• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الكعبة البيت الحرام قيام للناس .

الكعبة البيت الحرام قيام للناس

   الكعبة البيت الحرام قيام للناس

 

إن المراد من القيام المطلوب في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ..}(سبأ/46). هو المقاومة والاستقامة لا الانتصاب البدني وهو واضح، ويقابله القعود بمعنى العجز والاستكانة والانظلام. ولذا جعل الجهاد والقعود متقابلين حيث قال تعالى "فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ درجة" فالمجاهد الذي يجاهد أهواءه كما يجاهد أعداءَه فهو قائم، والذي يتصالح مع هواه كما يصالح عدوه فهو قاعد، والدين الإلهي يتلخص في قوله تعالى "إنما أعظكم بواحدة"، وهو يفيد الحصر أي لا موعظة إلا بخصلة واحدة وهو القيام لله، أي المقاومة لإحياء أمر الله والاستقامة في امتثال حكمه، وهذا هو المعبر عنه بالجهاد. فالدين الإلهي متبلور في المجاهدة لا غير، والجهاد مع الأهواء والأعداء قيام، وإعطاء الأعداء بيد والتسليم لهم أو الفرار منهم قعود وعجز. ولعلّ التعبير عن المجاهدة بالقيام، لأنه من بين سائر الحالات والشؤون أقوى الحالة وأشدها دفاعاً وأهيائها دعّاً ودفعاً أو تحاملاً وتهاجماً.

فالدين قيام وجهاد لا يحوم حوله القعود والعجز، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..}(الحديد/25). حيث يدل على أن الهدف السامي للنبوة العامة السارية في سير الأنبياء الذين يسيرون عليها ويدعون إليها، هو قيام الناس بالقِسط (بالكسر) وتحرّرهم عن القَسط (بالفتح)، وأجلى مراتب القيام بالقسط هو التوحيد، لأن الشرك ظلم عظيم لا عدل فيه أصلاً، ثم سائر مراتبه في الأخلاق والأعمال، فإذا تبين أن الموعظة الإلهية تتلخص في القيام لله، وأن غاية البعثة والإرسال وإنزال الوحي هو قيام الناس بالقسط، يلزم الغور الصادق في معتمد هذا القيام وفي عمود هذه المقاومة وعماد هذه الاستقامة.

والذي ورثناه من سلالة إبراهيم الباني لهذا البيت الحرام، هو أن عامل قيام الناس ومقاومتهم تجاه الطغاة اللئام هو قيام الكعبة وحياتها ودوام أمرها، حيث قال مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة (وسائل الشيعة ج8ص14)، فحياة الكعبة هو حياة الدين، وبحياة الدين يحيا الناس، وبخراب الكعبة وانهدامها وهجرها يموت الدين، وبموته يموت الناس؛ والأصل في ذلك كله هو قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ..}(المائدة/97). حيث يدل على أن عمران الكعبة، بالطواف حولها والصلاة شطرها والحج بمناسكها، وجعلها قبلة يستقبل إليها في الشؤون العبادية ونحوها، هو العامل الهام لقيام الناس. كما يدل على أن هدم الكعبة وهجرها بترك الطواف حولها والصلاة إليها وسائر ما يعتبر فيه الاستقبال هو الموجب لقعود الناس وعجزهم عن دفع الهواء والأعداء: {..لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..}(الأنفال/42).

نتحصل أن الكعبة للدين الإلهي بمنزلة عظم الظهر وفقراته للإنسان، فإذا قامت وقويت وسلمت فقد أمكن القيام والمشي والمقاومة والسرعة إلى المغفرة والسبقة إلى الخير وما إلى ذلك مما يتوقف على القيام المعتمد على عظم الظهر وسلامة فقراته. وإذا عجزت وضعفت ووهنت فقد تعذّر القيام وامتنع الاستقامة واستحال السرعة والسبقة ونحو ذلك مما يتوقف على القيام، وذلك لكسر فقار الظهر وانثلام عماده وصيرورته فقيراً، أي المنكسر فقار ظهره بعد أن أمكن أن يصير غنياً عن الغير وقائماً بنفسه اعتماداً على من هو عماد من لا عماد له ومحترزاً بحرز من هو حرز من لا حرز له، وهو الله القائم على كل نفس بما كسبت، الذي هو بكل شيء محيط وحفيظ.

وعند هجر بيت الله ينقطع الربط، وبانفصامه لا يمكن القيام بالقسط والمقاومة مع القسط (بالفتح)، وبذا يحرم ويمنع خير الدنيا والآخرة، لأن الكعبة عامل قيام الناس لدينهم ومعاشهم حسب ما أفاده مولانا الإمام الصادق عليه السلام (وسائل الشيعة ج8ص41).

فلذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أراد دنيا وآخرة فليؤم هذا البيت" (وسائل الشيعة ج8ص40) أي من أراد أن ينال في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة حيث يقول "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" وهكذا يناجي ربه ويقول "ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشدا" فليقصد هذا البيت وليجعله إماماً يأتم به وقدوة يقتدي بها ومقصداً يطلبه، لأن في ضوئها خير الدنيا والآخرة، لأن في قيامها قيام الدين وبقيام الدين ينتفع في الدارين.

ومن أهم مظاهر الائتمام بالكعبة هو الحج بمناسكه والطواف حولها بأشواطها والهدي البالغ إياها ونحو ذلك.

ومما تقدم تبين سر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من أيسر ما يعطي من ينظر إلى الكعبة أن يعطيه الله بكل نظرة حسنة ويمحي عنه سيئة ويرفع له درجة" (وسائل الشيعة ج9ص359 و364 و365).

وعن مولانا الصادق عليه السلام: "النظر إلى الكعبة عبادة (وسائل الشيعة ج9ص359 و364 و365). وهكذا ما ورد عنه عليه السلام من التبرك بثياب الكعبة بجعلها للمصاحف (وسائل الشيعة ج9ص359 و364 و365) وغير ذلك. وأن الدخول فيها (أي في الكعبة)، دخول في رحمة الله والخروج منها خروج من الذنوب معصوم فيما بقى من عمره مفغور له ما سلف من ذنوبه. وأن الداخل فيها يدخل والله راض عنه ويخرج عطلاً من الذنوب. وهكذا ما ورد عن مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام

"الله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا" (وسائل الشيعة ج8ص15). لأن ترك بيت الله وهجره بمنزلة سقوط العماد الذي يسقط معه المتكئ به فينكب عن الصراط (إنهم عن الصراط لناكبون)، ويهوي ويسقط (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى). وما ورد عن مولانا محمد بن علي الباقر عليه السلام: "لا ينبغي لأحد أن يرفع بناء فوق الكعبة". (وسائل الشيعة ج9ص343)، فكما أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، كذلك الإسلام الممثل وهو الكعبة لا يُعلى عليه بناء، وحيث أنها قيام للناس جعلت في وسط الأرض ليكون الفرض لأهل الشرق والغرب سواء (وسائل الشيعة ج8ص8)، وحيث أنه لا شيء أحب إلى الله منها. ولذا ورد عن مولانا الصادق عليه السلام: "إن الله اختار من كل شيء شيئاً واختار من الأرض موضع الكعبة" (وسائل الشيعة ج9ص348).

والسر في ذلك كله هو أن الكعبة مثال للعرش الذي منه تدبير الأشياء كلها، ومؤسسة على التوحيد المحض ومبنية ومرفوعة على الخلوص وطاهرة عن لوث الشرك، لا يطوف حولها إلا الطاهرون، وأقدم بيت وضع للناس، وميزان الحرية، ومثابة للناس وأمن لهم، وقيام للناس بالقسط والعدل.

ولذلك يقوم الدين ما قامت الكعبة، ولأجله لم تختص بقوم دون قوم، وليس قبيلة أولى بها من قبيلة، بل ولذلك لم يحكم في شيء من الفضائل المارة بأنها أي الكعبة مثابة للمؤمنين أو قيام لهم، ولم يخاطب المؤمنون بتعظيمها ونحو ذلك، بل الخطاب أو محور الكلام في ذلك كله هو الناس بالعموم والإطلاق من دون أي وصف وقيد كما تقدم مبسوطاً.

ومن أهم مظاهر تلك السعة والدعوة البالغة والنداء العالمي هو الحج، حيث قال تعالى "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" ولم يقل يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الحج واقيموا الحج ونحو ذلك مما ورد في الصوم والصلاة، بل اللسان العالمي قد نادى بقوله "ولله على الناس.." كما أن الإعلام العالمي منذ زمن بناء البيت كان متجهاً نحو الناس سواسية، حيث قال: "وأذّن في الناس بالحج".

نتحصل أن الكعبة بنيان إلهي للناس، الأسود والأبيض والعاكف والباد والراجل والراكب من دون خصوصية لأحد أو لقوم أو لإقليم،  . ومن هنا تبين ضرورة قيام الشعب طُرّاً في تطهير الكعبة المقدسة عن تولية الطغاة المردة، ونجاتها من أيدي الأشرار المستولين على البيت الحرام والمنتفعين به نفعاً تجارياً، يبيعون الدين بالدنيا وهؤلاء هم السراق كما ورد عن مولانا الصادق عليه السلام: "أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم فقطع أيديهم وطاف بهم وقال هؤلاء سرّاق الله" (وسائل الشيعة ج9ص355).

وأنت أيها المسلم إذا سمعت (بان ولاية الكعبة كانت في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي، فجعلها حليل من بعده لابنته، وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان، فباعه أبوغبشان من قصي بن كلاب ببعير وزُق خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائد –أخسر من صفقة أبي غبشان-) (الميزان ج3ص399) ومُتّ على ذلك ألماً وأسفاً لما كنت ملوماً، وهنالك يتبلور قوله تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي" وهذه هي، ملّة إبراهيم، التي لا يرغب عنها إلاّ من سفّه نفسه، وحيث أن رسول الله والذين آمنوا معه أولى بإبراهيم الذي طهّر بيت الله عن أي رجس ورجز، فعلى الأمة الإسلامية اليوم أن يطهروا بيته تعالى عن كل لوث وقذارة شرقية كانت أو غربية.

فكما أن العقل ما يُعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان، فكل ما لا يكتسب به الجنان ولا يعبد به الرحمن، بل يكتسب به الدنيا الجائفة ويعبد به الطاغوت، فهو ليس بعقل بل سفاهة. ولقد أجاد سيدنا الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره القيّم، عند بيان قوله تعالى: "ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه" حيث قال (ره) .. ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث –إن العقل ما عُبِد به الرحمن (الميزان ج1ص303) انتهى.

وأنت إذا شاهدت اليوم ما ابتليت به الكعبة المعظمة من استيلاء الطغاة عليها، لاستبان لك معنى قول مولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتابه إلى مالك ".. إن هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا" (نهج البلاغة)

المصدر  : أســرار الحـج لآية الله جوادي آملي (بتصرف يسير)

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=439
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16