية الضعيفة صاحبة السيادة على المناطق المستهدفة، والجهوزية الذاتية المارونية بإمكاناتها السياسية والمادية، وانتشارها في مناطق واسعة لم تكن تتواجد فيها قبلاً، خصوصاً وأنّ العقبة الأساسية في وجه هذا المشروع وهم الحماديون والشيعة عموماً ليسوا في هذا الوقت بالذات في أحسن أحوالهم. فبدأت القيادات المارونية تتهم الحماديين بالتعسف الشديد، وتسعى إلى محاربة نفوذهم بدعم مباشر من الفرنسيين. ويقدر القنصل الفرنسي استيل Estelie في تقريره بتاريخ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 1702م عدد المقاتلين الموارنة بخمسة آلاف ممن هو فوق العشرين وفي ذلك إشارة واضحة إلى الدور الموكول لهذه القوى المحلية في مخططات الفرنسيين منذ مطالع القرن الثامن عشر» .
وكانت الدولة العثمانية قد تمكّنت بعد حروب طويلة من اقصاء الشيعة عن عكّار والضنّية. وقد أنهكتهم الحروب المستمرّة منذ عقود، وأدّت إلى نقص ملحوظ في  أعداد مقاتليهم. وقد نجحت حملات من الإثارة الطائفية والاعلامية المتكرّرة والمدروسة في خلق عدائية نحوهم في بعض الأوساط المارونية، ساهم في اذكائها موجةٌ عارمة مصطنعة من الشحن الطائفيّ، وآمال عريضة بالمغانم والأسلاب لوّح بها ولاة الشام وطرابلس ـ اعتماداً على فتاوى رسمية وشرعية تبيح الأنفس والأموال والممتلكات ـ لكلّ من يشهر عداوة بوجههم ويشترك في قتالهم مع العساكر العثمانية المداهمة.
في هذه الفترة كانت السلطات التركية فرحة لرؤيتها نوعاً من الوفاق والوحدة بين الموارنة والدروز، لأن التعاون الماروني الدرزي كان ضرورياً لكسر شوكة المتاولة الذين كانوا حتى الآن يفرضون أوامرهم، ويوحدون أنصارهم حولهم. فهم ينظرون إلى الأتراك نظرة شك وارتياب وليس خضوعهم للسلطان إلى يومنا هذا إلا خضوعاً زجرياً لا يؤمنون به.
بعد هذه الفترة، استمرّت عمليات التهجير ناشطةً طيلة عهد الأمير يوسف وخلفه الأمير بشير. وكانت تتمّ غالباً على شكل موجات متباعدة تقتصر على مجموعات أو أفراد من إحدى القرى أو إحدى العائلات أجبروا على مغادرة قراهم هرباً من الضغط والتنكيل، وسياسة معتمدة متّبعة بقي يشارك فيها أكثر من طرف وفي مقدّمتهم السلطة العثمانية بواسطة فرماناتها وعساكرها حتى سقوطها على يد الجيش المصري الغازي وتقلّص صلاحيات الأمير بشير الثاني قبل سقوطه نهائياً عام 1840م.
في بداية حملات التهجير العسكرية العثمانية أعلن الفرمان بالختم الكبير صادر عن الصدر الأعظم إلى مشايخ الجبة وأهاليها يهبهم فيه دماء المتاولة وأرزاقهم. كما صدر من لدن الشرع الشريف فتوى نافذة تبيح قتل المتاولة بدون حرج أو مساءلة، وحينما بدأت قوافل المهجرين تتجه شرقاً هرباً من مذابح الجيوش العثمانية ومن يرافقها من المخططين والمحرضين، أصدرت السلطة العثمانية فرامانات تمنع بموجبها جميع الشيعة من العودة إلى أرزاقهم وبيوتهم المهجورة والدخول إلى جميع البلاد التي كانوا فيها. ومع أنّ الخضوع لفرمانات السلطان لم يكن من عادات الشيعة المعروفة وشيمها المشهورة، إلا أنّه من الواضح أن قوى هامّة وفعّالة كانت تسهر في الواقع ليس على جعل هذه العودة مستحيلة فحسب، بل على استمرار وتيرة الهجرة المتواصلة باستعمال مختلف الأساليب الكفيلة بذلك. وهي قوى تتمتع بنفوذ طاغ على أعلى المستويات في عاصمة السلطنة حتى استطاعت أن تملي على أصحاب القرار إرادتها ورغبتها، وتدفعهم إلى اصدار هذه المراسيم والفرامانات واستصدار مثل هذه التفاوى التي تخالف العرف والتقاليد والشرع معاً.
«إن تهجير الحماديين والشيعة من شمال لبنان وبلاد جبيل والفتوح ومصادرة أملاكهم وتوزيعها على عائلات اقطاعية من الموارنة وعلى الأديرة والكنائس والفلاحين هو عمل تعسفي جائر. الهدف منه تقسيم لبنان واقتلاع الحمادية والشيعة من جذورهم اللبنانية وطردهم إلى مناطق أخرى. وكان رد آل حمادة بعد تسعين عاماً على هذا التهجير رداً وطنياً نبيلاً حيث طالبوا أن تكون بلاد الهرمل جزءاً لا يتجزأ من متصرفية جبل لبنان وتابعة لقضاء البترون منعاً لتقسيم لبنان إلى كيانات طائفية».
كانت الخطوة الأولى التي قام بها المنظّمون والمنفّذون هي الاستيلاء على أملاك المهجّرين وقراهم ومزارعهم وبيوتهم وتمليكها إلى القادمين الجدد حكاماً وتنظيمات ورعية.
بعد تعيين الأمير يوسف رفع تولي المشايخ الحماديين عن كامل معاملة طرابلس واخذت النصارى تتألب عليها لتوطّنها.
استقدمت عائلات من مختلف الأنحاء خارج جبل لبنان خصوصاً من الشوف والمتن وكسروان حلت مكان المهجرين في بيوتهم، واستولت على أملاكهم، واقطعت الأراضي والمزارع والقرى إلى مستعمرين غرباء عنها. ونال كل من قاتل الشيعة أو ادعى ذلك أو أبدى استعداده للقيام به نصيباً من الغنيمة.
ترك الشيعة أملاكاً شاسعة وزعت على ملاكين جدد. ومنهم آل حنا الضاهر وآل عيسى الخوري في بشري وآل عواد وآل الشدياق في حصرون وآل العازار في الكورة وآل اسطفان في كفر صغاب وآل طربيه في تنورين.
دور الدروز في تهجير الشيعة:
إلى جانب القوات النظامية العثمانية والمقاتلين الموارنة الذين أغراهم والي طرابلس بالتقديمات المادية وزوّدهم بالسلاح والبارود وبالقادة العسكريين. لعب الدروز دوراً رئيساً وأساسيّاً في مقاتلة الشيعة وتنفيذ المخطط التهجيري وربّما عن غير قصد. وذلك على امتداد فترة متمادية كان المقاتلون الدروز يتوافدون فيها على شمال لبنان من الشوف والجرد وبقية المناطق الدرزية للقتال تحت راية الأمير يوسف وسعد الخوري. فكان على الشيعة مجابهة تحالف ثلاثيٍّ مؤلّف من القوات العثمانية والمقاتلين الدروز وما تمكّن والي طرابلس والمجموعة التي تدير الأمور باسم الأمير يوسف من جمعه من الرجال الموارنة وخصوصاً من أهالي جبة بشري. ولا بدّ من التساؤل أيضاً عن سبب الحماسة التي أظهرها الدروز في الاشتراك في هذا المخطط ومشاركتهم في القتال منذ اللحظة الأولى، وما هي القوة الدافعة التي كانت تقف خلف هذا الحماس، وهل إنّ مساعي سعد الذي كان يزور الشيخ علي جنبلاط والشيخين كليب وخطار النكديين معتمداً على حسن بيانه وعذوبة حديثه كافية لاستمالتهم إلى جانب مخدومه كما يرى أحد المؤرّخين «في المختارة مقرّ الجنبلاطيين وضعت المخططات التي أدّت في النهاية إلى أن يستأنف يوسف الابن الأكبر للأمير ملحم حمل السلطة».
«نتج من نزوح الموارنة من الشمال إلى كسروان تهجير الشيعة من هذه المنطقة، على مدار سنين طويلة، نتيجة أعمال عنف واضطهاد دفعت فئة كبيرة من أهلها إلى النزوح القسري باتجاه بعلبك وجبل عامل. ولا تقل حالات التقية التي مارسها بعض السكان، الذين رغبوا في البقاء في موطنهم عن عمليات التهجير، وإن كان تهجيراً يتم في ضمير الإنسان.
تتالت المعارك في هذه المنطقة وجوارها. وعنفت عمليات التهجير، وأخذ الموارنة يتوافدون بكثافة من الشمال إلى بلاد جبيل ومنطقة كسروان، بدعم وتشجيع ظاهرين من الأمراء المعنيين ومن ثم من خلفائهم الشهابيين، وبخاصة في أيام الأمير يوسف شهاب، حاكماً في جبيل، وأميراً على الجبل، وكان لمدبره الشيخ سعد الخوري دور فاعل في عملية التهجير، ولا سيما بعد أن أنزل بالحماديين هزيمة، كان في أثنائها على رأس قوات الأمير يوسف شهاب، حاكم جبيل حينذاك، وقد حمل هذا النزوح أبعاداً سياسية ذات اتجاهات طائفية، إذ طبعت كسروان، تحديداً، بطابع خاص منذ ذلك الزمن، وأصبحت منطقة مارونية، ولم يعد لسكانها «الأصليين» وجود يذكر».
والواقع أنّ محاولة العودة لم تنقطع أبداً وبجميع الوسائل القتالية والقضائية والسياسية والشعبية.
وقد بقيت هذه العودة المفترضة هاجساً دفع المستفيدين من الوضع الجديد إلى اتخاذ كل التدابير السياسية والعسكرية التي تواجه مثل هذه المحاولات. ومعظم الأراضي صودرت، وجعلت أوقافاً للكنيسة، وبعضها لا يزال عالقاً ومختلفاً عليه حتى اليوم... وأكثر من ذلك أن المراكز الثقافية ودور العبادة المنوي انشاؤها تواجه بشتى العراقيل!
فبالإضافة إلى حملة الاستقدام الواسعة لإملاء الفراغ السكاني الذي خلفه المهاجرون بأعداد كبيرة من الموارنة زرعت في أرضهم وأملاكهم لتقف حائلاً دون ذلك، تألفت كتائب عسكرية خاصة حمل أفرادها بنادق حفر على بعضها اسم سعد الخوري لتقوم بمهمة مزدوجة هي مواجهة عودة النازحين إذا أقدموا على ذلك وتهجير من ظل متشبتاً  بالبقاء رغم كل شيء، من جهة أخرى.
اكتفى بعض المؤرّخين الأقلّ تعصباً بإشارة خاطفة إلى الحرب التي شنّها المقاتلون القادمون بمعظمهم من خارج المناطق التي هبّ الشيعة من أهلها إلى التصدي والمقاومة ووصفوها بالطويلة والمشهورة متجاوزين عن وحشية المذابح التي اقترفها المنتصرون بعد استتباب  الأمر لهم ضدّ بعض قوافل النازحين في طريق هربهم نحو الشرق والشمال. وحاولوا اطلاق اسم المعارك عليها، وهي في الواقع غزوات تقوم بها العساكر العثمانية وخليط من الدروز القادمين من الشوف وملحقاته وبعض أهالي جبة بشري وبكباشيّتها وأتباعهم بقيادة الأمير يوسف نفسه أحياناً أو أحد مساعديه النافذين أحياناً أخرى.
وتستهدف جماعات الهاربين بعائلاتهم ومتاعهم يفتّشون عن ملجأ آمن آنيّ أو دائم يقيهم شراسة المذابح التي قد يتعرّضون لها في حال البقاء في قراهم أو في مزارعهم. إنّ معارك دار بعشتار وبزيزا وأميون  والقلمون ـ التي حفل بها التاريخ المتداول والذي كتبه حصرياً أحد الفريقين دون الآخر الذي لم يكن من أولويات اهتماماته في هذه الأثناء أن يكتب تاريخه الحقيقي ـ لم تكن في واقع الأمر سوى مذابح قام بها الفريق المنتصر المدعوم من السلطة الحاكمة والمستند إلى دعم سياسي ومالي ودولي مؤثّر ضدّ بعض العائلات الهاربة وغالبيّتها من النساء والأطفال، لأنّ قسماً كبيراً من الرجال كان قد سقط في المعارك السابقة. ولمّا كانت تحصل بعض الانتفاضات الشيعية المعزولة والمحدودة في إحدى القرى أو الوديان، كان الاستنفار يعمّ ولايتي طرابلس وصيدا. وقد تصل الاستغاثات إلى عاصمة السلطنة طالبةً المدد والعساكر للقضاء على المتمرّدين على السلطة والعاصين على الدولة، كما حصل إثر هوشة العاقورة التي لم تكن أكثر من انتفاضة احتجاج غاضب من بعض الفلاحين ـ المتأخّرين عن النزوح ـ في وجه بشير السمين الذي كان يجمع الضرائب لحساب سلطة الذبح والتهجير في هذه الأثناء.
توالت النكبات على الشيعة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولم تكن عناصر قوّتهم ومنعتهم واستقلالهم هي المستهدفة وحدها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى استهداف وجودهم وكيانهم بذاته. فتألّبت عليهم جهات متعدّدة وقوى متحالفة وفاعلة يغذّيها دعمٌ سياسيٌ وعسكريّ وماليّ محلّي ودوليّ غير محدود. شُنّت عليهم حروبٌ شرسة في ظلّ موازين قوى غير متكافئة هدفت إلى القضاء على تواجدهم في مناطق معيّنة ومحدّدة، والاستيلاء على بلادهم وأملاكهم بدفعهم شرقاً نحو السفوح والسهول إلى خارج ما كان يعتبر في ذلك الوقت من لبنان وتوجيه ضربة تهزّ عنفوانهم وإرادة الصمود والمقاومة لديهم لاقفال أيّ طريقٍ قد يخرجهم من هذا النفق المظلم ويبعث في نفوسهم أمل الخلاص والعودة.
دخل جبل عامل وقتذاك في أقسى فترات تاريخه وأشدّها مرارةً ومأساوية بعد معركة يارون ومقتل ناصيف النصار الوائلي الزعيم الشيعيّ التاريخيّ في أيلول 1781م. والذي فقد العامليون بعده استقلالهم الذاتي واستقرارهم الاقتصادي والعسكريّ وكلّ ما نعموا به ودافعوا عنه بتشبّث  وعناد طيلة قرون ماضية، فاجتاحته عساكر الجزّار لتنشر الموت والدمار حيث مرّت فتسبي نساءه وفتياته، وتبعثر أهله وسكّانه في كلّ أرجاء الأرض حتى وصل بعضهم إلى أقاصي الهند والأفغان، وبيع أطفاله ونسائه في الأسواق بيع العبيد الأرقاء بعد أن قتل وأسر معظم شيوخه وأعلامه وعلمائه وفرّ الباقون هرباً من المصير المرتقب. فضبط الجزّار أملاكهم واستولى على مقتنياتهم  وبسط يده على أراضي الدولة.
يصر بعض من كتب عن تاريخ الشيعة في لبنان على افتراض محطات، هاجروا فيها إليه من خارجه، واستقروا في ربوعه ومنها جبل لبنان في حقبات زمنية تتفاوت منذ أيام معاوية عند بعضهم، وفي فترات لاحقة عند آخرين، وأنهم أتوا إليه من فارس، أو من العراق وربما من أماكن غيرها؛ وهذه كلها افتراضات واهية لا تقوم على أساس يمكن التوقف عنده والاهتمام به. فالشيعة في الواقع، هم بعض من سكان لبنان اعتنقوا التشيع في فترة ما لأسباب موضوعية، أو سياسية، أو عقائدية، كما اعتنق بعضهم الآخر غير هذا المذهب من معتقدات، مثلهم مثل غيرهم من سكان طرابلس وحلب والجليل وحتى دمشق، في ظروف سياسية موآتية، وخصوصاً على عهد الفاطميين ودولة بني عمار وبني حمدان. وعصمتهم مناعة جبالهم، وحصنتهم عن التحول عن معتقدهم كما فعل آخرون بعد تغير الأحوال والظروف. إن كسروان بمفهومها الجغرافي الواسع الذي كانت تعنيه حينها، وكذلك جزين وبلاد بعلبك وجبل عامل، حافظوا جميعاً على تشيعهم في الوقت الذي انحسر فيه هذا المذهب عن طرابلس وبيروت وغيرها من المدن والسواحل والسهول، حيث يتوفر في يد السلطة مجالٌ أرحب لفرض ما تريد على من تريد، بينما تقصر عن مثل هذه القدرة، أو بعض منها في مسالك الجبال والمراكز السكنية العصية والممتنعة لأسباب طبيعية وجغرافية لا تخفى.
يقول صالح بن يحيى في تاريخ بيروت و»استمر التشيع في كسروان  وجوارها بمن نجا من سكانها بعد حملات الافناء المملوكية والسالم منهم تفرقوا في جزين وبلادها وبلاد بعلبك وبعضهم أعطوا الدولة أمانهم». ولا بدَّ أن قلة منهم قصدوا الأماكن الجبلية المجاورة، القليلة السكان في جبل لبنان، فلم يبق منهم في كسروان إلا بقية قليلة بعد أن كان وجودهم فيها كثيفاً ومعروفاً ومتقدماً، إلى حدٍّ استدعى تأليف المصنفات الخاصة بالرد على فقهائهم واعتقاداتهم، وما اشتهر عنهم من تشيع راسخ القدم.
يصرّ بعض المؤرّخين المحدثين المتحمسين ـ وخصوصاً من رجال الدين ـ على رسم صورةٍ تاريخية مغايرة للواقع عن يوسف الشهابيّ، واختلاق شخصية وهمية له واهنة الصلة بحقيقته التاريخية. حتى أنّ بعضهم وصفه بالعدل وطالب بتمجيده باعتباره زعيماً تاريخياً. وكلّ ذلك لأنّ الأمير الذي لم يكن حاذقاً في تدبير الأعمال تسلطت عليه جماعة غامضة جعلت من عهده سلسلة متواصلة من الفتن والاضطرابات يسّر لها منصبه وموقعه بثّ الدسائس والأحقاد بين مختلف المجموعات اللبنانية الطائفية والعشائرية اشباعاً لنهمها البالغ إلى المال والسلطة والتملك، واندفاعاً ساذجاً ومتهوّراً إلى تحقيق أهداف سياسية خيالية مبطّنة ومبهمة انتهت به بعد إمارة مهتزّة وقلقة ودموية إلى الموت خائفاً وذليلاً وفي عنقه منديل أبيض شعار الخضوع المطلق الذي لم يفارقه طيلة فترة حكمه مشنوقاً على باب بشناقي مهووس كان قد اختاره يوماً ليكون من بين خدمه ومساعديه.
يختصر القنصل بازيلي حال الشيعة كما يراها بعد الهزائم المتكررة التي لحقت بهم.
ولم يكن القناصل والمراقبون الآخرون بعيدين عن الصورة القاتمة التي رآها زميلهم الروسي؛ فإن القنصل الفرنسي هنري غيز يبدو أكثر انفعالاً حين رأى أن الشيعة قد طردوا من بلاد جبيل، فتراجع بعضهم إلى ضواحي بعلبك. أما الآخرون، فاحتفظوا ببعض القرى في مقاطعتي جبيل وبشري وكانوا فيها ذوي بأس وقوة. بيد أن الجزار أتى عليهم نهائياً إثر قتله زعيمهم.
إن هذا الباشا جعل منهم فلاحين مقابل أجر معين يتقاضونه، ومذ ذاك أصبحوا يعيشون بؤساء ثم أرهقهم تعنت الحكام المسيحيين والأتراك الذين ناهضوهم فازدادوا فظاظة  وخشونة. بحسب تعبير القنصل الفرنسي. ورأى أن أقاليم البلان والخروب والتفاح والريحان والشحار كانت تخص الشيعة غير أن الشهابيين استولوا عليها بتشجيع من الجزار الذي ضايقه موقف الشيعة التهديدي لهذه الأقاليم التي كانوا يعيثون فيها فساداً كلما نشب خلاف بينه وبين الطائفة، التي تحولت من أكثرية معتد بها إلى أقلية فاعلة قبل أن يهمش دورها بعد اعلان دولة لبنان الكبير. وبقيت كذلك طائفة بلا وزن ولا دور ولا تأثير، حتى مجيء الإمام موسى الصدر فحاربه الاقطاع السياسي الشيعي ومن كان يشغله آنذاك في كل موقع وفي كل ناحية، ولم يكن يريد أن يسمح له حتى بإنشاء المجلس الشيعي الأعلى. لكن الإمام الصدر الذي كان ماهراً في السياسة عرف كيف يواجه هذا الاقطاع المسؤول الأول عما وصلت إليه أحوال الطائفة المزرية. وثبت كيانها في بلد الطوائف وبعد الحرب الأهلية فرضت الطائفة الشيعية نفسها ودخلت المعادلة السياسة كشريك في مجتمع الطوائف اللبناني لأول مرة في تاريخ الكيان. متجاوزة كل ماضي الالغاء.
الشيعة والفتنة الطائفية:
لم يتورط الشيعة بشكل عام في الأحداث الطائفية الخطيرة التي عصفت بلبنان في أواسط القرن التاسع عشر وإن كانوا يميلون غالباً إلى مساندة النصارى. فدور الحرافشة في انقاذ زحلة من الهجوم الكبير حفظ كافة النصارى ومنع الدروز من إذلالهم وشارك بعض المشايخ الحمادية وفرسانهم في الدفاع عن دير القمر إبان حصارها المشهور، كما وقف الموقف نفسه الإمام موسى الصدر إبان الحرب اللبنانية أثناء حصار دير الأحمر. كما شارك ثلاثة من المشايخ الحماديين في مجتمع النصارى في بعبدا مع فرسانهم للنظر في أمور الدفاع عن النصارى المهددين. وكان فرسان الحمادية في مقدمة النصارى في هجومهم على الشويفات ومنع بكوات بيت على الصغير حدوث قلاقل في بلادهم وحالوا دون كل شر على النصارى. أثناء أحداث 1860 ومع اتساع حلقة الحرب والصدامات شهد جبل لبنان حركة تهجير واسعة باتجاه المناطق الآمنة، واستقبل الجبل العاملي آنذاك النصارى الفارين من بطش الحرب ونزلوا على اهله بالترحاب والسعة وأعطيت التوجيهات للأهلين بايواء النازحين فشرعوا لهم الأبواب خصوصاً في منطقتي اقليم التفاح والشقيف وصور .
وبالرغم من ذلك فقد تعرض بقايا الحمادية في جبل لبنان إلى اعتداءات شاملة نتج عنها هجرة شيعية شبه كاملة معظمها نحو البقاع والقليل من المهاجرين كانت وجهتهم نحو جبل عامل .
في الوثيقة التي أعلنها الإمام السيد موسى الصدر حيث كان لبنان يفتقر إلى الرؤية الوطنية والهوية العربية وتحديد النظام السياسي وكان قبلها مشاركة وجهاء الطائفة الشيعية يوم الاستفتاء على شكل النظام. وهو دليل قبولهم بقيام الجمهورية اللبنانية، وإن بقوا خارج المعادلة السياسية إلى حين انبثاق اتفاق الطائف ـ وكانوا قد شعروا بأن قيامها يعطيهم دوراً سياسياً لم يكن لهم سابقاً.
ورغم نزعتهم الكيانية الجامحة، بعد تقطيع الوطن العربي بفعل مؤامرة سايكس ـ بيكو ـ لعلهم يظفروا بالأمان بعد التجارب والمحن القاسية التي عانوا منها بسبب حكم المماليك والعثمانيين الجائر، بقوا على هامش الحياة، وعوملوا بالدرجة الدنيا من المواطنة، والشيء نفسه يراد لهم اليوم.
بالمقابل نرى معارضة الطائفة السنية لقيامها، فلم تكتفِ بالمقاطعة فقط، بل وجهت العرائض والبرقيات تطالب بالوحدة مع سوريا على أساس اللامركزية. وربما لو أنهم حصلوا على ما حصلت عليه الطائفة المارونية من امتيازات.. لما اعترضوا على الانضمام .
يذكر محمد جميل بيهم أن اعلان دولة لبنان الكبير كان مؤلماً للوحدويين الذين شعروا بأن وراء ذلك مخططاً يرمي إلى اضفاء صبغة ملية على هذا الكيان الجديد يساعد فرنسا على اقامة مركز استراتيجي دائم لها في الشرق الأدنى.
إن دولة «لبنان الكبير» هي وليدة المصالح والأطماع الفرنسية وحاجة الدولة المستعمرة إلى بناء كيان سياسي يستطيع أن يستمر بحدود تضمن المجال الحيوي له، بحيث يمكن أن يلعب دوره ضمن المخطط الاستعماري وهكذا فإن حدود لبنان رسمت ضمن الخطة الفرنسية ـ الانكليزية لاقتسام المنطقة، وضمن الدور الذي أرادته فرنسا للبنان في سياستها آنذاك. وقد عملوا على اقناع الأوساط المتطرفة الداعية إلى انشاء الوطن القومي المسيحي بفائدة هذه الحدود، مع تقديم الضمانات الكافية بالمحافظة على لون لبنان الطائفي وعلى الهيمنة المارونية بوجه عام . ويبدو أن الأحلام الفيدرالية أو التقسيم بدأت تلوح بالأفق من جديد خصوصاً بعد الايقان بحتمية التوطين الفلسطيني.
وكانت تلك الوثيقة التي تعيد تأكيد دور الطائفة الشيعية كيانية ونهائية الوطن اللبناني لكل بنيه. أول ورقة من جهة إسلامية.. جاء فيها: تجدد الطائفة الإسلامية الشيعية إيمانها بلبنان الواحد الموحد: وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حراً مستقلاً عربياً في محيطه وواقعه ومصيره، يلتزم كلياً بالقضايا العربية المصيرية وفي طليعتها قضية فلسطين، ويلتزم بقضية الإنسان لأنها من صلب رسالته الحضارية. وترفض الطائفة رفضاً باتاً أية صورة من صور التقسيم، كما ترفض تحجير الصيغة اللبنانية بحيث يبقى عامل القلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازات فئوية، بينما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، وبحيث يبقى العاملان معاً ثغرتين في الكيان تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه. كما ترفض تشويه وجه لبنان الحضاري بتحجيم دوريه العربي والدولي، أو بقطعه عن المد الحضاري الإنساني، أو بجره إلى أي محور سياسي عربي أو دولي بحيث يتقوقع ويتقزم أو يتخير ويفقد طابعه المميز... يهم الطائفة الإسلامية الشيعية أن تشدد على رفض هذه الأمور جملة وتفصيلاً، لأنها شبه قنابل موقوتة لا بد من أن تؤدي إلى الانفجار عند أول فرصة تسنح... هكذا كان ولم يزل موقف الطائفة الشيعية، في بلد الطوائف، حيث لا امكانية لأي خيار آخر رغم كثرة الحديث الممجوج عن الوحدة والانصهار و... والذي لا طائل منه، بالرغم من وجود صدق نوايا عند البعض في هذه الطائفة أو تلك.
إذا أردت أن تقرأ تاريخاً، فأي تاريخ تقرأ؟ تاريخ الطوائف والمذاهب، أو الاقطاع السياسي حاضره وغابره... أم تاريخ الوطن، الذي حتى الآن لم يوضع له تاريخ موحد تدرسه الأجيال في المدارس؟
هذا الاقطاع الذي كرس منذ الاستفتاء الأول على شكل النظام، ولم يستفت الشعب إذ ذاك، حيث أصبحت الاقطاعية السياسية وسياسة الاستزلام والمحسوبية قاعدة للحياة السياسية اللبنانية فيما بعد.
ربما كان أمام اللبنانيين فرصة تاريخية لإقامة دولة تمثل الشعب اللبناني، لا الطوائف اللبنانية، ولكن سياسة التفرقة الاستعمارية من جهة وأطماع بعض الطوائف من جهة أخرى أدت إلى ما نحن عليه اليوم من سوء الحال، فلا الموارنة حصلوا على لبنانهم الماروني، ولا المسلمين حصلوا على الدولة العربية الموحدة.
والاثنان لم يستطيعا بعد بناء لبنان القوي المحصن، ولا بناء لبنان العدالة الاجتماعية والمساواة، ولا بناء الدولة الحديثة . والصراع لا زال اليوم بين مشروعين وإن اختلفت بالوسيلة أو الشكل عما كانت عليه خريطة الصراع في مطلع القرن الماضي.
وهذا ما يفضي إلى القول أن هذا الكيان الجامع لكل هذا الكم الهائل من التناقضات الطائفية والمذهبية لم يرقَ إلى مستوى بناء دولة فيها شعب واحد بثقافة موحدة يشعر فيها الجميع بوطنية جامعة، أن ما يهدد بالخطر لبقعة جغرافية معينة هو تهديد للكيان كله من جنوبه إلى شماله، وليس مجموعة من المعسكرات الطائفية تتربص لبعضها الدوائر وتتحين الفرص للانقضاض على المكاسب والمغانم إذا ما لاحت تبدلات وتغيرات في سياسات القوى الدولية التي أرادت لهذا البلد أن يكون ساحة مفتوحة لصراع الاستخبارات الدولية وتجاذبات المصالح لتؤكد من جديد أن هذه  الدولة لا زالت «مشروع دولة» خطيئة أصلية منذ تأسيس الكيان، وتجربة 79 سنة من عمره دليل فاضح على ذلك!


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=243
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19