• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : رحلة إلى سجن رومية المركزي .
                          • رقم العدد : العدد الواحد والعشرون .

رحلة إلى سجن رومية المركزي

 

رحلة إلى سجن رومية المركزي
كتب الشيخ علي سليم سليم
   في الحقيقة هي ليست رحلة بقدر ما هي نقل صور كثيرة من المعاناة التي يكابدها السجين في لبنان بشكل عام .
  السجين هو إنسان أولاً، ارتكب خطيئة، جرماً، اعتداء ، جنحة مخالفة قوانين ، نعم ، لكنه يبقى إنساناً يرجى إصلاحه وتأهيله ليعود إنساناً سويا صالحا يندمج بشكل طبيعي في مجتمعه وأهله .
  بطبيعة الحال ليس كل السجناء بمستوى واحد من حيث قابلية الإصلاح أو التجاوب أو الانضباط لجهة تطبيق القوانين والإجراءات المتبعة . بعضهم يحتاج إلى شيء من القسوة .. لكن هذا يكون في حالة كون السجن عندنا نموذجياً . ولكنه ليس كذلك..
 الحديث عن السجون في لبنان حديث ذو شجون، فهناك واقع مأساوي ووضع مزري على كافة المستويات، الصحية والنفسية والخدماتية، وحالة الاكتظاظ في السكن والمبيت، والاختلاط حيث يتواجد في المكان الواحد سجناء لأسباب مختلفة، فمرتكبو جرائم القتل وتجارة المخدرات، والتعاطي، والسرقة، يتواجدون مع مرتكبي الجنح والمخالفات البسيطة في مكان واحد من دون فصل بينهم بحسب الجرم.
 كيف يستقيم هذا السلوك من قبل المعنيين مع شعار أن السجن إصلاح ... ومدرسة... إلى غير ذلك من العناوين التي لا حظ لها من الواقع .
 وبحكم دوري التبليغي والإرشادي في سجن رومية المركزي كنت أطلع على أوضاعهم خلال زياراتي عن كثب وأتفقد أحوالهم وأسمع شكواهم وما يعترضهم من مشكلات وما يلاقونه من ضيم وتضييق وحرمان وتمييز لاعتبارات جهوية ومناطقية وطائفية ومذهبية كما هو حال كل شيء في لبنان حيث يشكل السجن صورة مصغرة عما هو حاصل خارج السجن وينعكس فيه كل شيء كالمرآة تماماً . فهو صورة مصغرة عن المجتمع اللبناني بكافة تناقضاته وحساسياته الدينية والمذهبية وغيرها ..
الغريب في الأمر ، إن المأساة والمعاناة يفترض بها أن تجمع ، إلا أن هذا لا وجود له في أروقة السجون خصوصاً في سجن رومية المركزي كونه يضم اكبر عدد من السجناء بداخله وفوق ما يستوعب أيضا، كتل من المذهبية والطائفية والمتعددة الانتماءات من كل الألوان؛ تجتمع في هذا المكان الأشبه شيء بالمعتقلات، فهو بعيد عن كل المواصفات والمعايير المتبعة في العالم لصورة السجن وما يجب أن يكون عليه.
ذات يوم دخلت إلى بعض الأجنحة أتفقد حال السجناء برفقة أحد رجال الأمن.
استقبلت بترحاب السجناء من كل المناطق والطوائف ، الحال مزرية.. ولا مجال لدخول الشمس لتلك الردهات المعتمة في وسط النهار حيث النور كحال الحرية التي ينشدها الكثيرون ممن ثابوا لرشدهم بعد ارتكاب خطيئاتهم ..
 لا يزال في ذاكرتي منظر ماثل أمام ناظري عند سؤالي لأحد السجناء عن مكانه فأشار إليه وإذ به مكان أشبه ما يكون بالقبر؛ سرير فوقه سرير ، لا يأتي في مخيلتك انه مكان يعيش فيه إنسان، هو لا يتعدى عرضه نصف المتر، وعندما أضاءه تبين ما فيه من لوازم وأمتعة ، كلها في هذه البقعة الضيقة وكأنها منزله الدائم.. سوف يقضي كل مدة محكوميته هنا، هذا إن كان محكوماً أيضاً إن لم ينس، كما حصل في قضية عصام سعيد الذي نسي في السجن 11 عاما بسبب خطأ في معاملة إدارية بسيطة لم تنجز وهي "إدغام أحكام " .. وهي قضية مشهورة..
 هي حال بقية الأجنحة في المباني الأخرى المؤلف منها هذا السجين الكبير ، ولا أظن أن بقية السجون في لبنان يختلف فيها الحال ..
 في كل مرة تزداد فيها حدة الانقسام خارج السجن تنتقل إليه بشكل تلقائي ، وربما بصورة اعنف ذلك أن اغلب من هو في الداخل يصبح أكثر إصرارا على إبراز انتمائه الديني والمذهبي وممارسة، الشعائر العلنية حتى لو لم يكونوا متدينين.. وتظهر بعض أشكالها من خلال اللباس وإطلاق اللحى وحمل الصلبان وسيف "ذو الفقار"، وبعض صور القادة وحتى أعلام حزبية.
تشعر وأنت تدخل إلى قاعة الاجتماع المخصصة للمناسبات وأنت تجتاز الجموع من كل ألوان الطيف اللبناني! كأنك تجتاز المناطق كلها! بل الإجراءات المتخذة من قبل رجال الأمن على كل مدخل من مداخله كأنك تقطع الحدود إلى دولة أخرى كما قلت مرة ممازحاً أحد رجال الأمن.
علماً أنه يحتاج الوصول إلى تلك القائمة برهة من الزمن بعد مرورك عبر بوابات أربعاً كبيرة.
يمكننا وصف حال السجن بـ "فدرالية رومية" فكل مبني محسوب على طائفة ولا بد أن يكون شاويش المبنى من جنس تلك الطائفة..
طائفية السجن لا تقتصر على السجناء، بل تنسحب أيضاً على السجّان إذا بات العرف بأن يكون آمر كل مبنى وغالبية حراسه من الطائفة نفسها التي تتبع لها غالبية نزلائه..
هناك شعارات استفزازية تنطلق من بعض السجناء، لا داعي لذكرها، فغالبية الشعب اللبناني تربى تربية طائفية ومذهبية..
بالطبع ليس كل مشكلة تحصل داخل السجن، وهي كثيرة جداً، طائفية لكنها قد تأخذ طريقها إلى ذلك وهي سهلة في خارج السجن فكيف الحال بداخله؟! وبكلمة، الأوضاع في داخل السجن على أكثر من مستوى، تفتقر إلى الحد الأدنى مما يليق بالسجين الذي من الواجب العمل على تأهيله من جديد بما يمكنه من الاندماج الطبيعي في المجتمع..
عندما نتحدث عن الغاية من إنشاء السجون يجب العمل على تحقيقها وهي إصلاح الفرد وليس الانتقام من خلال الممارسات الكيدية والمزاج والتعسف.
فالسعي لتحقيق هذه الغاية المنشودة ينطلق من منظومة قيمية: الثواب والعقاب، وهذا ما يحقق حالة الارتداع ومنع الظلم والاعتداء على الآخرين وهضم حقوقهم.
وحتى نؤهل السجين بالطريقة المنهجية السليمة ونعده ليكون إنساناً مقبولاً في المجتمع، لا أن نعمل على إعداده من خلال الممارسات الخاطئة، إلى مشروع مجرم، وبذلك نمنع من ظاهرة الفرار من السجون. وكنت قد رأيت العديد من تلك الحالات من خلال زياراتي المتكررة الى السجن بما يقارب العقد من الزمن .
نحن وشعوراً منا بالمسؤولية الدينية والإنسانية تجاه هؤلاء الناس وإسهاماً منا بالوقوف إلى جانبهم نعتبر أن جميع مؤسسات المجتمع المدني والتي يسهم بعضها في هذا المجال مسؤولة إنسانياً وأخلاقياً تجاه السجناء خصوصاً في ظل تقصير الدولة وتقاعصها عن أداء واجباتها.
 نحن كمبلغين وموجهين كنا نقوم بواجباتنا بالقدر المتاح لنا وبالإمكانات المتواضعة ، ولكن ما كان يهم السجين بالدرجة الأولى هو الرعاية المعنوية التي تعتبر ضرورية كونها المتنفس الذي يشعر من خلاله السجين بأن هناك من يسأل عنه في محنته لاسيما أن مؤسسات معينة تهتم وتعتني بفئات محددة إلا أن بعض تلك المؤسسات، حتى نكون منصفين ، كانت لا تفرق بين السجناء لجهة الانتماء .. كما كنا نفعل الشيء نفسه لجهة تقديم بعض المعونات الطبية وغيرها من الخدمات  قدر الإمكان ، ولم نكن معقدين من احد ، لان دورنا إنساني ينطلق من قاعدة سنها من هو في قمة الإنسانية اعني الإمام علي عليه السلام عندما قال: الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
في السجن يوجد في كل مبنى قاعة كبيرة للمناسبات العامة ، تقام فيها الصلوات والمحاضرات والمناسبات الدينية للجميع ، كما انه يوجد إلى جانب القاعة مكتبة عامة متنوعة ، كنا نزودها بالكتب الإسلامية ..
 وردا على من يزعم إن المؤسسات الدينية أو رجال الدين كيف يمكنهم بذر الوئام والمحبة والتقارب وضرب التعصب وهم رموز طائفية ومذهبية .
أقول وبكل صراحة وشفافية ومن كان من المعنيين من آمري السجن يعلمون ذلك، إننا كنا ندعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة والتعصب .وكنا نتلمس بعض آثار ما كنا نقوم به وهذا واجبنا على كل حال .وليس صحيحا أن كل من ينتمي إلى طائفة معينة يعني انه يرفض الآخر بالمطلق.
 
حق السجين :
 وللسجين حقوق إنسانية وجسدية ومعنوية بالقانون وبشرعة الأديان، ويفترض أن الدولة الحضارية تعلم النظام وتربي عليه ، أين هذا عندنا؟ فساد مستشري ينخر عظام المؤسسات، فمن يحاسب من ؟ وفي ظل غياب المحاسبة والدوس على القانون كيف يمكن أن تستقيم الأمور بين الناس ؟ في البلاد المتحضرة يوجد محاسبة للكبار ، والقوانين تسري على الجميع سواسية من دون وساطات ومحسوبيات . هكذا نصير نظاميين .
يقول النبي (ص) لقد ضل من كان قبلكم انه كان إذا سرق الشريف فيهم تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ...
ولا بد من ايلاء هذا الملف من قبل الدولة ما يستحقه من العناية والرعاية اللازمة ،وإيجاد الحل الجذري لمعالجة المشاكل المزمنة، فكثير من قضايا السجناء محقة بمعزل عن كيفية التعبير عنها، مشكلتنا أننا نتعاطى مع المسألة بنتائجها، ونهمل الأسباب التي تؤدي إلى خواتيم مؤسفة.
وينبغي التعاطي مع هذا الأمر بمنطق الشعور بالمسؤولية مع السجين كإنسان وليس كخصم، وعدم التسييس والدخول في زواريب السياسة وبطرق مبتذلة ورخيصة ولا مسؤولة، لأن القضية تستحق أن تكون قضية وطنية بإمتياز وبتظافر الجهود من الجميع يمكن تحقيق الإنصاف والعدل.
آن لنا أن نكون حضاريين فنرتقي إلى مستوى إنسانية الإنسان بالعمل على تخفيف المعاناة عن السجناء والعمل على الحد من أسباب الجرائم في المجتمع بتأمين المستوى اللائق من العيش الكريم للناس وترسيخ الجانب التربوي السليم.
 

  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=384
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28