الحج معادٌ مُمثّل
الحج معادٌ مُمثّل ، وان مناسكه أنموذج للقيامة والحشر الأكبر. وبيانه: بأنه كما أن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم "وأنهم يأتون الله فرادى" كما خُلقوا أول مرة، وأن أُناس يُدعَون بإمامهم، وأن لكل امرء يومئذ شأناً يُغنيه، وأنه لا وليّ هناك ولا حميم، وأنهم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وأنه لا وزر هناك لأحد وإلى ربهم المستقر، وإن تدعُ مُثقَلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، وأن كلهم آتيه يوم القيامة فردا، ويفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ولا خلة ولا بيع ولا شفاعة هناك. وبالجملة لا تجزي نفس نفساً ولا تملك نفسٌ لنفس شيئاً، والأمر يومئذٍ لله.
كذلك الحج تمثّل لحشر الناس يوم القيامة (عن مولانا الصادق عليه السلام في قوله تعالى "ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهود" قال عليه السلام المشهود يوم عرفة، والمجموع له الناس يوم القيامة –وسائل الشيعة ج10ص23) في الساهرة التي لا نوم فيها خوفاً وفزعاً، ولتجردهم في المعاد عن الأزياء ومظاهر الحياة الدنيا. فلا مجال لشعب أن يقولوا نحن أحسن أثاثاً ورئياً، وتنزهم عن زهرة الدنيا وكنوزها. فلا موقع لأن يقول قوم يا ليت لنا مثل ما أوتي فلان، كما لا مجال لأحد أن يخرج في قوم بزينةٍ، ولفرارهم عن غير الله إلى الله، حسبما فسّر قوله تعالى "ففروا إلى الله" -بالحج-، ولتفردهم عن المجمع، وكذا رؤيتهم آيات بينات كانت خُفيت عليهم وهم في بلدانهم، ولبسهم ما يشبه الكفن وهو ثوبا الإحرام، ويستحب للحاج أن يكفن فيهما كما كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثوبي إحرامه (وسائل الشيعة ج9ص37) وتذللهم لله مشاة بل حفاة، حيث ورد "ما عبد الله بشيء أفضل من المشي" (وسائل الشيعة ج8ص55) ولذا حج الحسن بن علي عليه السلام عشرين حجة ماشياً على قدميه (وسائل الشيعةج8ص55). وعن الصادق عليه السلام جعل السعي بين الصفا والمروة مذلة للجبارين ولاعترافهم بالذنوب، حيث كشف مولانا الصادق عليه السلام وهو محرم عن ظهره حتى أبداه للشمس، وهو يقول: "لبيك في المذنبين لبيك" (وسائل الشيعةج9ص55). وكان عليه السلام إذا انتهى إلى الملتزم قال لمواليه، أميطوا عنّي حتى أقر لربي بذنوبي في هذا المكان الخ (وسائل الشيعةج9ص424). ولأمنهم وأمان الوحش والطير ولصيانتهم عن العدوان والجدال وكل ما يوجب الأذى المُحرم، حيث أنه تمثل قوله تعالى "لا ظلم اليوم".
والحاصل أن الحج بما له من المناسك الخاصة التي لا توجد في غيره، من الإحرام والوقوف بساهرة العرفات، والمشعر مشفوعاً بالضراعة والابتهال، والبيتوتة بمنى والتضحية هناك والحلق ورمي الجمار، والنفر إلى مكة، والهرولة بين جبلي الصفا والمروة وغير ذلك، مما لا يعلم تأويله إلا الله، يحكي يوم النشور ويُمثل يوم الحشر، حيث أن الناس هناك مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم، يلبون نداء واحدا ويجيبون هتافاً فارداً، لا يحكم عليهم إلا الواحد القهار الذي تخضع له الرقاب وتعنو له الوجوه وتخشع له الأصوات فلا تسمع إلا همساً.
فإذا تبين أن الحج مُمثل للمعاد ومصور إيّاه، والمعاد أي العود إلى المبدء أُسّ الإسلام الكلي الدائم، فعليه يكون الحج من أهم مظاهر الإسلام وهو –أي حج البيت الحرام- مظهر تام للكلية والدوام. ولذا ترى الأنام يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، ويقفون مواقف الأنبياء، ويتشبهون بالملائكة الحافين المطيفين بالعرش، ويحرزون الأرباح في متجر العبادة، ويتبادرون موعد المغفرة، وهو كما قال وليد الكعبة أمير الكلام مولى الموحدين علي بن أبي طالب: "عَلمٌ للإسلام وحرمٌ للعائذين".
فالبيت الحرام بما له من الحكم الخاص، عَلمٌ للإسلام، فرض الله حقه وأوجب حجّه وكتب على الناس وفادته (نهج البلاغة الخطبة1). فقال سبحانه "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين".
المصدر : أســرار الحـج لآية الله جوادي آملي (بتصرف يسير)
|