• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : سيرة .
                    • الموضوع : رسول الله صلى الله عليه وآله العبد المتواضع .
                          • رقم العدد : العدد التاسع والعشرون .

رسول الله صلى الله عليه وآله العبد المتواضع

 بسم الله الرحمن الرحيم

رسول الله صلى الله عليه وآله العبد المتواضع

الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري

 

في الرواية الصحيحة عن محمّد بن مسلم قال: " سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله ملكٌ فقال: إنّ الله عز وجل يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أم ملِكاً رسولاً.  فنظر الى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع. فقال: عبداً متواضعاً رسولاً..."([1])

معنى التواضع: التواضع هو التذلل، وتواضع لله خشع وذلّ([2])

فالتواضع هو مجانبة الترفّع عمّا لا ضِعة فيه عقلاً ولا شرعاً. والتواضع والتكبّر ضدان ينتفي أحدهما بالآخر إذ لا يجتمع التواضع والتكبّر في آنٍ واحد من وجه واحد، والتواضع مأخوذ من معنى لفظ التواضع فإنه يقال: تواضع كما يقال تساكر، أي يرى من نفسه السكر وليس بسكران... فالمتواضع هو الذي يرى من نفسه في حسن العشرة والمقاربة أنّ منزلته متّضعة وليس كذلك([3])

 

التواضع صفة ممدوحة عقلاً وشرعاً:

لا يخفى على ذي مسكة ما عليه صفة التواضع من حسن يدركه العقل ويقرّ به العقلاء ويشهد له الشرع الحنيف، فما من عاقل إلا ويمدح التواضع والمتواضعين ويراهم من الناس الصالحين ذوي الأخلاق الفاضلة والآداب الراقية، وقد ورد في الخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: "ما من عبد إلا وفي رأسه حَكَمَةٌ([4])، وملك يمسكها، فإذا تكبّر قال الله له: اتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس، وإذا تواضع رفعه الله عز وجل، ثم قال: انتعش نعشك الله فلا يزال اصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس".([5])

وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: "سمعته يقول: إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبّر وضعاه".([6])

ويقول الامام الخميني قده: "إفتح قلوب الناس بالتواضع، فإذا أقبلت عليك القلوب ظهرت آثارها عليك، وإن أدبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك".([7])

 أما التكبّر فهو صفة نفسية مذمومة جداً حيث يتشبّه بمن هو أعظم منزلة منه، سواء كان تكبّراً على الله جل وعلا أم على أنبيائه ورسله أم على عباده، مع ما لهذه الصفة المذمومة من مفاسد كثيرة وآثار سيئة على نفس المتكبر، وفي ذلك يقول الامام الخميني قده: "إعلم أن لهذه الصفة القبيحة بحد ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخّض عنها مفاسد أخرى كثيرة، إنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان الى الكمالات الظاهرية والباطنية، ولا الى الحظوظ الدنيوية والأخروية. إنها تبعث في النفوس الحقد والعداوة، وتحط من قدر الإنسان في أعين الخلق وتجعله تافهاً، وتحمل الناس على أن يعاملوه بالمثل تحقيراً له واستهانة به".([8])

 

 

تواضع وأدب رسول الانسانية محمد صلى الله عليه وآله:

وإذا كان التواضع بهذه المثابة من المدح ، واذا كان المتواضعون هم الممدوحين والمحمودين عند الله عز وجل بما يمثّل من خلق حسن ، فمن أولى بالتحلي به من سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وهو سيد البشر وفخر ولد آدم على الإطلاق، وخير نسمة برأها الله تعالى وقد جمّله خالقه وباريه بأجمل الصفات، وخصّه بأكمل الفضائل والملكات، فكان ذا خلق عظيم وفضل كريم لم يضارعه في صفاته أحد من الأولين والآخرين، من أولي العزم من الأنبياء فما دون، وهذا ما ظهر جليّاً في تفاصيل حياته الشريفة ودقائقها كما سنلحظ ذلك في ما سنذكره من هذه التفاصيل:

1 في مجلسه وأكله صلى الله عليه وآله: ورد أنه كان يجلس جلسة العبد ويأكل أكل العبد، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وآله كان يأكل وهو جالس على الحضيض([9]) كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "مرّت امرأة بذيّة([10]) برسول الله صلى الله عليه وآله وهو يأكل وهو جالس على الحضيض فقالت: يا محمد، إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: إني عبد، وأيّ عبد أعبد مني...". وعن العلاّمة المجلسي (قده) في بحاره أن جلسة العبد هي الجلوس على الركبتين.([11])

فأكل العبد وجلوسه هو الأكل جالساً على الأرض لاصقاً بها دون أيّ مظهر من مظاهر الملوك والأمراء كالأكل والجلوس متّكئاً حيث إنّه صلى الله عليه وآله لم يكن يتشبّه بالملوك الذين كانت عادتهم الأكل والجلوس اتكاءً، فلم يأكل متكئاً قط.

 وفي الرواية سأل بشير الدهان الامام الصادق عليه السلام: هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأكل متكئاً على يمينه وعلى يساره؟

فقال: "ما كان رسول الله يأكل متكئاً على يمينه ولا على يساره، ولكن كان يجلس جلسة العبد. قال: قلت: ولم ذلك؟ قال: تواضعاً لله عز وجل"([12]).

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قُدّم له شرابان ليفطر عليهما فاكتفى بأحدهما وقال: "... لا أشربه ولا أحرّمه ولكن أتواضع لله، فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبّر خفضه الله..."([13]).

2 تواضعه وأدبه صلى الله عليه وآله مع جلسائه: فقد ورد في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسويّة. وقال: ولم يبسط رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله يده من يده حتى يكون هو التارك، فلمّا فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فينزعها من يده"([14]).

أما اللحظة فهي النظر بمؤخّر العين في ما يلي الصدغ وقد ورد في وصفه صلى الله عليه وآله: "جلُّ نظره الملاحظة"([15]).

وهذا من عدله  ورأفته وتواضعه وخلقه الكبير صلى الله عليه وآله حيث يساوي بين جلسائه في النظر اليهم لئلا يحسب أحدهم أنّ الآخر أكرم على رسول الله صلى الله عليه وآله منه، فيُنعم عليهم جميعاً بجميل نظره إليهم. وبعمله هذا يمنع التنافر الذي قد ينشأ بين جلسائه اذا ميّز بينهم في النظر والملاحظة، فيغترّ المقرّب ويذلّ الآخر، مما يجعل في نفسه على أخيه غلاًّ وحقداً بعد أن كانت النفس أمارة بالسوء، وما أسرع أن يدخلها الشيطان من هذه المنافذ ليعمل فيها عمله.

وأما عدم بسط رجليه صلى الله عليه وآله بين أصحابه قط فهذا ليس بعزيز في حق مولى الأنام وصاحب الفضائل والانعام، وقد حكي عن بعض العلماء (المقدس الأردبيلي) أنه لم يمدّ رجليه للنوم أربعين سنة، ونسبه بعضهم الى المحقق المير داماد مع أنه فعل مباح.

على أنّ مدّ الرجلين حال النوم ليس فيه غضاضة وقبح بخلاف بسطهما بين الجلساء والأصحاب فإنه يعتبر - مع عدم العذر- استحقاراً للجليس واستخفافاً بشأنه وحطّاً من قدره، وجلّ رسول الله صلى الله عليه وآله عن أن يصدر منه ما يوجب ذلك، كيف؟ وهو الرؤوف بأتباعه، والمؤدب بأدب الله، وقد أحسن الله تأديبه، ولِما تخلّق به من أخلاق عظيمة وفضائل كريمة حتّى حاز قصب السبق في كلّ مكرمة ومنقبة ووصفه الله تعالى بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) ([16]).

وأما مصافحته صلى الله عليه وآله وعدم نزع يده فلا يختلف عن سابقيه في تميّزه بهذه الصفة التي تكشف عن عظيم أخلاقه وكريم فضائله، مع ما ورد في المصافحة بين المؤمنين من الفضل الجزيل والثواب الكبير كما في الصحيح عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أقبل الله عز وجل عليهما بوجهه، وتساقط عنهما الذنوب كما يتساقط الورق عن الشجر"([17]).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة"([18]).

والسخيمة هي الحقد في النفس من السخمة وهي السواد([19]).

في تخييره صلى الله عليه وآله بين الرسول الملك وبين الرسول العبد المتواضع:

أما أصل تخييره فهذا ما لم يفعله تعالى مع غيره، وما ذلك إلا لعظيم مكانته وعلو منزلته ورفعة شأنه عند الله جل وعلا وكرامته عليه تعالى.

 وأما التخيير بين الأمرين المذكورين - مع أن كون النبي ملكاً لا يرفع عنه التواضع أو لا يقتضي عدم تواضعه، ذلك أن الرسالة والنبوة تقتضي التواضع كما هو واضح، وهذه كانت حال نبي الله سليمان على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام – فلعله لأحد أمرين:

الأول: علمه صلى الله عليه وآله بأن الأصلح والأوفق لرسالته عدم الملك الظاهر، فاختار بحكمته ما هو الأصلح، ولعله لو ملك ظاهراً ما ملكه سليمان عليه السلام لأظهر المشركون أنه إنما جاء بما جاء به ليملك عليهم، ويكون هذا مساعداً لهم في حربهم عليه وعلى دينه الجديد وهم الذين حاولوا إغراءه بكل ملك ومال يقدرون عليه ولم يفلحوا، وقد فوّت صلى الله عليه وآله عليهم ذلك باختيار الأصلح لدينه الحق.

الثاني: أن يقال: إنّ كلاّ من الملك والتواضع بدون ملك ظاهر يفيان بغرض الرسالة، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله اختار الثاني لأنه أولى، والنبي أولى في اختيار الأولى، ولذا امتاز عن سائر الأنبياء وفاقهم كمالاً ورفعة وفضلاً.

نقتصر على هذا المقدار وإن كان في الرواية ما يقتضي البيان (استشارة النبي لجبرئيل) إلا أن المقام لا يتسع لذلك.

 



[1] - كتاب الكافي، ج2، باب التواضع، ح5 .

[2] - كتاب مجمع البحرين، ج4، ص405 ، مادة وضع . وكتاب المصباح المنير، ج2، ص663 .

[3] - كتاب آداب النفس للسيد محمد العيناثي، ج1 ، ص 275 .

[4] - كتاب الحكمة  بالتحريك اللجام ، ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذاران .

[5] - كتاب الكافي، ج2 ، باب الكبر ، ح16 .

[6] - ن، م ، باب التواضع ، ح2 .

[7] - كتاب الأربعون حديثاً، فصل في مفاسد الكبر ، ص91 .

[8] - ن ، م .

[9] - الحضيض : هو قرار الأرض وأسفل الجبل أيضاً ، ومنه حديث علي عليه السلام " أنه كان يأكل على الحضيض وينام على الحضيض " كتاب مجمع البحرين ج4 ص200 مادة حضض.

[10] - بذيّة : سفيهة وفاحشة في منطقها وإن كان كلامها صدقاً (كتاب المصباح المنير ج1 ص41 مادة بذا).

[11] - كتاب بحار الأنوار، ج16 ، ص 225.

[12] - كتاب الكافي ، ج6 ، باب الأكل متكئاً ، ص 271 ، ح7 .

[13] - كتاب الكافي، ج2 ، باب التواضع ، ص122 ، ح3 .

[14] - ن ، م ، باب النوادر ، ص 761 ، ح1 .

[15] - كتاب مجمع البحرين ، ج4 ، ص 290، مادة لحظ .

[16] - القلم ، الآية 4 .

[17] - كتاب الكافي، ج2 ، باب المصافحة ، ص 180، ح4 .

[18] - ن ،م ، ص 183 ، ح 18 .

[19] - كتاب مجمع البحرين ، ج6 ، ص82 ، مادة سخم .


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=646
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 03 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29