التوبة .... شرائطها وانواعها ونتائجها
التوبة والتطهير
انّ احدى النعم التي منّها الله سبحانه وتعالى على البشر هي نعمة التوبة وقبولها وهذا دليل الرحمة الواسعة واللطف الواسع لله جل جلاله .
والتوبة : معناها العزم على ترك الذنب والعودة الى الله سبحانه وتعالى والاعتذار اليه .
« يقول الراغب في مفرداته : الاعتذار على ثلاثة انواع ، اما ان يقول المعتذر لم أفعل أو يقول فعلت لأجل كذا او فعلت واسأت وقد اقلعت » (مفردات الراغب ص 72 ) .
فعلى سبيل المثال : التوبة هي خلع الثوب القذر من البدن وارتداء ثوب طاهر ونظيف او غسل البدن في الحمام من التلوث والقذارة او تنظيف المكان وفرشه بفراش جديد . لذلك نرى ان الهداية
الاستغفار والتوبة في القرآن :
وردت كلمة ( الغفور ) ( 91 مرة في القرآن الكريم ) وكلمة ( الغفّار )( 5 مرات ) وآيات كثيرة تحث وتدعو الناس للعودة الى الله سبحانه وتعالى وطلب المغفرة منه . وجاءت اكثر من ثمانين مرة كلمة التوبة والعودة الى الله سبحانه وقبول التوبة .
ونذكر هنا عدة نماذج قرآنية منها :
1 ـ قوله تعالى: (والّذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) آل عمران135
2 ـ قوله تعالى: ( ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفورا رحيماً ) النساء 110.
3 ـ قوله تعالى: ( وعد الله الذّين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ) المائدة 9
4 ـ قوله تعالى: ( قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله انّ الله يغفر الذّنوب جميعاً إنّه هوّ الغفور الرّحيم ) . الزمر53
5 ـ قوله تعالى: ( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلّهم يرشدون ) البقرة 186
6 ـ قوله تعالى: ( وتوبوا الى الله جميعاً أيّها المؤمنون ) النور 31.
7 ـ قوله تعالى: ( وهو الّذي يقبل التوبة من عباده ) الشورى 25
8 ـ قوله تعالى: ( إنّ الله يحّب التّوّابين ) البقرة 222
9 ـ قوله تعالى: ( يا ايّها الّذين آمنوا توبوا الى الله توبةً نصوحاً ) التحريم8
10 ـ قوله تعالى:(وهو الذّي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السّيئات) الشورى 25
11 ـ قوله تعالى: ( أفلا يتوبون الى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) المائدة 74
في هذه الآية استفهام انكاري حيث تبين لنا ان الله سبحانه وتعالى يؤكد على الانسان ويدعوه الى التوبة والاستغفار ويحرك عواطف الانسان بذكر هاتين الصفتين وهما ( الغفور والرحيم ) لعله يرجع الى الله سبحانه ويغسل ذنوبه بماء الاستغفار ويستنير بنورها ليفضي عليه الكمال والفضائل .
التوبة في الروايات الشريفة:
عند استقراء الروايات التي لها علاقة بالتوبة والاستغفار نحصل على عدة مطالب متنوعة وجامعة منها.
التوبة الحقيقية والنصوح :وتبتني على جملة من الامور:
1 ـ ترك الذنب . 2 ـ الندم عن الذنب . 3 ـ العزم على ترك الذنب . 4 ـ جبران الذنوب القابلة للجبران كـ ( اداء حق الله سبحانه وحقّ الناس و...) 5 ـ الاستغفار باللسان .
ما هي التوبة النصوح ؟
ان التوبة النصوح وردت في قوله تعالى( توبوا الى الله توبة نصوحاً ) التحريم 8.
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير كلمة « النصوح » . « هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً » (1) .
وقال الامام الهادي ( عليه السلام ) في معنى التوبة النصوح : « أن يكون الباطن كالظاهر وافضل من ذلك » (2) .
وقال الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في معنى التوبة النصوح :
« أن يتوب التائب ثمّ يرجع في ذنبٍ كما لا يعود اللبن الى الضرع » (3) .
وقال الامام علي ( عليه السلام ) : « ندم بالقلب واستغفار باللسان والقصد على أن لا يعود » (4) .
____________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 432 .
(2) بحار الانوار ج 6 ص 22 .
(3) مجمع البيان ج 10 ص 318 .
(4) تحف العقول ص 149 .
2 ـ شرائط صحة وكمال التوبة وقبولها :
قال احدهم امام الامام علي ( عليه السلام ) : ( استغفر الله ) فالتفت اليه الامام علي ( عليه السلام ) وقال له : ثكلتك امك أتدرى ما الاستغفار ؟
الاستغفار درجة العليين ، هو اسم واقع على ستة معان ، أولها الندم على ما مضى ، والثاني العزم على ترك العود اليه أبداً ، والثالث أن نؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله املس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها ، والخامس أن تعمد الى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان ، حتى تلصق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : « استغفر الله » (1) .
وعلى هذا الاساس نحصل على ان شرائط قبول التوبة اضافة الى ترك الذنب والعزم على تركه ، جبران ما أضاعه الذنب .
فمثلاً في مسألة قذف المرأة الطاهرة ، فقد جاء في القرآن الكريم ان يجلد القاذف ثمانين جلدة ، وبعده قال سبحانه : ( إلاّ الّذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا ) ( النور ـ 5 ) .
فجملة « أصلحوا » تبين لنا ان الشرط المهم في قبول التوبة هو جبران ما أضاعه الذنب .
وهناك شرط آخر هو الاقرار بالذنب .
قال الامام الباقر ( عليه السلام ):« والله ما ينجو من الذنب الاّ من أقر به » (2)
____________
(1) نهج البلاغة حكمة 417 .
(2) وسائل الشيعة ج 11 ص 347 .
وقال الامام علي ( عليه السلام ) : « المقرّ بالذّنب تائبّ » (1) .
3 ـ انواع التوبة ومراحلها :
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
« وكلّ فرقة من العباد لهم توبة .... وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله تعالى ، وتوبة العام من الذنوب » (2) .
الأمر الآخر هو الندم والعزم على ترك الذنب ، وهذه اولى مراحل التوبة ، بعد هذه المرحلة يكون للمذنب حالة روحانية كان عليها قبل ارتكابه للذنب مثل المريض الذي ابتلي بالحمى فعند تعاطيه الدواء تذهب عنه الحمى ويتعاطى المنشطات ليستعيد صحته الاولى قبل المرض . ولربما كان قول الامام الباقر ( عليه السلام ) على هذا الاساس : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ » (3) .
____________
(1) مستدرك الوسائل ج 2 ص 345 .
(2) مصباح الشريعة ص 98 .
(3) اصول الكافي ج 2 ص 435 ـ ( في القرآن الكريم ذكرت ثمان مرات ( تواب رحيم ) وهذا يبين لنا ان الانسان اذا تاب وعاد لا يقطع الامل في قبول التوبة لان الله سبحانه وتعالى ( تواب رحيم ) .
4 ـ الرحمة الواسعة لقبول التوبة :
قال تعالى : ( ...لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعاً ) الزمر53.
تبين لنا هذه الآية ان باب التوبة مفتوح امام الجميع ، حتى ينقل ان « وحشي » قاتل الحمزة ( عليه السلام ) عندما سمع هذه الآية جاء الى الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآل وسلم ) واظهر التوبة على يديه فقبل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التوبة منه بشرط ان يغيب عن وجهه لأنه لا يستطع النظر اليه ، وسأل البعض : هل ان هذه الآية مختصة بـ ( وحشي ) ام شاملة للجميع فأجاب الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « بل تشمل الجميع لوسعة الرحمة » (سفينة البحار ( وحشي ) فخر الرازي ج 27 ص 4)
_ روي ان احداً في حضور الامام الرضا ( عليه السلام ) قال : « اللهم العن كل من حارب الامام علي ( عليه السلام ) فقال له الامام الرضا ( عليه السلام ) : « بل قل الاّ من تاب واصلح » .
وهذا يبين اللطف الالهي للمذنبين لان الاسلام لا يسد الابواب امام العائدين الى الله سبحانه وتعالى . حتى نرى في ( الآية 10 ) من سورة البروج : ( إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم ) .
ويستفاد من مفهوم ( ثم لم يتوبوا ) إنّ الله تعالى ايضاً يقبل توبة المذنبين المعذّبين للمؤمنين .
5 ـ محبة الله سبحانه الخاصة للتوابين :
جاء في الآية: ( إنّ الله يحبّ التّوابين ) البقرة 222.
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) : « ان الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلةٍ ظلماء فوجدها فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها » (1) .
وعنه ( عليه السلام ) : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ » (2) .
وقال الامام الباقر ( عليه السلام ) ايضاً : « الله أفرح بتوبةٍ عبده من العقيم الوالد ، ومن الضّال الواجد ، ومن الظمآن الوارد » .
وقال الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « مثل المؤمن عند الله عزّ وجلّ كمثل ملك مقرب وأن المؤمن عند الله أعظم من ذلك ، وليس شيء أحب الى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة » (3) .
وقال الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ): « التائب حبيب الله » (4) .
____________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 435 .
(2) نفس المصدر السابق .
(3) سفينة البحار ج 1 ص 137 ـ عيون اخبار الرضا ج 2 ص 29 .
(4) جامع السعادات ج 3 ص 51 .
6 ـ الملامة في تأخير التوبة :
الانسان مأمور من الله سبحانه وتعالى في كل لحظة بالتوبة اليه ( توبوا ) فيجب التعجيل في التوبة وعليه فالتأخير عن طاعة الاوامر الالهية معناه عدم الطاعة والتسويف في تنفيذ الاوامر الالهية .
قال الامام الجواد ( عليه السلام ) : « تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة » (1) .
وقال الامام علي ( عليه السلام ) لرجلٍ طلب منه الموعظة : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل ويرجي التوبة بطول الامل » (2) .
وقال الامام علي ( عليه السلام ) : « لا دين لمسوفٍ بتوبته » (3) .
وقال الامام الباقر ( عليه السلام ) : « إياك والتسويف فانّه بحر يغرق فيه الهلكى » (4) .
____________
(1) بحار الانوار ج 6 ص 30
(2). نهج البلاغة حكمة 150 .
(3) غرر الحكم ـ ميزان الحكمة ج 4 ص 589
(4). بحار الانوار ج 78 ص 164 .
ويجب الانتباه الى ان التوبة لا تقبل عند حضور الموت ، كما انه لم يقبل ايمان وتوبة فرعون عند الغرق كما تصرح الآية ( 18 من سورة النساء ) قال محمد الهمداني : سألت الامام الرضا ( عليه السلام ) لماذا لم تقبل توبة فرعون مع العلم انه آمن بالله سبحانه ؟
فأجابه الامام الرضا ( عليه السلام ) : « لأنه أمن عند رؤية البأس والايمان عند رؤية البأس غير مقبول » (1) .
وهناك روايات متعددة تذكر ان المؤمن اذا ارتكب ذنباً يعطى مدة سبع ساعات للتوبة من هذا الذنب والاّ يكتب في صحيفة اعماله . وفي بعضها ان له من الصباح الى المساء .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : « ان العبد اذا أذنب ذنباً أجّل من غدوة الى الليل فان استغفر الله لم يكتب عليه » (2) .
____________
(1) بحار الانوار ج 6 ص 23 .
(2) اصول الكافي ج 2 ص 437 .
7 ـ النتائج المشرقة للتوبة :
تعتبر التوبة وقبولها احدى النعم الالهية التي لا نظير لها ولها آثار ونتائج مضيئة ، منها التوبة الحقيقية التي تغير الانسان الى كمن لا ذنب عليه كما قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :« التائب من لا ذنب له »اصول الكافي ج 2 ص 435 .
ومنها التوبة الحقيقية تؤدي الى محو آثار الذنوب وتستر العبد كما قال الامام الصادق ( عليه السلام ) . ان الانسان اذا تاب توبة نصوحاً يكون محبوباً عندالله ويستر ذنوبه في الدنيا والآخرة . وكل ذنب اذنبه يومي الى ملكيه بالنسيان فلا يبقى اثر للذنب عليه حتى جوارحة . « فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب » (1) .
نستنتج من الآية الثامنة من سورة التحريم ان للتوبة النصوح ثماراً خمساً وهي :
1 ـ غفران الذنوب .
2ـ الدخول في الجنة .
3 ـ الستر في يوم القيامة .
4 ـ نور الايمان والعمل يضيء له الطريق الى الجنة .
5 ـ يشتد عند التائب التوجه الى الله والاستغفار الكامل لذنوبه (2) .
قال الامام الكاظم ( عليه السلام ) : « وأحبّ العباد الى الله تعالى المفتنون التوابون » (3) .
____________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 431 .
(2) تفسير نمونة ج 24 ص 292 .
(3) اصول الكافي ج 2 ص 432 .
وفي روايات اخرى عن الائمة المعصومين ( عليهم السلام ) ان الله يهب للتوابين ثلاث مواهب لو اعطى واحدة منها لأهل السماوات والارض لنجوا بها وهي قوله عزّ وجلّ : ( إنّ الله يحبّ التّوّابين ويحب المتطهرين ) .
فمن أحبه الله لم يعذبه
وقوله : ( الّذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للّذين آمنوا ربنّا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدنٍ الّتي وعدتّهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم * وقهم السّيئات ومن تق السّيئات يومئذٍ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ) (1) .
وقوله عزّ وجلّ : ( والّذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم الله الاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * الاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً ) (2) .
وفي الختام نقرأ مع الامام السجاد ( عليه السلام ) في مناجاته حول هذه الموهبة والمنة الالهية العظيمة :
« الهي أنت فتحت لعبادك باباً الى عفوك ، سميته التوبة فقلت : توبوا الى الله توبةً نصوحاً ، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه » (3) .
____________
(1) سورة غافر آية 7 ـ 9 .
(2) سورة الفرقان آية 68 ـ 70 .
(3) بحار الانوار ج 94 ص 142 .
|