• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : معرفة الله .

معرفة الله

 معرفة الله

الشهيد مرتضى مطهري (ره)

 

1_ معرفة الله أساس إنساني

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "أول الدين معرفته"

لو شبهنا الدين ببناء يتألف من جدران وباب وسقف ونوافذ وقواعد ينهض عليها البناء فإن قواعد جميع الأفكار والعقائد والأخلاق الدينية هي معرفة الله؛ ولو شبهنا الدين بكتاب علمي يضم أبواباً وفصولاًَ وقضايا متنوعة وأفكاراً يقوم عليها أصل الكتاب فإن معرفة الله سبحانه هي الأساس الأول في ذلك.

إذا أردنا مثلاً أن نخزن مقداراً من مواد البناء فليس مهماً ترتيب خزنها، أو أدرنا أن نؤلف كتاباً متنوعاً يضم مقالات مختلفة فليس مهما ترتيب مقالاته أو تسلسلها، ذلك أنه كتاب متنوع في مواضيعه. وحتى مطالعة مثل هكذا كتاب لا يلزمنا أن نبدأ بالموضوع الأول أو بالصفحة الأولى إذ يمكننا أن نبدأ من منتصف الكتاب أو من آخره، أما إذا أردنا أن نقيم بناءً معيناً فإن الأمر هنا يختلف تماماً فالتسلسل والدقة والحساب أمر مطلوب، وكذلك لو أردنا أن نؤلف كتاباً علمياً أو أردنا مطالعته فإن أول شيء نفعله هو مواكبة الكتاب من بدايته وحسب ترتيب مواضيعه.

فالتدين المنطقي والسليم يلزم المرء أن يشرع من البداية من الأسس ألا وهي التوحيد ومعرفة الله، فإذا لم يثبت هذان الأصلان في أعماق الروح وطيات القلب فإن سائر الأجزاء ستبقى دونما أساس متين.

فعندما صدع الرسول الأعظم بدعوته وبشر برسالته هل قال صلوا أو صوموا؟ وهل قال صِلوا أرحامكم، ولا يظلم بعضكم بعضاًَ، وهل دعا إلى الالتزام ببعض الآداب المستحبة في المشي أو الجلوس أو تناول الطعام؟ إنه لم يقل أو يذكر من ذلك شيئاً، بل هتف عليه الصلاة والسلام: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. لقد بدأ الرسول الأعظم دعوته إلى الدين الحنيف بهذه العبارة فاحتل بها قلوب العالمين ومن ثم بنى أمته العظيمة انطلاقاً من ذلك الأساس المتين.

إن معرفة الله لا تقتصر على الدين فحسب، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أن بناء الإنسان لا يتم إلا على أسس التوحيد.

إننا نطلق على كثير من الأمور والشؤون وننعتها بالإنسانية، فنقول إن الإنسانية تقتضي الرحمة والمروءة والإحسان وإن الإنسانية تنشد السلام وتنفر من الحرب وتجعلنا متعاطفين مع المرضى والجرحى والمنكوبين وتدفعنا إلى مساعدة المحتاجين وتطلب منا التضحية بالنفس واحترام حقوق الآخرين وإلى غير ذلك من المواقف والسلوك، وكل ذلك صحيح لا يعترض عليه أحد بل إن على كل إنسان أن يحقق إنسانيته من خلال ذلك، ولكنا لو تساءلنا عن الأسس المنطقية التي تستند إليها تلك الوصايا والأخلاق التي تدفعنا إلى التضحية بمصالحنا من أجلها فإننا سنكون حينها عاجزين عن إقناع أنفسنا والآخرين بالفلسفة الكامنة وراء تلك الأخلاق والمواقف إذا لم نأخذ بنظر الاعتبار معرفة الله

لا يمكننا أبداً اكتساب القيم الأخلاقية الرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحي بعيداً عن نبعه الإلهي، فحتى أكثر المؤسسات مادية في العالم تجد نفسها مضطرة إلى أن تبني نظمها الاجتماعية على أسس أخلاقية

لا يمكن إقصاء الإنسانية بعيداً عن معرفة الله؛ فأما الإيمان أو السقوط في حضيض الحيوانية وعبادة الذات والمصلحة الشخصية وما تضج به من انقياد إلى الشهوة والوقوع في أسرها؛ فأما عبادة الله أو عبادة البطن والجاه والمناصب والمال. إذ ليس هناك من طريق ثالث.

ومن يدعي الشرف والخلق والتقوى والعفة وهو بعيد عن الله الذي هو نبع كل تلك الصفات فإن ذلك مجرد أوهام لا غير

يعبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقول عز وجل: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).[إبراهيم: 27]

الإيمان شجرة تمد جذورها في أعماق الروح فتتفرع منها أغصان الاعتقاد بالنبوة والولاية والأديان، وكذلك الاعتقاد بأن هذا العالم قائم على العدالة والحق وأنه لا يضيع أجر المحسنين وسيلقى المسيئون جزاء أعمالهم

أما ثمار هذه الشجرة الطيبة فهي الشرف والكرامة والعفة والتقوى والإحسان والتسامح والفداء والقناعة والطمأنينة والسلام

وفي مقابل ذلك يضرب القرآن مثلاً آخر، يقول سبحانه وتعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار). [إبراهيم: 28] وهذه حقيقة تتجلى أحياناً في أفراد نراهم يتحمسون دفاعاً عن عرق أو قومية أو يقعون تحت تأثير بعض العقائد فتشتعل في نفوسهم المشاعر الكاذبة التي قد تدفعهم إلى التضحية بأرواحهم من أجلها، ولو سنحت الفرصة لأحدهم أو راجع نفسه قليلاً لعجز عن إيجاد أساس منطقي لموقفه وسلوكه، فقليل من التأمل والإرشاد سوف يقشع تلك السحب عن سماء روحه

أجل إن الإيمان هو وحده الذي يمتلك أساسه الإنساني المتين، وإن قواعد البناء الإنساني إنما تنهض على التقوى والاستقامة والطهر وعلى الشجاعة والشهامة والفداء، وهي الخصال التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان : الإيمان بالله وحده البديل لعبادة الذات والمصلحة الشخصية، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى

الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).[البقرة: 255 ـ 256

 

 

 

 

 2_ معرفة الله أساس الدين

قال أمير المؤمنين علي (ع): أول الدين معرفته

لكل شيء بداية وأساس فإذا نهض واشتد وأثمر فإنما يعود الفضل إلى نقطة البداية وإلى ذلك الأساس

فالدين ذلك النظام الشامل بعقيدته وفكره وأخلاقه إنما يبدأ من نقطة واحدة ويرتكز على ركن واحد، فإذا انطلق من تلك النقطة ونهض على ذلك الأساس فإنه ينهض قوياً متيناً ومفيداً، وتلك هي معرفة الذات الإلهية المقدسة والإيمان بالأحدية المطلقة

فالإيمان بالنبوة أو الاعتقاد بالمعاد مثلاً، على أنهما أصلان ضروريان في الدين إلا أنهما بمثابة غصنين متفرعين من ذلك الجذع، لأن التوحيد أصل ثابت ولأن "للعلم مالك وهو الله" وهو الذي يدبر الوجود ويسوقه نحو الكمال، كما أن البشرية أفراداً كانوا أم مجتمعات بحاجة إلى من يهديها ويدلها عن طريق "الوحي والإلهام" وبواسطة بعض النفوس البشرية الطاهرة التي هي بمثابة علامات هداية وإرشاد حيث تتجلى بالأنبياء والرسل

بما أن أصل التوحيد ثابت وأن الموجودات تتحرك نحو الكمال المنشود، ولأن الوجود الإنساني يحمل في أعماقه إرشادات النشأة الأخرى وهي عالم الآخرة، فإنه بمثابة الجذع الذي تتفرع عنه الأغصان والأوراق والثمار

قد يوجد بعض الناس ممن يغالون في إيمانهم بالأنبياء، ينظرون إليهم على أنهم آلهة صغار يعبدونهم من دون الله؛ إن مثل هذه العقائد السخيفة إنما تنشأ عن خلل في الأساس الأول من البناء وهو التوحيد وعن قصور في معرفة الله سبحانه، وإلا فكيف يمكن للإنسان الذي له أدنى معرفة بالله مالك الملك أن ينصرف إلى عبادة إنسان لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً على حدّ تعبير القرآن الكريم أو يشرك بعبادة الله أحداً ليس بيده موت ولا حياة ولا نشور.

وكذلك فإن سائر أغصان وأوراق وثمار الدين إذا ما نبتت في أصل التوحيد استقامت وآتت أكلها، أما إذا لم تتصل بذلك الجذع فإنها لن تؤتي ثمارها المرجوة.

على سبيل المثال فإن واحدة من هذه التفرعات وفي مرحلة التطبيق التي يوجبها الدين هي مسألة احترام حقوق الآخرين. إن أصل التوحيد يقضي بأن الله عادل وحكيم وبصير، وأن الله العادل الحكيم لا يصدر عنه أمر ظالم وأن الله سبحانه ـ وكما نص القرآن على ذلك ـ يأمر بالعدل والإحسان والإيثار والتضحية ورعاية الآخرين، كما أن الله العادل الحكيم ينهى عن الأعمال القبيحة والسيئة والأعمال التي يستقبحها العقل وأن الله العادل الحكيم ينهى عن الظلم والعدوان، ولكننا نجد في الماضي والحاضر وفي المستقبل أيضاً أناساً يرتكبون الفحشاء والمنكر والعدوان ومع ذلك يدعون بأن الله قد أمر بذلك وأن ما يقومون به يوافق الموازين الشرعية والأحكام الدينية؛ يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)[الأعراف: 28]

إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن هؤلاء الناس لو كانوا يدركون التوحيد أو عرفوا الله بأسمائه الحسنى وأدركوا أن الله عادل وحكيم لما تفوهوا ببدعهم أبداً، ولما قالوا بأن أعمالهم تلك على موازين الدين، ذلك لو أنهم عرفوا أن الله لا يأمر بالظلم، وأن الله لا يقول ليطأ بعضكم بعضاً وأن يلتهم البعض كدّ البعض الآخر باسم الدين، لما حصل ذلك أبداً.

إن الله سبحانه لا يرضى أن يعيش البعض كلاًّ على الآخرين وأن يكون عبئاً على المجتمع دون أن يفكر بتخفيف أعباء الآخرين. إن رضا الله يكمن في تنفيذ أوامره وإن أوامر الله هي كما ذكرنا آنفاً.

أجل إن ألف باء الدين هي معرفة الله، فكما أن التلميذ في المدرسة إذا لم يدرك المعلومات الأساسية التي تؤهله لقراءة الكتب فإنه سيكون عاجزاً تماماً عن إدراك مسائل الطبيعة والرياضيات والأدب، فالتلميذ إنما يتعلم أولاً الحروف التي تتألف منها اللغة، فإذا لم يتعلم ذلك فإنه سيكون عاجزاً عن القراءة وبالتالي فإنه سوف لن يفهم أياً من الدروس.

إن معرفة الله هي بمنزلة الحروف الأولى في الدين، فمن عرف الله تمكن من قراءة خط الدين وأدرك المرامي التي ينشدها الدين، أما إذا لم يدرك تلك الحروف فإنه سيخطئ في قراءة كلمات الدين وأوامره ومن ثم يخطئ في ترجمتها في سلوكه وسيصل به الأمر إلى ما عبر عنه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: (الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). [الكهف: 104]

ولذا قال الإمام علي (ع): "أول الدين معرفته". إن معرفة الله ليست أول الدين فحسب بل وسطه وآخره أيضاً، ذلك أن الذات الإلهية المقدسة هي أول الوجود وآخره، مع جميع الموجودات، محيط بها. وإذا أصبح الإنسان موحداً حقاً لهوت نحوه جميع الفضائل وانجذبت إليه.

 

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=745
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 07 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28