• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : السلوك البشري وخاصية المرونة والقابلية للتعديل .
                          • رقم العدد : العدد الثامن عشر .

السلوك البشري وخاصية المرونة والقابلية للتعديل

 

 


السلوك البشري
وخاصية المرونة والقابلية للتعديل

الشيخ توفيق حسن علوية

البشرية على نحو العموم ليست متأطرة ضمن نطاق رؤيوي وفكري واحد في سلوكها الحياتي العملي، وهذا واضح تمام الوضوح بشاهد الوجدان، وبالحس والعيان.
والسلوك البشري  على الصعيدين العام والخاص فرع المنظومة الفكرية والقيمية المحركة له، وبهذا البيان يتضح لنا بأن السلوك ليس منحازاً عن خلفيته المحركة له، بل حتى ذاك السلوك الذي لا يمتاز بفلسفة وجودية أو قيمية ثابتة كما هو عليه السلوك المصلحي؛ هو بنحو أو بآخر يتحرك على ضوء خلفية ما؛ وبالتالي هو لا يتحرك تلقائياً ولا بنحو مستقل عن خلفية معينة حتى لو كانت ساذجة وغير معمقة.
وبناء على ما تقدم فإن الخلفية الفكرية والقيمية المحركة لأنماط السلوك البشري هي التي تعكس جموده وانعدام قابليته للتعديل على أرض الواقع تماماً كما تعكس مرونته وحيويته وقابليته للتعديل في الواقع كذلك؛ فالجمود والمرونة في مرحلة السلوك يدوران مدار جمود ومرونة الخلفية الفكرية والقيمية المحركة والدافعة لهذا السلوك أو ذاك.
إننا إذا رجعنا إلى الخلفيات الفكرية والقيمية المحركة لشتى أنماط السلوك البشري؛ فإننا والحال هذه نستطيع الحديث عن جملة من أقسامها:
الأول: الخلفية الفكرية والقيمية الجامدة بالمطلق:
أي تلك الخلفية الفكرية والقيمية التي لا تسمح للمنضوين تحت لوائها أي امكانية للتعديل أو التغيير في سلوك مسلكها، وفي عملية تطبيقها حتى في المسائل الاضطرارية المهلكة والتي يقع المبتلى بها أمام خيارين إما التعديل وإما الهلاك.
إن السلوك البشري المتحرك على ايقاع هذا القسم هو سلوك جامد ومتحجر وليس فيه أي قابلية أو أرضية للتعديل أو التغيير لا من الأسوء إلى السيئ ولا من السيئ إلى الحسن؛ أما التعديل من الحسن إلى الأحسن فهذا محال لأنه لا حسن هنا.
ونلاحظ فيما نلاحظه أن السلوك البشري القائم على هكذا  خلفية كان دائماً ولا يزال مثار إعجاب سائر قوى الإستكبار  والإستعمار؛ وما ذلك إلا لأنه يخدم مصالحهم وأغراضهم النفعية، ويحول دون وعي الشعوب وتطورهم وخلاصهم من آثار التبعية والإستغلال، وقد ذكر أحد الأعلام أن رئيسة وزراء بريطانيا حينما قدمت إلى الهند وزارت على هامش جولتها السياسية أحد المعابد التابعة لإحدى الديانات الجافة المضمون والجامدة المحتوى؛ قامت بخلع الحذاء والدخول حافية القدمين احتراماً لمقدسات هذه الفئة، مع أنها تعلم خواء هذه المعابد وعدم مواكبتها لأي من التطور الذي تشهده بريطانيا؛ في الوقت الذي كانت تحارب فيه بقوة الدين الإسلامي وتتهمه بالتخلّف!!! نعم إنها تحترم مقدسات مهترئة كمقدسات هؤلاء لأنها مطية للإستعمار والإستكبار. وقد ذُكر أيضاً أن جنرالاً إنكليزياً إبان الإحتلال الإنكليزي للعراق كان قد سمع الأذان فسأل أحد معاونيه: ما هذا الصوت؟ فأجاب قائلاً: إنه صوت أذان المسلمين. قال: هل يضر هذا بسياستنا؟!! قال: لا. قال: فليؤذنوا ما طاب لهم.
الثاني: الخلفية الفكرية والقيمية المطلقة:
أي تلك الخلفية الفكرية والقيمية التي تتيح لمريديها القدرة على التغيير والتعديل الدائم، بحيث إن الثبات على سلوك واحد شبه معدوم ها هنا.
نعم يوجد في هذه الخلفية  ثابت واحد هو «المصلحة» و»المنفعة» و»اللذة» و...، أما السلوك والتطبيق فليس له أي ثابت بل هو في منتهى المرونة والحراك والزئبقية؛ بل إن هذا السلوك يمكن أن يكون مسايراً للسلوك المتحجر فيما لو تكفل جلب المنفعة الشخصية أو النوعية وقام بتحقيق الأغراض المصلحية.
وفي هذا القسم ـ وكما نرى ـ فإن المرونة والحركية في السلوك البشري لا تقع في الجانب الإيجابي للحياة دوماً، كما أنها لا تقع دوماً في الجانب السلبي كذلك؛ وإنما هي تقع في الجانب الإيجابي إذا لم تعمل على تدمير الغير بشكل جزئي أو كلي من أجل بناء أرباح ومكاسب الذات وتحقيق المصالح والشهوات!!! وبتعبير آخر: إذا كان نفع هذا السلوك يعمُّ صاحبه وغيره مع خلوه من إستغلال الغير بنحو غير مشروع؛ فإنه يعدّ سلوكاً إيجابياً، أما إذا كان بخلاف ذلك فهو سلبي بامتياز. وهذا حاصل وللأسف الشديد وعلى جميع الصعد وبمختلف المستويات، فعلى الصعيد السلوكي القيمي مثلاً فإن الكذب والإحتيال والغش والتزوير وسائر مفردات وعناوين هذا الباب؛ تعد عند أصحاب هذه الخلفية سلوكاً بشرياً مشروعاً ولا ينبغي تغييره أو الرجوع عنه طالما هو يضمن لسالكي هذا الطريق «المصلحة» و»اللذة» وتحقيق المآرب.
أما على الصعيد السلوكي الاقتصادي فإن استغلال الطاقات البشرية مع هضم حقوق أصحابها، وتجويع الشعوب، والإتجار بالمخدرات، وترويج الدعارة، وتعويم ظاهرة الربا والإحتكار وغير ذلك؛ هو معدود عند أصحاب هذه الخلفية من السلوكيات البشرية المشروعة والصحيحة والتي لا ينبغي تغييرها طالما تتأتى من خلالها الثروة الطائلة الجاعلة من صاحبها رمزاً عالمياً متحكماً بالبلاد والعباد.
وأما على الصعيد السلوكي السياسي فإن قتل الأبرياء، وإشعال الفتن والحروب بين الشعوب، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية والقومية والوطنية، وإطلاق التهم الكاذبة والملفقة بالإرهاب وحيازة القنبلة الذرية وما شابه ذلك، وإبادة بعض الشعوب عن بكرة أبيها كما حصل في هيروشيما وناكازاكي، وإزهاق أرواح المئات والآلاف وعشرات الآلاف في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان، وغير ذلك يعد عند أصحاب هذه الخلفية سلوكاً سليماً من غير السليم الرجوع عنه طالما أنه يضمن السلطة والتوسع الإستعماري. والعجب بأن بعض الجهات الغربية الداعمة لإسرائيل صرحت في استفتاء منشور في إحدى الصحف بأنه يحق لرئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق أرييل شارون قتل الأطفال الفلسطينيين لغرض الدفاع عن وجود إسرائيل.
الثالث: الخلفية الفكرية والقيمية الجامدة سراً والمتحركة بالمطلق تمويهاً:
وهذه الخلفية الفكرية والقيمية تقول لمريديها بلسان التحقق العملي: عليكم بإبقاء المنظومة الفكرية والقيمية الخاصة بكم في دائرة السرية، بحيث أن عليكم القيام بكافة الجهود التي تحول دون إخراجها عن دائرة السرية حتى ولو أدى ذلك إلى قتل من يقصّر في ذلك!!
وتقول لهم أيضاً: عليكم تقديم أنفسكم للعالم بأنكم أتباع نظرية فكرية وقيمية متحررة بالمطلق، وأنتم إنما تسلكون سلوكاً بشرياً مرناً ومتحرراً لا يعتريه الجمود والعصبية والإنحياز.
وأصحاب هذه الخلفية هم قد عمدوا مسبقاً إلى تأسيس مجموعة واسعة من الجمعيات والمؤسسات والمحافل والأنظمة تحت أسماء حضارية وتحررية توحي بالأنسنة والحريات والمساعدات والترفيه والطبابة وغير ذلك، وما ذلك إلا للتعمية على الخلفية الأصلية لفكر وقيم هؤلاء وللتمويه على الرأي العام، ولتسهيل تحقيق الأهداف التدميرية الكائنة خلف هذه الأكمة، إذ ليس وراء عبادان قرية. وأكبر بدع هؤلاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وكل صيغة عالمية تخدم مصالحهم وأهدافهم.
إننا إذا استطعنا كشف الرموز السرية لهذه الخلفية؛ فإننا سنجدها جامدة وخاوية ومتحجرة وبالية وليس فيها أي قابلية للتعديل عند وضّاعها؛ بل هي لا تليق لزمانها فما بالك بغيره. وإنما هم قدّموا أنفسهم باعتبار أنهم من أتباع خلفية فكرية وقيمية متحركة ومتحررة ومرنة وقابلة للتعديل بحسب الزمكنة كي يتاح لهم سلوك تلك المسلكيات الخبيثة  والمؤذية والمليئة بالحيل والخزعبلات والترّهات؛ والغرض في نهاية المطاف تحقيق ما خفي من أغراضهم وغاياتهم السرية الجامدة والمتحجرة.
وأكثر ما ينطبق هذا القسم على الصهيونية العالمية كما لا يخفى على أحد؛ بل هو المتبادر إلى الأذهان عند ذكر هذا العنوان، فالصهيونية العالمية لها خلفية فكرية وقيمية جامدة لا مرونة فيها وهي غير قابلة للتعديل أو التغيير، إلا أنها توهم العالم بأنها واحة المرونة والحركية والإنسيابية والتغيير والإبداع والتجدد ومسابقة العصرنة والحداثة.
الرابع: الخلفية الفكرية والقيمية المتحركة بالأصل والمجمّدة تزويراً:
وهذه الخلفية وضعت بالأصل بشكل سليم وصائب، إلا أن أصحاب الأهواء والبدع وأهل التزييف والتزوير غيّروها وبدّلوها وجعلوها جامدة وخاوية وغير قابلة للحياة، وتتجسد هذه الخلفية الفكرية والقيمية بالأديان الصحيحة التي زوّرت وأبدلت فيما بعد بدافع شهوي سلطوي منحط وسافر، والسلوكيات المنطلقة من هكذا خلفية هي سلوكيات جامدة وغير قابلة للتعديل ويذهب  صاحبها في طريق الغي والضلال بعيداً ولا يتسنى له الرجوع فيها، ويلاحظ على أتباع مثل هكذا خلفيات قد استبدل فيها الصحيح بالسقيم عدة ملاحظات منها: أنها تبقى في حالة عداء وحرب ضد الخلفيات الفكرية والقيمية الصحيحة مع أنها تأخذ من عناوينها شعاراً لها. ومنها: أن الشخصنة تكون طاغية والدائرة الفردية تكون مهيمنة وليس هناك التفات إلى الدوائر العامة إلا بملاحظة الأشخاص.
وفي هذه الخلفية تتجسد القراءة الإسلامية الخاطئة والذي سمحت الظروف التاريخية لوضّاعها بتمريرها إلى أكبر شريحة إسلامية، ونريد القراءة الخاطئة تلك القراءة غير الصادرة عن «محمد وآل محمد»، فالإسلام الذي لم يؤخذ صافياً عن «محمد وآل محمد» تحوّل وللأسف من منظومة متكاملة تستوعب الماضي والحاضر والمستقبل وتحرّك كل الكائنات وليس البشر والزمان والمكان فحسب؛ إلى منظومة جافة وجامدة ومتحجرة وغير قابلة للتعديل بسبب أولئك التزويريين الأوائل الذين آثروا الدنيا على الدين، وشهوات الذات على المقدسات، واقتصرت نظرتهم إلى شخص النبي محمد P على أساس أنه ملك من ملوك الدنيا فإذا مات أو قتل حيز على ملكه بأي طريقة ولو بالإرهاب وبالإغتصاب وللأسف فإن أتباع هذه الخلفية الإسلامية يريدون الآن تحريك ما ليس فيه قابلية للتحريك بدعوى السعي لإقامة تلك الدولة الإسلامية التي حكمت أكثر من ألف سنة!!! وكما نرى فإن هذه الدولة التي حكمت طيلة هذه المدة المديدة واعتبرتموها تاريخاً مشرّفاً هي دولة فاشلة بكل المعايير، وأدل دليل على فشلها هو ما عليه المسلمون الآن من ضعف ومهانة بسبب ما أورثتنا إياه الحكومات الإسلامية التي حكمت أكثر من ألف سنة فالآن لماذا تريدون تجريب المجرّب؟ لماذا تريدون تطبيق نظرية فاشلة؟ فإذا كانت النظرية مزوّرة وفاشلة فما بالك بالتطبيق؟ لماذا تذهبون بالشباب المسلم المخدوع إلى سلوك مسلك ينطلق من خلفية مستهلكة حتى وصل الأمر بهم إلى حد أن أقصى طموح واحدهم هو تفجير نفسه بمجموعة أطفال ونساء وعجّز لماذا لا تختصرون الطريق وتشهدون أمام الناس شهادة حق لسان حالها يقول: لم يبق أمامنا إلا نهج «محمد وآل محمد» لنعبر من خلاله إلى الخلاص البشري فإن هذا النهج لم يأخذ فرصته ليحكم ويجرّب باستثناء المحطات الزمنية القصيرة والدوائر المكانية المحدودة.
الخامس: الخلفية الفكرية والقيمية الثابتة والمتحركة في آن:
وهي الخلفية الفكرية والقيمية الإسلامية المأخوذة صافية عن «محمد وآل محمد»، وهذه الخلفية هي ثابتة ومتحركة في نفس الوقت، وهي التي تجعل من أنماط السلوك البشري العام أنماطاً متحركة ضمن ثوابت تحاكيها وترشدها في طول وعرض الحياة إذا ما غفلت أو تخلفت أو جهلت، فالإسلام الصافي من الشوائب والمأخوذ عن «محمد وآل محمد». له منطلقات وأهداف ثابتة، أما التشريع الذي ينظم السير والسلوك من المبتدأ إلى المنتهى فهو متحرك ومرن ويلاحظ التطور البشري ويحيط بالزمان والمكان إحاطة تامة، بحيث أن المراقب لا يشعر بأي تعارض فيما بين التشريع الإسلامي وأنماط السلوك المحددة من قبله، وبين ما يطرأ من جديد؛ نعم التشريع الإسلامي يعمل على مراقبة السالك لكي يقوم بعملية التغيير والتعديل فيما لو انحرف عن الجادة الصحيحة!!!
إن الحركية والمرونة المطلوبة هي في السلوك وليس في أصل الطريق أو النظام.
إن المسيرة التي يطويها الفرد الإنساني والمجتمع الإنساني تشبه مسيرة قافلة متحركة سائرة متنقلة من محطة إلى أخرى.
الفرد والمجتمع لا يمكن أن يكونا ساكنين، ولا ينبغي أن يمكثا في نقطة معينة من المسير، فذلك معارض لقانون الطبيعة، لكن المسير التكاملي للفرد والمجتمع واحد لا يتغير. ترى هل من الضروري أن يغير الفرد والمجتمع طريقهما التكاملي في كل مرحلة من مراحل حياتهما؟ هل من اللازم أن ينتخبا في كل مرحلة طريقاً جديداً وهدفاً جديداً؟! كلا.. المسيرة التكاملية للبشر خط ثابت يشبه مدار النجوم.
مستلزمات الحياة الإنسانية ومظاهر المدنية تتطور باستمرار، ولكن ترى هل إن إنسانية الإنسان والقيم الإنسانية والكمال الإنساني هي الأخرى حقائق متبدلة؟ هل إن الموازين الإنسانية التي نؤمن بها اليوم هي غير الموازين التي كان يؤمن بها أجدادنا وغير الموازين التي سيؤمن بها أحفادنا؟! هل سيأتي يوم تعتبر فيه البشرية «تشومبي» و»معاوية» مثالاً للإنسانية، وتعتبر «لوممبا» و»أبا ذر» مثالاً لأعداء الإنسانية؟! هذا مستحيل. الإنسان ـ كما قلنا ـ غير ثابت لكن مداره ثابت، ومن هنا فهو يمتلك معايير هي بمثابة دلالات لطريقه. فكما أن المسافر يحتاج إلى علامات ودلالات كي لا يضل الطريق؛ كذلك الإنسان بحاجة إلى معايير ثابتة يهتدي بها في مسيره... لو أن تغيراً طرأ على النوع الإنساني لاستلزم تغيراً في القوانين التي تتحكم فيه، لكن ثبات النوع الإنساني يتطلب بالضرورة مجموعة مبادئ ثابتة ترتبط بطبيعة الإنسان وكماله. على أن الإنسان يحتاج أيضاً إلى قوانين متغيرة تسد احتياجاته المتطورة خلال انتقاله من محطة إلى أخرى، أو من مرحلة إلى أخرى خلال مسيرته التكاملية.
الإنسان يحتاج ـ إذن ـ إلى قوانين ومبادئ ثابتة ترتبط بحركته المدارية، وإلى قوانين متغيرة ترتبط بتنقله المرحلي .
والإسلام المأخوذ صافياً عن «محمد وآل محمد» يتعاطى مع الإنسان على هذا النسق، وكمثال على ذلك نقول: قوله تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فالاعداد مبدأ ثابت لا يتغير، ولكن التطبيق يختلف باختلاف الزمان ومتطلبات العصر، فالمبدأ ثابت هنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، إلا أن التطبيق متغير بحكم الزمان والظروف.
إن أفضل تعبير عن ثبات المبادئ الإسلامية بما لا يتنافى مع حركية ومرونة الإسلام بشكل عام هو ما أفاضه الإمام السيد محمد باقر الصدر{ حيث قال ما محصله: في الإسلام يوجد مؤشرات عامة ثابتة هي الأساس لانبثاق واستيحاء العناصر المتحركة والمرنة التي تواكب المستجدات والمتغيرات بما يكفل تحقيق الأهداف التي وضعت لأجل تحقيقها المؤشرات العامة الثابتة. قال{: «إن الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحية دائماً ذلك أن الاقتصاد الإسلامي  تمثله أحكام الإسلام في الثروة وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر:
أحدهما: العناصر الثابتة: وهي الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة... والآخر: العناصر المرنة والمتحركة: وهي تلك العناصر التي تستمد ـ على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف ـ من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
فهناك إذن في العناصر الثابتة ما يقوم بدور مؤشرات عامة تعتمد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة .
إن العناصر المتحركة بنظر الإمام الشهيد{ يوجهها النبي P والأئمةR، فتحت عنوان فرعي سماه{ «اتجاه العناصر المتحركة على يد النبي أو الوصي» قال{: «وهذا المؤشر يعني أن النبي P والأئمة لهم شخصيتان: الأولى: بوصفهم مبلغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكاماً وقادة للمجتمع الإسلامي يضعون العناصر المتحركة التي يستوحونها من المؤشرات العامة للإسلام والروح الإجتماعية والإنسانية للشريعة المقدسة، وعلى هذا الأساس كان النبي P والأئمةR يمارسون وضع العناصر المتحركة في مختلف شؤون الحياة...» .
والآن وبعد بيان مضمون هذه الخلفية يأتي الكلام حول السلوك البشري المنطلق من وحي هذه الخلفية، فهذه الخلفية تقول للسالك بلسان الحال: أنت في حركة دائمة من المبدأ إلى المنتهى؛ وبالإنطلاق من الثوابت التي تضمن لك تلبية سائر احتياجاتك وتطالبك بالتعديل والتغيير بوحي من ذاتك في مرحلة الإنحراف الكلي والجزئي كي تعود إلى الثوابت الصحيحة وهذا مغزى الثبات والحركية في آن.
«وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها، فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط، ويعرفها على مكاسبها منه». وكلما انحرف السالك عن النظام الوجودي العام، وكلما ابتعد عن الهدف من وراء وجوده؛ يقال له إسلامياً: غيّر بدّل عدّل أنِبْ إرجع.
«ومع أن تحديد وضبط السلوك البشري قد أوكل إلى الشريعة الإسلامية والوحي الإلهي في النظرية الإسلامية إلا أن الشريعة ذاتها قد اهتمت بالعرف العام نظراً لما له من أهمية خاصة وجعلته أداةً لتحقيق الضبط السلوكي والقانوني للإنسان، وعملت على ايجاد الأعراف التي تنسجم مع السلوك الذي يراد تربية الإنسان المسلم عليه من قبل الشريعة، وكان (للشعار) دور مهم في إيجاد هذا العرف العام، ولعل بالإمكان ملاحظة مثل هذا الأمر في بعض الأحكام الشرعية والتي من جملتها حرمة التجاهر بالإفطار في شهر رمضان حتى للمعذور شرعاً كالمريض والمسافر، لأن في هذا التجاهر خرقاً للعرف العام الذي أريد أن يكون عليه مظهر المسلمين في هذا الشهر المبارك. وأحكام التشبه بالكافرين في ملبسهم أو الرجال بالنساء أو بالعكس» .
ولقد قيل بأن السلوك البشري من الناحية العملية مرتبط بالعوامل الوراثية وبالكروموسومات ورأى عكس ذلك آخرون؛ حيث أرجعوا كل أنماط السلوك الفردي والإجتماعي إلى البيئة والمحيط والتربية والتنشئة، حتى أن العالم النفساني الأمريكي (واتسون) قال في معرض انتصاره للرأي الثاني: أعطني اثني عشر طفلاً وهيئ لي الظروف المناسبة أجعل ممن أريد منهم طبيباً حاذقاً أو أستاذاً قديراً أو رساماً... وحتى لو شئت لصاً أو شحاذاً..».
إن الإسلام وبمعزل عن فساد هاتين النظريتين أو صحتهما فإنه وضع التشريع الصحيح والمناسب لرفد العوامل الوراثية وجعلها مولّدة لمنتهى الإيجابية بما يكفل جعل السلوك البشري منطلقاً من أسس وراثية سليمة، كما أن الإسلام أحاط البيئة والمحيط وعملية التربية والتعليم بتشريعات تحول دون انحراف السلوك البشري من جهة، وتضمن عودة الإنسان عن الإنحراف فيما لو انحرف في شوط من أشواط حياته من جهة أخرى .
إن الإسلام يريد تأصيل الروح الإنسانية في كل أنماط السلوك عند البشر على حد تعبير العلامة الشيخ أحمد الوائلي{ في كتابه هوية التشيع، وما ذلك إلا لأن رسالة الإسلام هي رسالة إنسانية وكل ما تهدف إليه هو صناعة الإنسان عبر جعل سلوكه سلوكاً إنسانياً صرفاً.
إن من أهم الأدلة على أن السلوك البشري في ظل الإسلام قابل للتعديل والتبديل هو هذا الكم الوافر من الآيات القرآنية التي تدعو إلى التعقل والتفكر والتذكر والتبصر والإعتبار والإتعاظ والخوف والرجاء والتوبة والرجوع والترك والإنزجار والرفض والقبول والتحرر واستعراض الخيارات المتعددة وعرض البدائل بقالب تساؤلي؛ فكل هذه الموضوعات المطروحة في القرآن الكريم تدعو إلى التحرك والتغيير والتعديل في السلوك البشري من السيئ إلى الحسن ومنه إلى الأحسن، لأن الإنسان في حركة دائبة ودائمة نحو الحق تبارك وتعالى، على أن التغيير والتعديل هنا ليس بمعنى تغيير التشريع؛ كلا بل هو ثابت، وإنما بمعنى تغيير وتبديل الوضعية أي من اللاإسلام واللاإيمان واللاتقوى واللايقين إلى الإسلام والإيمان والتقوى واليقين!! وكذا بمعنى تغيير وتعديل الوضعية من الحسن إلى الأحسن أي من الإيمان إلى الأشد إيماناً ومن التقوى إلى الأشد تقى ومن اليقين إلى الأشد يقيناً وهكذا.
إن في قوله تعالى: }إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ (الرعد:11) خير تعبير مباشر على ضرورة وجود عملية تغييرية في السلوك البشري إذا ما وصل إلى طريق مسدود!! نعم إذا كانت الخلفية الفكرية والقيمية لهذا السلوك صحيحة ووصل إلى طريق مسدود فهنا يتطلب الأمر التعديل إما على صعيد تغيير وتعديل القراءة لهذه الخلفية ؛ وإما على صعيد تغيير أنماط السلوك المعدة لتطبيق هذه الخلفية، وإما على صعيد تغيير الظروف والأجواء التي حالت دون نجاح هذا السلوك في العبور!!! وهذا كله يعني أن التغيير في الآية لا يراد منه التغيير السلبي أعني تغيير المنظومة التشريعية والقيمية الإلهية أو تغيير مدار السلوك البشري المنطلق من هذه الخلفية؛ وإنما المراد من ذلك التغيير من اللاتشريع واللاقيم إلى التشريع والقيم، والتغيير من التشريع المزيف والمزوّر إلى التشريع الأصيل والصحيح؛ ومنه إلى السلوك البشري السليم والصائب والذي تخاطبه خلفيته الفكرية والقيمية بالقول: إذا انحرفت فغيّر وبدّل.
والتغيير المطلوب في الآية لا يخاطب الناس على المستوى الفكري والقيمي فحسب؛ بل يخاطب أيضاً من يؤمنون بالخلفية الفكرية والقيمية الصحيحة ثم لا يترجمونها سلوكاً بشرياً سليماً وصحيحاً؛ إذ أنه ليس من المطلوب تغيير التشريع الصحيح والسليم طالما أنه يلبّي كل احتياجات البشرية وإنما المطلوب تغيير السلوك ليتطابق مع أهداف هذا التشريع.


 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=271
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 04 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28