• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : في رحاب آيات الحج من سورة البقرة .

في رحاب آيات الحج من سورة البقرة

 

  في رحاب آيات الحج  من سورة البقرة

 

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203

قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ
أي: إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات، و معروفات عند الناس، و هي: شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، كما تدل عليه السنة المقدسة، فلا يقع شي‏ء منه في غيرها و إن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج، و كذلك عمرة التمتع لأنها من الحج، و يدل عليه‏ الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة
و المراد من الآية: أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ، و عدّ جزء من العمل منزلة تمامه، يقال رأيته يوم الجمعة و إنّما رآه في بعضه دون الجميع و كذا اجتمعت معه سنة كذا، و غير ذلك
وهذه الآية تستبطن نفيا لأحد التقاليد الخرافيّة في الجاهليّة حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدّموا و يؤخّروا منها كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول: «إنّ هذه الأشهر معلومة و معيّنة فلا يصحّ تقديمها و تأخيرها
قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ
نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة و هو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ
أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا
و تقدم الكلام في الرّفث في آية 187 من هذه السورة، ويراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له
ومادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشي‏ء من الشي‏ء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، و هو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم،
و المراد بالفسوق هنا: مطلق ارتكاب المناهي، و ما يوجب الخروج عن طاعة اللّه عزّ و جل، و هو و إن كان حراما في غير الحج أيضا و لكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه و بعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع و الانفصال في مثل هذا الحال.
والجدال: المفاوضة على نحو المنازعة و المغالبة، و المراء بالكلام، وهو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد، أو باللسان و الأخير يسمى جدالا، و ما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، و ما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، و ما كان لتثبيته و إيضاحه فهو أحسن
و قد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا و اللّه، و بلى و اللّه»
و الظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل و كان يجري فيها، التنابز بالألقاب و الخصام و المراء، و غير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، و لا تناسب بين ما كان كذلك و بين ما هو من شأنه البعد و الفرقة و الانفصال
و هكذا ينبغي أن تكون أجواء الحجّ طاهرة من التمتّعات الجنسيّة و كذلك من الذنوب و الجدال العقيم و أمثال ذلك، لأنّها أجواء عباديّة تتطلّب الإخلاص و ترك اللّذائذ المادية و تقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطّاهر قوّة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيدا عن عالم المادّة، و في نفس الوقت تقوّي الالفة و الاتحاد و الاتّفاق و الأخوة بين المسلمين باجتناب كلّ ما ينافي هذه الأمور.
و لكلّ واحد من هذه الأحكام الشرعيّة شروح و شرائط مذكورة في كتب مناسك الحجّ الفقهيّة
وتدلّ الآيات الكريمة على أمور:
الأول : يستفاد من قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّ أشهر الحج كانت معلومة عند العرب في الجاهلية و معروفة قبل الإسلام و قد قرّرت الشريعة المقدّسة ذلك و لم تغيّرها
الثاني :  يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أنّ للحج تحريما و تحليلا فمن شرع فيه يجب عليه إتمامه و التحلّل منه
الثالث: إنّما ذكر سبحانه: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازا عن الوقوع فيما يوجب العقاب و العذاب، و لأنّ العالم لا يخالف أمر اللّه تعالى، لأنّ علمه يمنعه و يرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفا في التقوى للعالم به
الرابع: أنّ في قوله تعالى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ الاهتمام بنفي الجدال أشد من نفي الرّفث و الفسوق، لأنّ الجدال أهمّ و أعمّ، و لذلك اهتم الجليل به و ذكر الحج عقيبه.        
الخامس : أنّ في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ إشارة إلى تحقيق المساواة، و ترك التفاخر، و لزوم الجماعة، و للإعلام بأنّ الإفاضة شرع قديم و إرشاد إلى اختيار الإفاضة المشروعة المبنية على السكينة و الوقار دون غيرها
السادس : يستفاد من تكرار الأمر بالذّكر خمس مرّات شدة عناية اللّه بخلقه، و ذلك بالحضّ و الترغيب بفعل الأصلح، و إرشادهم إلى القيام بما هو كثير الفائدة و الجزاء لهم فأمرهم بالذّكر في هذه المواطن الكريمة و الأزمنة الشريفة
السابع: إنّما شبّه ذكره تبارك و تعالى بذكر الآباء، لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء و التفاخر بهم، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال، و لم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية إلا ذكر الآباء و الأنساب و التفاخر بها فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن و الأصلح، و هو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم و الأجر الجزيل. و الترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التّقوى و تفاوتها في مراتب الذّكر، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء، و منهم من يكون أشد
السابع : أنّ في قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لطفا ظاهرا و إعلاما بأنّ اجتماع الحجيج في المواطن الشريفة و إفاضتهم منها إنّما هي حشر مصغر لا بد أن يتذكر منه الحشر الأكبر، و هو حشر الناس إلى اللّه تعالى


 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=310
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28