• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : القضاء المحتوم والقضاء غير المحتوم .

القضاء المحتوم والقضاء غير المحتوم

 القضاء المحتوم  والقضاء  غير المحتوم

 

أ: القضاء المحتوم

ينقسم القضاء الإلهي إلى محتوم وغير محتوم. وفي المحتوم يكون التقدير الإلهي مبرماً، وقضاؤه سبحانه قضاءً قطعياً لا يُردّ ولا يبدّل ولا يتغيّر، وهو الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالسنّة (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيل فاطر: 43.

بديهيّ أنّ ثبات هذا الضرب من القضاء وعدم تغيّره لا يعني أنّ الله سبحانه عاجز على أن يبدّله، كلاّ إنّما اقتضت حكمته الأزلية أن تكون هذه سنّته وهذا قضاؤه. الأمثلة على ذلك كثيرة منها أنّ الله قضى أن يخلق الخلق، وأن يكون الإنسان مختاراً في فعله (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  الكهف: 29. وأن يدخل الجنة من آمن وعمل صالحاً ويدخل النار من كفر واجترح السيّئات، وأنّ الإنسان ينتقل من هذه النشأة إلى نشأة أخرى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ العنكبوت: 57.  وأنّ من دخل الجنة فإنّه لا يخرج منها، ومن القضاء الإلهي المحتوم أنّ الله كتب على نفسه الرحمة، وكتب على نفسه أن يكون عادلاً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ فصلت: 46.
هذه الأقضية وأقضية كثيرة أخرى، تحكي تقديراً إلهياً محتوماً لا يُردّ ولا يتبدّل، ولا يطاله التغيّر بالصدقة والدعاء والاستغفار، وهو ما يعبِّر عنه القرآن بالسنن الإلهية (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيل. الإسراء: 77.

ب: القضاء غير المحتوم

في مقابل القضاء الأوّل هناك قضاء ثان وتقدير إلهيّ آخر علّقه على شيء. على سبيل المثال قضى الله سبحانه بحقّ إنسان معيّن أن يموت في سنّ الثلاثين، بيدَ أنّه علّق موته على عدم دفع الصدقة، وعدم صلة الرحم، وعلى عدم دعاء والديه له أو دعاء الناس له لو قضى حاجاتهم. هذا هو القضاء الإلهي المعلّق على شرط، فإن تحقّق الشرط، لا يموت الإنسان في ذلك العمر.

مثال آخر يمكن استمداده من المرض، بأن قضى الله سبحانه على إنسان أن يموت إذا مرض بمرض معيّن في إطار النظام الوجودي، لكن إذا عولج الإنسان، فإنّ هذا العلاج يكون رافعاً للمرض، كما أنّ الدعاء والصدقة ونحوهما مؤثِّرة على تغيير هذا القضاء.
في ضوء ما مرّ يتّضح الفارق بين القضاءَين، فالأوّل حتميّ لا يتطرق إليه البداء أبداً، وهو مقام أمّ الكتاب، لا يتأثّر بالدعاء والصدقة ولا شيء من صالح الأعمال وطالحها، لأنّه تعبير عن سنّة ثابتة. أمّا الثاني فيتغيّر بالصدقة والدعاء وضروب البرّ، ويكون فيه تأثير لعمل الإنسان على المصير المعلّق. فالعمل السيّئ والعمل الصالح كلاهما مؤثِّران في مثل هذا التقدير الإلهي المعلّق على الشرائط والموانع (1). وهذه العملية تجري برمّتها على نطاق لوح المحو والإثبات. وهذه هي منطقة البداء.
لغة الحديث الشريف توضح حقيقة هذين القضاءَين والفارق بينهما بوضوح. عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدّم منها ما يشاء ويمحو منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ » (2).
كذلك ما جاء في حديث آخر أنّ الإمام الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزيّ: «يا سليمان إنّ من الأمور أموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدِّم منها ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء» (3).
ـــــــــــ

(1) ينظر: الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج1، ص584 فما بعد.
(2) بحار الأنوار، ج4، ص119، الحديث 58.
(3) بحار الأنوار، ج4، ص96، الحديث 2.

 

بين أيدينا حديث نبويّ يوضّح بمثال عمليّ ولغة تطبيقية تأثير بعض الأعمال الصالحة، التي يأتي بها كمصداق، على القضاء المعلّق. عن الحسين بن زيد بن عليّ عن جعفر بن محمّد عن أبيه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلاّ ثلاث سنين فيمدّها الله إلى ثلاث وثلاثين سنة، وإنّ المرء ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة فيقصرها الله إلى ثلاث سنين أو أدنى. قال الحسين: وكان جعفر يتلو هذه الآية: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ   بحار الأنوار، ج4، ص121، الحديث 66. الآية 39 من سورة الرعد.
بيدَ أنّ للعمل صالحاً أم طالحاً حدوده في التأثير ومنطقته التي لا يتعدّاها، فتأثيره يبقى في نطاق لوح المحو والإثبات، حتى إذا صار إلى أمّ الكتاب فلا أثر. عن عمّار بن موسى عن أبي عبدالله عليه السلام: سُئل عن قول الله (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فقال: «إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يردّ به القضاء، حتى إذا صار إلى أمّ الكتاب لم يغنِ الدعاء فيه شيئاً  بحار الأنوار، ج4، ص121، الحديث 65.

ج: موقف القرآن من القضاءَين

لقد أشار القرآن الكريم بوضوح إلى وجود نوعين من التقدير الإلهي أو إلى قضاءَين وأجلين؛ وفاقاً لما مرّ آنفاً، من ذلك قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ  الأنعام: 2.   تحدّثت الآية بصراحة عن أجلين، هما: قضى أجلاً، وأجل مسمّىً عنده.
وبتقييد الأجل المسمّى بقوله «عنده» يتّضح أنّ هذا هو الأجل الذي لا يقع فيه تغيير؛ لقوله سبحانه: (وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ  النحل: 96.

وهو الأجل  المحتوم الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل (إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة وَلا  يستقدمون يونس: 49  ومن ثمّ فإنّ هذا الأجل  هو الموجود في أمّ الكتاب، ولا بداء فيه، لأنّ أمّ الكتاب يتطابق مع الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامّة التي لا تتخلّف عن تأثيرها

أمّا الثاني فهو  الذي أطلقت عليه الآية (ثُمَّ قَضَى أَجَلا) حيث جاء مبهماً، وهو الأجل المعلّق  غير المحتوم، وفيه يقع البداء، لأنّه قابل للتغيّر حيث يتوقّف تحققه على تحقّق شرطه وهو الموجود في لوح المحو والإثبات القابل للانطباق على الحوادث من جهة  استنادها إلى الأسباب الناقصة


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=511
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 09 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28