• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : نظرية المعرفة في ضوء مباحث الوجود الذهني .
                          • رقم العدد : العدد العشرون .

نظرية المعرفة في ضوء مباحث الوجود الذهني

 


نظرية المعرفة في ضوء مباحث الوجود الذهني


الشيخ حسن بدران

تنهض "نظرية المعرفة" على أرضية الربط ما بين الذات والواقع، وإعادة اللحمة بينهما. وقد تناولتها الفلسفة الاسلامية من خلال تسليط الضوء على طبيعة «الوجود الذهني» نفسه، والتركيز على بنية المعرفة بوصفها حدثا علائقيا يسهم في التجسير ما بين ضفتي النفس والواقع؛ وسوف تقوم اللحمة الوجودية بين العلم والنفس وفق مقولة تدعو لاتحاد العالم بالمعلوم، فيما تقوم اللحمة الماهوية بين النفس والواقع على أساس مبحث الوجود الذهني.
ويعتبر "الوجود الذهني" المبحث الأكثر مقاربة لإشكالية المعرفة وقيمتها في مباحث الفلسفة الاسلامية. ذلك أن الماهية، أو الصورة العلمية للشيء، كما يكون لها وجود في الخارج بحيث يترتب عليه الأثر المطلوب منه، كذلك يكون لها وجود لدى الذهن لا يترتب عليه ذلك الأثر المترتب على الوجود الخارجي.
من هنا، صح تقسيم الوجود إلى قسمين: ذهني وخارجي، وهما مختلفان من جهة الوجود؛ إذ الوجود الخارجي ليس من سنخ الوجود الذهني؛ لاختلاف [وتخلّف] الآثار، فالنار بوجودها العيني الخارجي لها آثار خاصة من الإضاءة والإحراق وغيرهما، ولكنها بوجودها الذهني لا تكون مضيئة ولا محرقة. وهما متحدان من جهة الماهية، إذ الماهية هي هي في الوجودين، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف: فماهية النار تصدق على النار العنصرية الخارجية، وتصدق أيضا على النار الخيالية المجردة عن المادة بلا تفاوت في الصدق، وإن تفاوتت في الوجود. فالماهيات محفوظة في أنحاء الوجودات.
ويمكن التمييز بين مستويين في النظر إلى الوجود الذهني نفسه:
الأول: أن هناك وجودا ذهنيا وراء الوجود الخارجي، فليس العلم مجرد إضافة ونسبة بين شيئين. والوجود الذهني بهذا اللحاظ هو أحد الموجودات العينية الخارجية التي يترتب عليها الأثر الخاص بها، فهو من هذه الجهة - بصرف النظر عن كونه مقيسا إلى الوجود الخارجي - وجود عيني خارجي كسائر الموجودات العينية الخارجية. وعليه، يقع البحث هنا عن الوجود الذهني في مقابل نظرية الاضافة التي تنسب للاشعري والفخر الرازي. والهدف من هذا البحث هو إثبات الوجود الذهني في مقابل من ينفيه.
الثاني: أن هذا الوجود الذهني هو عين الوجود الخارجي من حيث الماهية، وليس شبحه. والوجود الذهني بهذا اللحاظ هو وجود ظلي للوجود العيني الخارجي، وينظر به مقيسا إلى الخارج وآلة ومرآة وكاشف عنه بحيث يحكي نفس ماهية الخارج ولكن من دون أن يكون له أثر الخارج، فالمحاكاة ملحوظة ومعتبرة فيه. وعليه، يقع البحث هنا عن الوجود الذهني في مقابل نظرية الشبح. والهدف منه هو تفسير مدى كاشفية العلم. فإذا كانت ماهية الإنسان في الذهن مطابقة لماهية الإنسان في الخارج، أي كانت الماهية محفوظة في الوجودين الذهني والخارجي، نستطيع حينئذ أن نقول أننا نعلم نفس الواقع الخارجي للإنسان، وليس شيئا آخر.
إن مقصود الفلاسفة من بحث الوجود الذهني هو البحث فيه باعتباره وجودا ظليا حكائيا لا يترتب عليه أثر ما يحكي عنه من موجودات الخارج، وهو بهذا المعنى فقط يكون وجودا ذهنيا. وإلاّ فهو - باعتباره وجودا عينيا خارجيا يترتب عليه الأثر الخاص به في الخارج - لا يتميز في شيء عن سائر الموجودات الخارجية.
فالبحث عن الوجود الذهني هو بحث عن حقيقة العلم الذي هو أمر نفسي له ارتباط وعلاقة بالخارج، وهو بالتحديد بحث عن طبيعة العلاقة بين الذهن والخارج، فإذا كانت العلاقة بينهما ماهوية، يمكن القول حينئذ بأن العلم بشيء يعني حصول ماهيته نفسها إلى الذهن، ومن خلال هذه العلاقة نتعرف على حقيقة الأشياء من حولنا ولو في الجملة. وأما إذا كانت العلاقة بين الذهن والخارج من نوع آخر، فيمكن القول حينئذ بأن ماهية الشيء المعلوم لم تحصل في الذهن بنفسها، وينسد معه الطريق إلى العلم بماهيات الأشياء. إذن، لا يمكن لأي علاقة غير العلاقة الماهوية أن تتكفل تفسير حقيقة العلم وملاك حصوله. من هنا، يتعلق البحث عن الوجود الذهني بعلم المعرفة، ويبحث عن قيمة العلم ومدى اعتباره ومطابقته للواقع، ولا يمكن الخوض في مدى مطابقة معطيات الفكر البشري للواقع، ومعرفة أي مقدار من الحقيقة نملك، ما لم نحدّد مسبقا طبيعة العلاقة القائمة بين المعلوم الذهني والمعلوم الخارجي.
وعليه، هل أن علمنا بالواقع هو عبارة عن نسبة وإضافة بين النفس والواقع؟ (نظرية الاضافة). أو أن ما نتصوره عن الواقع هو الواقع بحد ذاته؟ (النظرية الماهوية). أم أننا حين ندرك الواقع فإننا ندرك في الحقيقة شيئا آخر يشابه هذا الواقع في بعض الخصوصيات لا غير؟ (نظرية الشبح).
الآراء في المسألة ثلاثة، وهي:
1 - الوجود الذهني: ذهب فلاسفة عموماً إلى إثبات الوجود الذهني، وأن وراء هذا الوجود الخارجي الذي تترتب عليه الآثار، وجودا آخر لا تترتب عليه تلك الآثار (وإن ترتبت عليه آثار من نوع آخر)، وأن هذا الوجود الذهني متحد مع الوجود الخارجي ولكن ليس اتحاده معه بالوجود. إن الصلة التي تربط الوجود الذهني بالوجود الخارجي هي الماهية، فالماهية تقوم بدور الوسيط الوفي بين الذهن والخارج بحيث تكون الماهية في الخارج عين الماهية في الذهن.
2 - نظرية الإضافة: وهي نظرية تنكر أن يكون للوجود الذهني أي نصيب من التحقق، وتذهب إلى أنه عندما ندرك صورة ما لا يكاد يختلف حالنا بشيء عن الحال السابق، وأقصى ما يفيده العلم هو النسبة والإضافة بين العالم والمعلوم، فعلم النفس بشيء عبارة عن إضافة خاصة منها إليه. وينسب هذا الرأي إلى أبي الحسن الأشعري من المتكلمين، وتبعه الفخر الرازي. وتصطدم هذه النظرية بعدة عقبات، منها تفسير العلم بالمعدوم، والعلم بالنفس.
3 - نظرية الشبح: وهذه النظرية لا تنكر الوجود الذهني من الأساس، ولكنها ترى أن ما ندركه ليس هو عين الخارج، ولا مطابق له، وإنما هو مشابه له في الخصائص والعوارض فحسب، فهو شبح الماهية لا نفسها، فيكون عرضا وكيفا قائما بالنفس، يباين المعلوم الخارجي في ذاته ويشابهه في بعض خصوصياته، تماما كما هو الحال في صورة الإنسان المنقوشة على الحائط، فهذه الصورة تشبه الإنسان في بعض الخصائص وتختلف عنه في أشياء أخرى: فالإنسان جوهر والصورة المنقوشة عرض، والإنسان حساس والصورة جماد.. فهما متباينان من حيث الماهية، وما نعلمه فهو مشابه للواقع الخارجي في بعض الخصوصيات وليس الواقع بما هو عليه. ويلزم من هذه النظرية الوقوع في مغبة السفسطة المعرفية.
الأدلة على نظرية الوجود الذهني
استدل الحكيم السبزواري في منظومته بثلاث أدلة على الوجود الذهني، الأول منها مستند إلى مبدأ "قاعدة الفرعية"، والثاني إلى مبدأ "أن التصور إشارة عقلية"، والثالث إلى مبدأ "لا ميز في صرف الشيء". وهذه الأدلة هي:
1- (للحكم ايجابا على المعدوم)
يسلك هذا الدليل مسلك موضوعية الموجبة: انعدام المثبت له [في الخارج] دليل على أنه [في الذهن].
وهو مؤلف من مقدمتين ونتيجة:
- نحكم على ما لا وجود له في الخارج حكما إيجابيا، أي أن للذهن احكاما ايجابية تثبت المحمول لموضوع لا وجود له في الخارج. فهناك احكاما نثبتها للاشياء، ونعتبرها من الامور المقطوع بها مع انه لا وجود لموضوعها في الخارج، بل لا يمكن لموضوعها ان يوجد في الخارج، من قبيل: (كل عنقاء طائر)، (اجتماع النقيضين غير اجتماع الضدين).
- وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، وهذه القاعدة تعرف بقاعدة الفرعية، ومعناها أنه لا بد من إثبات الموضوع أولا، ثم نحمل عليه وننسب له اشياء وصفات أخرى، لأن ثبوت المحمول للموضوع فرع ثبوت الموضوع نفسه: (العرش ثم النقش). فصدق الحكم الإيجابي يستلزم وجود موضوعه، والا يلزم اتصاف المعدوم بالصفات الوجودية، وهو محال.
- وإذ ليس المثبت له هنا في الخارج، فلا بد أن يكون له وجود في موطن ما غير الخارج حتى يصح الحكم عليه، وهذا الموطن ليس هو سوى الذهن.
المثال الأول: (بحر من الزئبق بارد بالطبع): لا وجود لـ [بحر من الزئبق]، في الخارج، ومع ذلك نقطع بصدق القضية. فهذه القضية ليست خارجية [لانعدام موضوعها في الخارج]، ولا شرطية [كما هو واضح]، فتكون حقيقية: فيجب ان يكون ثبوت الحكم فيها فرع وجود الموضوع، ولما لم يكن للموضوع وجود خارجي، فلا بد من وجوده في عالم الذهن. قال نصير الدين الطوسي في التجريد: (وهو [أي الوجود] ينقسم إلى الذهني والخارجي، وإلا [إذا لم يكن الوجود الذهني] لبطلت الحقيقية). ولما كانت القضية الحقيقية موجودة، فإذن، الوجود الذهني موجود.
ان الحكم في القضايا الحقيقية من لوازم الماهية وليس من احكام الوجود، فاذا كان الحكم في القضية متعلقا بالطبيعة الكلية، فلا يمكن ان تنحل القضية الى شرطية، لأن هذه الماهية هي التي تعلق بها الحكم بغض النظر عن وجودها وعدمه. وعليه، يمكن ان يرد على المثال (بحر من الزئبق بارد بالطبع) ان البرودة حكم للوجود وليست حكما للماهية.
المثال الثاني: (اجتماع النقيضين محال): لا وجود لـ [اجتماع النقيضين] في الخارج، ومع ذلك نقطع بصدق القضية، فقد حكمنا عليه بعدم الوجود في الخارج، اذن، على ماذا اصدرنا حكمنا؟ واين يوجد ذلك الاجتماع الذي حكمنا باستحالته؟ لا بد ان يكون محل ذلك الاجتماع هو الذهن لكي نستطيع الحكم عليه.
2 - (ولانتزاع الشيء ذي العموم)
يسلك هذا الدليل مسلك الكلية: جزئية المعلوم [في الخارج] دليل على أن الكلية [في الذهن].
توضيح الدليل في ضمن خطوات:
أ - إن الذهن قادر على انتزاع المعنى الكلي / إن الانسان قادر على تصور المعنى الكلي في ذهنه / إننا نتصور مفهومات كلية وعامة بحذف خصائصها ومميزاتها / يوجد في الذهن تصور عن الكلي.
ب - كل تصور لشيء هو نوع إشارة لذلك الشيء / الادراك نفسه هو نوع اشارة عقلية للمدرك / عندما نتصور شيئا فإن ذهننا يشير إلى تلك الحقيقة / التصور إشارة عقلية.
ج - المعدوم المطلق لا يشار إليه مطلقا / لا بد لتلك الحقيقة الكلية من موطن؛ لأن المعدوم المطلق لا يقبل أي إشارة.
د - الحقيقة موجودة بنحو الكلية، وإذ ليس وجودها في الخارج؛ لأن كل ما يوجد في الخارج جزئي، ففي الذهن / الكلي لا وجود له في الخارج، فلا بد أن يوجد في موطن آخر، وليس ذلك الموطن سوى الذهن / وجود الكلي في الخارج إنما هو بشرط الكثرة، وقد لاحظناه من حيث أنه معنى واحد، وهو بهذا الإعتبار لا يوجد في الخارج، فوجوده من هذه الجهة إنما هو في العقل.
- إذن، تصور الكلي يدل على الوجود الذهني.
إن الكلي الطبيعي لا بشرط عن الكلية والجزئية، وهو في الذهن – أي بقيد الكلية - كلي عقلي، وفي الخارج جزئي. فإذن يبتني دليل الكلية على أن الطبيعة توجد في الذهن مع صفة الكلية، ولكن هذا لا يعني أن بحث الوجود الذهني هو نفس بحث (الكلي). وعليه، فالكلي العقلي: إما معدوم، فلا يشار إليه. وإما ليس له إلا شيئية الماهية، فيلزم تقرّر الماهية منفكّة عن كافة الوجودات (كما يقول به المعتزلة) وهو باطل. وإما موجود في الخارج، فلا يكون كليا؛ إذ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد. وإما موجود في الذهن، وهو المطلوب.
3 - (صرف الحقيقة الذي ما كثرا من دون منضماتها العقلُ يرى)
يسلك هذا الدليل مسلك الوحدة: تركيب المعلوم [في الخارج] دليل على أن الصرافة [في الذهن].
صرف الحقيقة باسقاط شوائبها الأجنبية عنها واحد، كالبياض فانه اذا اسقط عنه الموضوعات من الثلج والعاج والقطن وغيرها، واللواحق من الزمان والمكان والجهة وغيرها، كان واحدا؛ إذ لا ميز في الشيء. فهو بهذا النحو من الوحدة الجامعة لما هو من سنخه، المحذوف عنها ما هو من غرائبه، موجود بوجود وسيع؛ وإذ ليس في الخارج - لأنه فيه بنعت الكثرة والإختلاط - ففي الذهن.
إن الذهن قادر على تعقل الحقائق الصرفة، وغير المخلوطة بشيء آخر، ولا توجد حقيقة صرفة في الخارج، فلا يوجد في الخارج حديد محض، لا يوجد جوهر الحديد مجردا عن الكيفية والكمية والوضع والجهة وليس له علاقة بغيره من الاشياء.. بل الحديد في الخارج يوجد بكيفية معينة، وكمية معينة، وله اضافة بالنسبة الى الاشياء فهو تحت الشيء الفلاني وفوق الشيء الفلاني.. وهكذا جميع الاشياء في الطبيعة مخلوطة مع اشياء اخرى، ومركبة مع غيرها، ولا توجد بشكل صرف. ولكن الذهن يقوم بتجريد الاشياء، واستحضارها لديه صرفة محضة، وهذا هو التجريد (والتجريد مقابل التعميم الذي قام عليه برهان الكلي). والتعميم يعني اعطاء الاشياء التي يتصورها الذهن صفة العموم والكلية. وفي التجريد فلا يقوم الذهن بفصل الاشياء المتلازمة في الخارج، والتي يستحيل فصلها عن بعضها البعض. فمثلا لا يوجد في الخارج عدد بلا معدود، إلا أن الذهن قادر على فصل العدد عن المعدود. كما لا يوجد في الخارج انسان مطلقا [عن كل قيد]، لأن الانسان الخارجي إنسان مع آلاف المشخصات، من كمية وكيفية وشكل ووزن.. وغير ذلك. وتلك المشخصات لا دخل لها في ماهيته مطلقا، وإن كان الانسان ملازما لهذه المشخصات في الخارج لا ينفك عنها. والذهن قادر على وضع صورة للإنسان خالية من كل هذه المشخصات الزائدة على ماهيته وذاته، فيتصور صرف الانسانية. ومن المعلوم ان مثل هذا الانسان المحض بدون مشخصات ليس له وجود في الخارج، إذ من المستحيل أن يكون الانسان في الخارج بلا مشخصاته، فلا بد له من محل يكون فيه، وليس هذا المحل سوى الذهن.
قيمة المعرفة في الوجود الذهني
لا شك أن أدلة الوجود الذهني تثبت وجود شيء في الذهن في حالة الادراك، وأن العلم ليس صرف اضافة، فهي تنهض لإثبات الوجود الذهني بمعنى نفي نظرية الإضافة، ولكن هل تتكفل بالرد على نظرية الشبح بحيث تكون هذه الأدلة كافية لإثبات نظرية الحكماء القائلة بحصول نفس الماهية في الذهن؟
يدعي الشيرازي والسبزواري أن الأدلة تكفي لنفي القول بنظرية الشبح أيضا، ويمكن أن نستنتج ذلك بوضوح من قولهما في الاسفار  والمنظومة أنه قد تقرّر انحفاظ الذاتيات في أنحاء الوجودات، كما تسوق إليه أدلة الوجود الذهني. ويقرر الاستاذ مدرس ذلك بأنه حينما نحكم على بحر من الزئبق بحكم إيجابي كالحكم بأنه بارد بالطبع "فإن الحكم الايجابي إنما هو على حقائق الأشياء، لا على أشباحها، فلو تمت الأدلة لدلّت على أن الاشياء بماهياتها وجودا في الذهن". كذلك المحقق اللاهيجي في كتابه "شوارق الالهام"  يصرح بعد تعرضه للمذهب الماهوي ومذهب الشبح بأن الوجوه الدالة على ثبوت الوجود الذهني إنما دلالتها على وجود حقائق الأشياء وماهياتها في الذهن، لا الأمر المغاير لها في الماهية الموافق لها في بعض الأعراض. فإن الحكم على شيء إنما يستدعي وجود ذلك الشيء وثبوته، لا ثبوت أمر مغاير له وإن وافقه في بعض الأعراض.
ويوضح السيد محمد الصدر ذلك بأن المستفاد من البرهان الاول: ان الماهية بجنسها وفصلها ولوازمها واعراضها العامة والخاصة موجودة عند الذهن. فالمحكوم عليه في المثال الاول نفس البحر من الزئبق لا شبحه؛ لأن شبحه يصح سلب البرودة عنه، وكذا المحكوم عليه في المثال الثاني نفس اجتماع النقيضين، لا ما يغايره بحسب الذات ويوافقه في بعض الصفات، وان القاعدة الفرعية حكمت بأن نفس المحكوم عليه موجود، لا ما يشابهه. كما ان المستفاد من البرهان الثاني ايضا كذلك؛ فإنه يدل على ان نفس المفاهيم الكلية باجناسها وفصولها ولوازمها موجودة عند الذهن؛ اذ المشار اليه بالاشارة العقلية انما هو ذوات تلك المفاهيم لا اشباحها. وكذا الحال في البرهان الثالث الدال بأن صرف حقيقة الشيء ونفسها موجود لدى الذهن.. فإن التعقل انما تعلق بنفس ذلك المعقول، فهو الذي يكون حاضرا لدى القوة العاقلة لا شبحه وما يشابهه.
ويقول العلامة المطهري في محاضراته التي جمعت في كتاب باسم (محاضرات في الفلسفة الإسلامية): مما لا شك فيه أن أفلاطون وأرسطو وأتباعهما كانوا يصدقون بمطابقة العلم والمعلوم بنحو إجمالي، وذلك إزاء السفسطائيين والشكاكين الذين كانوا يشكون في وجود أي تطابق بين العلم والمعلوم، ولكن هذا لوحده لا يدل على أن نظر أفلاطون وأرسطو هو القول بنظرية الماهية، وذلك لأنه - كما سنرى - فإن مؤيدي نظرية الأشباح لم يكونوا ينكرون تطابق العلم والمعلوم، كما هو شأن القائلين بمادية العلم والإدراك الذين ظهروا في القرون الحديثة. فإنهم لا ينكرون تطابق العلم والمعلوم، بل انهم يدافعون عنه بشدة. أما الإشكالات المثارة على مدعاهم، أو كون تطابق العلم والمعلوم لا يتفق إلا مع نظرية الماهية ؛ فإنها قضية أخرى، إن ورود إيراد وإشكال على رأي شخصي لا يمكن أن يغير تاريخ الفلسفة.
وعليه، لا يكون الوجود الذهني ظهورا ظليا لما يحكي عنه في الخارج إلا لأنه هو هو بعينه من جهة الماهية، بحيث يكون الإختلاف بين الخارج والذهن من ناحية الوجود فحسب، أما بحسب المقومات والذاتيات فهو هو لا يختلف عنه او يتخلف عنه في شيء من ذاتياته.

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=362
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 08 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28