• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : النقد مفهومه، مشروعيّته، شروطه، موارده .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

النقد مفهومه، مشروعيّته، شروطه، موارده

 

 


النقد:
مفهومه، مشروعيّته، شروطه، موارده


الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري

تمهيد: إنّ النقد بمعنى النظر في كلام الآخرين وأقوالهم أو أفعالهم وتمييز الصحيح منها من غيره بحسب نظر الناقد من القضايا الشائعة والمنتشرة في مختلف مجالات حياة الناس، فلا ترى إنساناً لا يمارس النقد سواء كان نقداً في محله أم لا، وسواء كان بطريقة ليّنة أم لا، وسواء كان من أهل النقد أم لا، وكثيراً ما نرى أنّ الناس ينتقدون بعض أقوالهم وأفعالهم وهو ما يسمّى بالنقد الذاتي كما سيأتي.
ويمكن القول إنّ النقد بهذا المعنى هو حالة نفسيّة مغروسة في كلّ إنسان بحسب طبيعته ويمارسها كحقّ له بما هو إنسان يملك عقلاً وتفكيراً ومقداراً من العلم يخوّله أن يمارس هذا الحق. بل كما قلنا إنّ هذا النقد يمارسه كثير من الناس حتى ولو لم يكونوا أهلاً للإنتقاد.
وما نريد أن نبيّنه في هذه المقالة جملة من الأمور ترتبط بالنقد وتتركّز حول النقاط التالية:
1 - مفهوم النقد لغة واصطلاحاً.
2 - مشروعيّة النقد في الإسلام.
3 - ما هي الشروط المعتبرة في النقد.
4 - ذكر بعض موارده.
5 - أقسام النقد.
الأوَّل: النقد لغةً واصطلاحاً:
أمّا لغةً فقد ورد بالمعنى المقابل للنسيئة، فيكون معناه عدم التأخير والتأجيل في شي‏ء أي يكون حالاً كما في نقد الثمن والمثمن في البيع مقابل النسيئة التي هي تأخير الثمن إلى أجل محدّد، والسّلف الذي هو تأجيل دفع المثمن إلى أجل معيّن أيضاً. وورد بمعنى التمييز ففي لسان العرب: «النقدُ والتّنقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزَّيف منها»، وقال: «... ونقدته الدراهم ونقدتُ له الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منها الزّيف» ، ومثله في تاج العروس وقال: «... وقد نقدها ينقُدُها نقداً وانتقدها وتنقّدها إذا ميَّز جيّدها من رديئها...» .
وورد بمعنى الإعطاء، قال الليث: النَّقدُ: تمييز الدراهم وإعطاؤُها إنساناً، وأخذها الإنتقاد، وفي حديث جابر وجَمَلِهِ «فنقدني الثمن» أي أعطانيه نقداً معجّلاً» .
ومنه قول أمير المؤمنين Q في كلام له إلى شريح القاضي: «فانظر يا شريح، لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة...»  أي أعطيت ثمن الدار من غير حلالك.
ووردت بمعاني أخرى أيضاً.
نعم إذا أضيفت كلمة النقد إلى الكلام كان لها معنى آخر يناسبه لكنّه في الواقع مأخوذ من المعنى المتقدّم وهو التمييز وإخراج الحسن من الزّيف قال في تاج العروس: «ونقد الكلام: ناقشه، وهو من نَقَدةِ الشعر ونقّاده...»  وعن بعضهم: «نَقَد الكلام: أظهر ما به من العيوب أو المحاسن»  والمناقشة تقتضي تمييز الحسن من غيره واستخلاصه منه.
ولا نطيل في المعنى اللغوي حيث صار واضحاً.
أما اصطلاحاً فقد تأثّر بالمعاني اللغوية التي وردت عند اللغويين كما في النقد المقابل للنسيئة، وبمعنى الإعطاء، والتمييز بين الصحيح والسقيم، والحسن والمعيب.
ولذلك نرى في تعريف النقد بالمعنى الاصطلاحي أنّه النظر في الأقوال والأفعال وتمييز صحيحها وحسنها من سقيمها ومعيبها، وإخراج الزّيف منها والإبقاء على الصحيح الحسن مع تثبيته والتركيز عليه، ولا يكفي الاقتصار على إخراج المعيب وإبراز السوء والنقص في هذا القول أو هذا الفعل فهذا ما يسمّى بالنظرية النقدية العوراء.
الثاني: مشروعّية النقد في الإسلام.
لم يرد في الكتاب العزيز كلمة النقد بأيّ من اشتقاقاتها، وكذلك في الروايات  حسب الظاهر  بالمعنى الذي نريده  أي بالاصطلاح المذكور  ولكن هذا لا يعني عدم وجود حالات من النقد في الكتاب والسنة بلغت حدّاً من الكثرة تجعل النقد أمراً مشروعاً في الجملة، وإنمّا يبقى الكلام في الشروط المعتبرة فيه، فإنّه من الواضح أنّه لا يحق لكلّ إنسان أن ينقد أيّاً كان وكيفما كان بحجّة مشروعيته.
وقد انتقد اللّه تعالى في كثير من آيات الكتاب العزيز أقواماً في عقائدهم وسلوكيّاتهم وبيّن زيف ما يعتقدون وما يعملون ودعاهم إلى النظر والتفكّر فيما هو الحق واتّباعه بعقلٍ ورويّة ودراية، وللنقد القرآني طريقته وأساليبه، فتارة يكون نقداً لعقيدة بنحو الاستفهام الاستنكاري، وأخرى بطريقة الاستدراج إلى سواء السبيل، وثالثة غير ذلك، ومن الأمثلة:
1 - ينتقد اللّه تعالى كفر الكافرين باللّه من خلال إلفات نظرهم إلى أنَّ ما يمرّون به من حياة وموت وحياة بعد الموت إنما هو من الله القادر، فكفرهم به لا مبرّر له ولا وجه له حينئذٍ، قال تعالى : }كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون{ .
2 - انتقاده تعالى عقيدة أهل الكتاب في جملة من الآيات كما في سورة آل عمران قال تعالى: }قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون، يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون{ .
3 - انتقاد قول من أنكر المعاد أو شكّك فيه، قال تعالى }يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شي‏ء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور{ .
وقوله تعالى }أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شي‏ء وإليه ترجعون{ .
فإن الله تعالى في هذه الآيات مع انتقاده واعتراضه عقائد الكافرين كان يقدم لهم الدليل المقنع العقلي تارة والوجداني أخرى ليردّهم إلى العقيدة الصحيحة الصافية وهي عقيدة التوحيد والإيمان بيوم القيامة.
والأمثلة في السنة الشريفة كثيرة جداً فهناك من الاحتجاجات - التي هي في واقعها انتقادات للعقائد الفاسدة مع بيان أوجه الفساد فيها - الكثير في كل الأزمنة التي عاش فيها المعصوم Q ابتداءً من النبيّ الأكرم P إلى خاتم الأوصياء الحجة ابن الحسن المهدي |، قد جمع القسم الأكبر منها العلاّمة الطبرسي من علماء القرن السادس في كتابه الموسوم بالاحتجاج فمن ذلك:
1 - احتجاج النبي P على اليهود والنصارى إعتقادهم بأن عزيرا وعيسى ابنا الله  وفي احتجاجه P على الدّهرية وانتقاده لعقيدتهم قال لهم: «وأنتم ما الذي دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟
فقالوا: لأنّا لا نحكم إلاّ بما نشاهد، ولم نجد للأشياء حدثاً فحكمنا بأنهّا لم تزل، ولم نجد لها انقضاءً وفناءً فحكمنا بأنها لا تزال.
فقال رسول الله P: أفوجدتم لها قِدماً أم وجدتم لها بقاءً أبد الآبد، فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم»... إلى آخر الاحتجاج الذي نقله الطبرسي بتمامه .
وهناك الاحتجاجات التي ذكرها الشيخ الصدوق{ في كتاب عيون أخبار الرضا للإمامين الكاظم والرضاL مع أصحاب الديانات والمذاهب الإسلامية وغير الإسلامية.
وقد كثر عن الأئمة الأطهارR انتقاد عقيدتي الجبرية والمفوّضة وإبطالهما مع تأكيد عقيدة الإماميّة في ذلك المعروفة بالأمر بين أمرين، من ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله الصادقQ قال: «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوَّض إليهم فهذا قد أوهن الله في سلطانه، ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلمٌ بالغ» .
كلّ هذا دليل واضح وصحيح وقطعي على جواز النقد والانتقاد في الجملة. ولذلك لا نرى أحداً عاقلاً يستشكل في مشروعيّة أصل الانتقاد والنقد لأفكار الآخرين وآرائهم ضمن الشروط التي ستأتي، بل في انتقاد الأفعال أيضاً.
بل السيرة العقلائيّة في كل زمان ومكان قديماً وحديثاً قائمة على ذلك ولا يتردّد أحدٌ فيه إذا اتّبع فيه ما ينبغي اتّباعه من شروط وضوابط وإلاّ وقعت الفوضى الشاملة من الكلّ في حق الكلّ بل ووقع كثير من الناس في محاذير الغيبة والبهتان وسوء الظن، وظلم الآخرين، وهذا ما لا يُراد من النقد ولا يُحقق الهدف منه وهو التصحيح والتنقية والتوجيه نحو الحقّ والصواب.
الثالث: شروط النقد:
1 - اتّباع الضوابط العلميّة في كل علم، فمن أراد أن ينتقد مقالاً أو كتاباً موضوعه في علم أصول الدين مثلاً فإنّ هناك قواعد تحكم هذا العلم لا بد أن يكون الناقد عارفاً بها وخبيراً فيها وإلاّ كان يمشي على غير هدىً ويخبط خبط عشواء، فيقع في كثير من المحاذير المذكورة آنفاً. وكذلك الحال في أيّ علم آخر كالفقه وأصوله والتفسير ويسري الحكم إلى العلوم  الحديثة إنسانيّة كانت أم لا كعلم النفس وعلم الإجتماع وعلم الاقتصاد ونحوها.
وللأسف نرى كثيراً ممّن يتصدّون إلى إبداء الملاحظات والنقد لا يملكون الخبرة في الضوابط العلمية فترى غير الفقيه أو غير الخبير في الفقه ينتقد فتوى المرجع الفلاني ويعتبرها في غير محلّها ويقول: يا ليته لم يفت بذلك وهو لا يعرف دليل الفقيه، بل لا يعرف معنى الدليل أو لا يقدر على التمييز بين صحيح الأدلة وسقيمها.
والحاصل: لا يجوز لجاهل ولا لقليل العلم أن ينتقد سلوكاً معيناً أو رأياً محدّداً ممّا ليس له به علم.
2 - الإنصاف وإعطاء صاحب الحقّ حقه فإنّ النقد حالة تقويم وحالة وزن بالقسطاس المستقيم، وكلّما كان الناقد دقيقاً في نقده بلا جور ولا انحياز ولا تعصب ولا إفراط ولا تجاوز كان أقرب إلى العدل والإنصاف، وبالتالي أقرب إلى التقوى، على الناقد في منقوده أن يقول ما له وما عليه، ما يراه فيه بحقٍ ولا يتعدّى ذلك بلا حق فيخرج عن جادة الصواب والإنصاف والعدل.
فقد نرى بعض الأشخاص لمجرّد أن يسمعوا بكتاب لشخصٍ ما لوجود موقف سلبي سابق منهم اتجاهه يسارعون إلى المجاهرة بنقده ونقضه ولا ينتظرون ليعرفوا ما فيه إذ لعلّ ما فيه حقّ أو على الأقل بعض ما فيه حقّ.
وهنا كثيراً ما تأتي الأحكام المسبقة التي لا تلبث أن تحرج صاحبها إذا اتضّح خطأ توقعاته لهذا الكتاب وآراء كاتبه. وهذا يقتضي بالضرورة الابتعاد عن المواقف الشخصية اتجاه صاحب الرأي والنظر فيما أبداه وكتبه ضمن الموازين العلميّة التي يخضع لها موضوع الكتاب مثلاً.
ولذلك نرى النبي الأكرم P عندما يريد أن يبطل ما عليه المشركون وهو يعلم كذب ما يدّعونه أراد أن ينصفهم حتى إذا تبيّن لهم فساد ما يعتقدونه قادهم الإنصاف إلى الإيمان بما دعاهم إليه النبي P }وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين{  قال العلاّمة الطبرسي{: «إنما قال ذلك على وجه الإنصاف والحجاج دون الشك كما يقول القائل لغيره: أحدنا كاذب، وإن كان هو عالماً بالكاذب» .
3 - عدم التعجّل في الحكم سلباً أو إيجاباً من النظرة الأولى لقول شخص أو لعمله، بل يتأمّل ويدقّق ويعيد النظر مراراً، ويقرأ كل كلامه إذ لعلّ هناك قرينة ولو  منفصلة تجعل للكلام معنىً آخر، فإنّ الكلام العربي غنيٌ بذلك حيث يأتي المتكلم شفهياً أو الكاتب خطيّاً بعمومات - حسب مناسبات الموضوع - ثمّ يلحقها - إذا أراد ذلك - بقرائن تبين مراده الجدّي.
وقد يكون في بدء الكلام يستعرض الآراء ويستقرب بعضها بدواً وهذا لا يعني أنّه التزم أحدها فعلاً، فإذا أكمل القارى‏ء الكلام وجد فيه مبتغاه، وقد يكون مخالفاً لكلّ ما سبق والتزم برأي جديد استخلصه من مجموع الأدلة أو بنظرة خاصة وفهم خاص للأدلة، فلا يكون بتأمله وتمهله قد تعجّل الحكم فلا يقع في ظلم غيره ولا يكون غير مقبول الرأي والحكم حينئذٍ.
4 - أن يلتزم في عمليّة النقد بما ثبت حجيته في فهم الكلام وهو الظهور العرفي فضلاً عن النصّ الصريح والواضح في المعنى المراد للمتكلم.
وليس له أن يحمّل الكلام على ما يخالف ظهوره، ويحاول أن يتحكّم في فرض معنىً على اللفظ لا يريده صاحبه ولا هو ظاهر من اللفظ.
5 - عدم التجريح في النقد والردّ إذا كان صاحب الكلام المنقود من أهل العلم الذي هو موضوع الكلام، فإنّ ذلك في كثير من الأحيان حطٌ للكرامات وتسخيفٌ لصاحب الرأي بما لا يليق بالطرفين ولا بدينهما مثل أن يقول: إنّ فلان في قوله هذا لا يفقه شيئاً من العلم أو هو من الجهلة مثلاً مع كونه من أهل العلم، نعم يقول: أخطأ أو اشتبه في فهم الدليل، أو نظر إلى دليل دون بقيّة الأدلة تسرّعاً وما شاكل، أو أنّ هذا القول ليس من التحقيق في شي‏ء، فإنّ هذا موجود في كتب العلم من الأصول والفقه وغيرهما، نعم استثني من ذلك علم الرجال والتراجم الذي يذكر فيه حال الراوي فيذكرون أنه كاذب، ضعيف مغالٍ، فاسد العقيدة، ليس بثقة، وضّاع للحديث ونحو ذلك، وهذا ما يقتضيه طبيعة التمييز بين الصحيح والسقيم منها في موارد كثيرة - طبعاً مع غض النظر عن دلالة الرواية واعتبارها - كما ويُستثنى من ذلك أهل البدع فإنّ المطلوب مواجهتهم والتجريح بهم وتوهينهم كي لا يتأثر بهم النّاس، ولا يُداهنوا على حساب الدين وبحجّة النقد الموضوعي والمنصف بعيداً عن التجريح فإنّ المبتدع إذا نوقش كغيره من أهل العلم ظنّ النّاس به حسناً واعتقدوه عالماً فإن لم يأخذوا بقوله هذا قد يأخذون بأقوال أخرى منه، مع أنّ المطلوب هو إسقاطه تماماً من أعينهم وتصغيره وتحقيره كي لا يطمع في التأثير فيهم، ويكون النّاس قد احتجبوا عنه بحجاب لا يصل معه إليهم، وهذه بعض الروايات في ذلك:
1 - روى الشيخ الكليني{ بإسناده الصحيح عن أبي عبد الله Q قال: قال رسول الله P: «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة» .
2 - وروى{ أيضاً بإسناده الصحيح عن أبي الحسن Q قال للجعفري: «ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال: إنّه خالي، فقال: إنه يقول في الله قولاً عظيماً، يصف الله ولا يوصف، فإمَّا جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته؟ فقال: هو يقول ما شاء، أيّ شي‏ء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن Q: أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً، أمّا علمت بالذي كان من أصحاب موسى Q وكان أبوه من أصحاب فرعون فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه  حتّى بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى Q الخبر، فقال: هو في رحمة الله، ولكنّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دفاع» .
6 - إذا كان الكلام قد ألقي شفهياً في محضر الناقد وفهم منه شيئاً يستحق النقد والردّ، فإنه حتّى لو كوّن صورة سلبيّة عن صاحب الكلام، وفهم منه شيئاً لكن فليعطه فرصة كافية ليدافع عن نفسه ويوضح مراده، إذ لعلّ التعبير خانه، فإنّ ذلك أبلغ في العذر، وأوفق في إقامة الحجة، وإن كان ظاهر اللفظ حجّة.
نعم في مثل الكلام المكتوب لا يتأتى ذلك، لعدم وجود صاحبه معه ولذلك تكون المحاكمة على أساس الظهورات العرفية لألفاظ الكلام وما اكتنفه من قرائن حالية أو مقاليّة، متّصلة أو منفصلة.
ولعلّ هذا أوفق بآداب النقد منه بشروطه، حيث يجوز للناقد أن يقتصر على ما يستظهره من الكلام مشافهة كان أم كتابة.
7 - أن لا يكتفي الناقد بردّ الفكرة الخاطئة ونقدها والملاحظة عليها دون أن يبيّن الوجه في ذلك، ويعطي الفكرة الصحيحة المقابلة، وهذا ما نلحظه في احتجاجات النبي الأكرم P والأئمة الأطهارR والعلماء الأعلام، بل حتى النقود العلميّة على مستوى المذهب الواحد لا يكتفي فيها بالنقد والرد بل على صاحبه أن يظهر رأيه الذي يعتقده صحيحاً باعتبار الأدلّة المتاحة بين يديه، فانظر إلى محاججات الإمام الصادق Q في أنواع شتّى من العلوم الدينيّة على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات  وغيرها من احتجاجات الأئمةR أجمعين.
ولا يخفى ما يترتب من مفاسد لو اكتفى الناقد بالنقد فقط، فإن القارى‏ء يبقى متردّداً لا يعرف الحق من الباطل حتّى يُبيَّن له الحق.
الرابع: موارد النقد:
النقد لا يختص بشي‏ء معيّن بل يمكن أن يتعلّق بكل ما يقوله الإنسان ويفعله فلذلك نراه في الواقع في كل مجالات الحياة:
1 - المجال الإعلامي. 2 - المجال العلمي البحت. 3 - المجال الاجتماعي. 4 - المجال الاقتصادي. 5 - المجال السياسي. 6 - المجال العسكري. 7 - المجال الصحّي. 8 - المجال الديني. 9 - المجال الثقافي. 10 - المجال التربوي. وغيرها من المجالات التي يعيشها النّاس ويتلاقون فيها، ويتعاملون بها، وتُطرح فيها الآراء والمعتقدات، ولكن لكلّ مجال ضوابطه وقواعده التي يعرفها أهل العلم والخبرة فيها، وليست في متناول يد كل أحد. وليس لأيّ أحد أن يدلو بدلوه في مجال لا يعرف عنه شيئاً أو لا يعرف إلاّ القليل، فإنّ في ذلك ظلماً للموضوع ولصاحبه.
وكلّ هذه المجالات تشمل القسم العلمي منها والقسم العملي السلوكي. فقد تنتقد نظرية أو رأياً سياسياً أطلقه صاحبه مشافهة أو كتابة. وقد تنتقد سلوكاً عملياً مارسه ولا ترى فيه وجه حقّ، فمثلاً في أيامنا تكاد خيانة الوطن والارتهان للعمالة لدى العدو الإسرائيلي تعتبر وجهة نظر يحاول البعض الترويج لها أو تبسيطها ليصل الفهم بالناس إلى حدّ التأقلم مع هكذا واقع ولا يعود يثير لديهم مشاعر الاشمئزاز والسخط والغضب على أولئك العملاء.
فهنا يجب العمل على نقد هذه النظرية ونقضها، وانتقاد السلوك العملي أيضاً لمن تعامل فعلاً على اعتباره عملاً شنيعاً مخالفاً لأبسط قواعد المواطنية الصالحة، وقواعد حبَّ الأوطان وحمايتها من عدو يتربّص بها شرّاً وحقداً في كل وقت.
الخامس: أقسام النقد:
1 - نقد الذات وهي أيضاً على قسمين:
أ - نقد الشخص أقوال نفسه.
ب - نقده لأفعاله وأعماله.
2 - نقد الغير، وينقسم إلى نفس القسمين أيضاً:
أ - نقد آراء الغير.
ب - نقد أعماله.
ج - نقد صفاته الخلقيّة والخُلُقيّة.
أمّا نقد الذات فهو في الروايات سمّي بالمحاسبة وقد ورد في الشرع الإسلامي الحث الأكيد على محاسبة الإنسان لنفسه دائماً وأبداً حتى يصحّح ما يقع فيه من أخطاء ويستزيد فيما يأتي به من محاسن القول والفعل، فمن الآيات: قوله تعالى }وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون{ ، وقوله تعالى }ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد{ .
ومن الروايات: ما رواه الكليني بإسناده الصحيح عن أبي الحسن الماضي صلوات الله عليه قال: ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه» .
ومنها ما رواه بإسناده عن أبي عبد الله Q قال: «إن النهار إذا جاء قال: يا ابن آدم اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة، فإني لم آتك فيما مضى ولا آتيك فيما بقي، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك» .
ومنها ما رواه السيد ابن طاووس من كتاب فضل الدعاء  لمحمد بن الحسن الصفّار بإسناده إلى الصادق Q قال: قال رسول الله P: طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كلّ ذنب استغفر الله» .
والروايات في ذلك كثيرة جداً، والغرض منها إرشاد المؤمنين إلى الاهتمام بمحاسبة النفس فإن ذلك يستدعي التحفظ من الآثام القوليّة والأجرام الفعليّة وتطهير الصحائف التي تقتضي الاحتياط على يد الملائكة الكرام.
ولو اتّبع كلّ إنسان نقداً ذاتياً لنفسه لاستدرك في عاجله ما يضّره في آجله ولأحسن أكثر، وسلك سبيل الحقّ والصواب في أفعاله وأقواله.
وأما نقد الغير سواء كان في الأقوال أم في الأفعال فلا بُدَّ أن يكون - كما تقدّم - حائزاً على الشرائط المتقدّمة وإلاّ كان تجنيّاً واعتداءً على الناس بغير حقّ. ويدخل في قسم نقد الأعمال، نقد الرئيس لأعمال مرؤوسيه، والأستاذ لأعمال طلاّبه الوظيفيّة مثلاً، وغير ذلك.
وأمّا نقد الغير في صفاته الخلقيّة والخُلُقيّة، فهذا ممّا يجب التوقّف فيه وعدم تجويزه لأنّه إمّا يستلزم الغيبة أو البهتان.
فإنّ النقد وإن كان أمراً مشروعاً لكنّه لهدف مشروع وهو البناء والتصحيح لا الهدم والتشنيع، فإذا كان يستلزم حراماً لم يعد محققاً للهدف المقصود منه.
وعليه فلا يمكن بداعي النقد ذكر الصفات الخلقيّة والخُلُقيّة للناس والمؤمنين منهم بشكل خاص، فإنّ ذلك أبعد ما يكون عن النقد المشروع.
وبالتالي فإن كان ما يذكره من صفات وعيوب موجوداً في الشخص المذكور كانت الغيبة وإلاّ فالبهتان وكلاهما من الذنوب الكبيرة التي نهت عنها الشريعة الإسلاميّة المقدّسة، فقد ورد في الموثق عن أبي عبد الله Q عن رسول الله P: «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه» .
وعن أبي الحسن الكاظم صلوات الله عليه قال: «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته» .
وعن أبي عبد الله الصادق Q قال: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه» .
خاتمة:
الإنسان الذي يطرح آراءً وأفكاراً ومعتقدات أمام الملأ عليه أن لا يخشى النقد والنقض إذا كان عالماً بما طرح واثقاً من متانة دليله وقوّة حجّته فإذا ووُجه بالنقد لم يُستفز فيستنكر على من ينتقده، بل عليه أن يتقبّل ذلك وإلاّ لم يطرح أفكاره وآراءه.
والإنصاف من النفس يقضي بأن يعتبر الإنسان ما يطرحه صواباً مع احتمال الخطأ فيه وما يطرحه الآخرون خطأ مع احتمال الصواب فيه.
والميزان في تحديد الصواب من الخطأ وترجيح كفّة رأي على رأي وقولٍ على قول هو الدليل الحجّة بذاته أم بغيره، والكلّ اتباع هذا الدليل يميلون معه حيث يميل.
ومن لا يتحمل ذلك فقد يكون في علمه وفكره شكٌ كبير حيث يتبنى دون تثبت، ويطرح دون تأمل، وينفي دون تمعّن.
أعاذنا الله تعالى من وساوس الشيطان وتسويلات النفس الأمارة بالسوء، وسدّد خطى المحقّين الصادقين في القول والعمل.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=253
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28