• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : اختلاف المصائر والدرجات باختلاف الاعمال والنيات .
                          • رقم العدد : العدد الثاني والثلاثون .

اختلاف المصائر والدرجات باختلاف الاعمال والنيات

 

اختلاف المصائر والدرجات باختلاف الاعمال والنيات

إعداد: الشيخ إبراهيم السباعي

العاقل يفكر دائماً بكل كلمة ينطق بها ويتمّعن بها قبل خروجها من فيه، وحتى خطواته محسوبة قبل أن يخطوها، لأن لكل فعل يقوم به الإنسان تبعات وعقبات، فإما أن تسوقه إلى الجنة وإما تسوقه إلى النار، فالمؤمن عاقل يحسب ويتأمل في خطواته ويسير بحذر؛ فلا يسقط في متاهات المعاصي، بل يدرك أن مسؤوليته ملء الكتاب ـ كتاب الأعمال التي تكتب عليه وستنشر له يوم القيامة ـ بالحسنات وبما ينفعه يوم القيامة. وأما الكافر فنراه يتلهى ويلعب ويتبع غواية الشيطان، فتصبح الدنيا في عينه دار حياة وزينة وتفاخر وجمع للمال، فهذا لن يجد في كتابه يوم القيامة إلا الخزي والندم.

نحن هنا سنسلط الضوء على عدد من الاختلافات التي ستحصل بينهما فمصير المؤمن ومصير الكافر مختلفان، والدرجات متفاوتة فالمؤمن في أعلى عليين، والكافر في أسفل السافلين، ولكل درجات ودركات وسوف نتعرض لكل ما يؤثر في ذلك، وهي ثلاثة عناصر أساسية: 1- الإرادة. 2- النية. 3- العمل.

الارادة أساس وهي فعلنا للشيء دون إكراه أو إجبار، فالإرادة هي القوة التي تدفعني لارتكاب أي فعل كان، والله تعالى لا يحاسبنا على ما وقع منا دون اختيار أو إرادة كالنائم والمجنون، لذا قال تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}([1]).

فالإرادة أساس في الاختيار، والنية الصادقة تحصن العمل وتحفظه من الرياء والشيطان، والمطلوب أن يأتي بقلب سليم، والعمل الصالح ينفعه ويرفعه.

 

الاختلاف أخروي لا دنيوي

الاختلاف بين المؤمن والكافر أخروي؛ لأن الدنيا ليست ساحة محاسبة ومعاتبة ومعاقبة، بل دار عمل وزرع، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدنيا مزرعة الآخرة" أي اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، إذن  نرى هذا الاختلاف في المراتب والدرجات في أول لحظات القيامة.

 

بداية الاختلافات في المراتب والدرجات

قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}([2])

كما لاحظنا فالاختلاف يبدأ بمعاملة الملائكةً لهما فالكافر له العذاب والمقامع والثياب المطلية بالقير والمواد السريعة الاشتعال المخصصة لهم وذكرت الآية طرقاً للتعذيب تشعر الكافر بالخزي والعار والندم، أما المؤمن فيُدخلونه الجنة ويُعامل بأحسن معاملة ودرجة راقية في الترحيب والتهليل ذلك بسبب الأعمال الصالحات التي زرعها في الدنيا فآتت أُكلها وحصادها في الآخرة فكان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة التي وعد بها المتقين، وسيُحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير.

 

الشقاوة والسعادة من النفس

يوم القيامة هو يوم الجمع عندما يجمع الله تعالى الخلائق صفاً للحساب فهذا يوم الجزاء، فأهل الجمع ينقسمون بحسب صفاتهم وأعمالهم إلى قسمين فمنهم الشقي ومنهم السعيد، والشقاوة والسعادة مترتبان على الأعمال والأفعال الصادرة عنهم المقرونة باختيارهم وإرادتهم، فالشقي وهو الكافر سيكون يوم القيامة فقيراً؛ لأنه ما ادّخر شيئاً ولطالما نبهه الأنبياء والمؤمنون وأنزل تعالى آياته الكثيرة عبرة وموعظة له علّه يؤمن لكنه أبى واستكبر وكان من الكافرين. فأعمال الكافر السيئة ستحضر معه وتعتبر يوم القيامة من التجارات  الخاسرة، وأفعاله الحسنة التي فعلها في الدنيا ستكون قليلة، ولا قيمة لها كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}([3])

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}([4])

وأما السعيد فبعكسه تماماً فهو غنياً بأعماله ناجحاً فائزاً برحمة ربه وبشفاعة النبي وآله الأطهار عليهم السلام، فأعماله ستنير دربه للقيامة فلا ظلمة ولا وحشة ولا عذاب يلاقيه يوم القيامة، لأنه آمن وعمل عملاً صالحاً خالصاً لله تعالى وهذه العلاقة قال تعالى عنها أنها تجارة لن تبور أي ليس فيها خسارة أبداً، فمثل هؤلاء جاؤوا يوم القيامة بقلوب سليمة وأعماله طاهرة صافية خالصة لله تعالى فثوابهم أن الله سيعطيهم جنات تجري من تحتها الأنهار وخالدين فيها أبداً قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}([5])

 

النيات الصادقة والعمل الصالح

هي كلمة قالها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وهي أن مفتاح مصير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة أمران: النية والعمل الصالح، فعن النية قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات، أي فلا عمل مقبول أو يستحق صاحبه عليه الأجر والثواب والمدح والثناء من  الله عز وجل إلا من أتى الله بقلب سليم أي نية خالصة لله تقربه من الله زلفى، وأما الأعمال التي بلا نية أو كانت النية لغير الله ذهب أجر عمله أدراج الرياح وهباء منثوراً.

ورد في الأعمال الصالحات الكثير من الآيات والروايات التي يضيق مختصر مقالتنا عن ذكرها، لذا سنكتفي بذكر آية مبينة ورواية واضحة الدلالة، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة}([6]) و{..وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}([7])، و{مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}([8])، فوضوح الآية كاف في بيان المراد من أن الأعمال هي التي تلعب الدور البارز في تقرير مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الظلم في الدنيا ظلمات يوم القيامة"، فتبدأ الاختلافات بين العباد من حين خروجهم من قبورهم، وطيلة الفترة التي سيقضونها في ساحة أرض المحشر يوم القيامة من حسن المعاملة أو من سوئها، لأن القاعدة الأساس: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً ير ومن يعمل مثقال ذرة شراً ير}([9]).

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مات ولد آدم انقطع عن الدنيا إلا من ثلاث: صدقة جارية، علم ينتفع به الناس، ولد صالح يدعو له"، فالمؤمن يعمل ويترك خلفه الكثير من الأعمال الصالحات، فهذه نِعْم تمده بالخير والراحة والسعادة، في الدنيا كان فرحاً مسروراً برضا الله تعالى وفي الآخرة بما وعد الله الصادقين بصدقهم.

وأما الكافر والعاصي فبخلاف المؤمن تماماً فلا سعادة ولا هناء وراحة بال، بل عذاب في عذاب وشر في شر، ولا يظلم ربك أحداً.

 

يوم القيامة هي العلامة

تنطلق الخلائق يوم القيامة لتلاقي مصيرها المنتظر ونتيجة الاختبار الذي مرت به في الدنيا، فتظهر نتيجة الأعمال يوم القيامة بصور مختلفة، فالطريق يختلف والمعاملة تختلف والشكل يختلف وحتى اللباس يختلف، وحتى الملائكة تختلف فملائكة المؤمنين رحماء طيبون وتعاملهم بالحسنى، وأما ملائكة الكفار فهم الزبانية ويكفي الاسم ليشعروا بالخوف والرعب، فكل نفس تذهب في الطريق الذي ُرسم لها ـ بحسب الأعمال التي عملت وارتكبت ـ وهذا القانون الإلهي قد رسمه لنا سبحانه بطريق التكاليف والواجبات، لأن القانون كان يقتضي الالتزام به قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([10])، ومن خالفه أخطأ ووقع في المعصية، وللمعصية تبعات في الدنيا وفي الآخرة، فقبل الحساب لا عقاب إنما ينحصر العتاب والعقاب بعد الحساب، وكذا هي الطاعة فلها تبعات يثاب عليها العبد ويتنعم في الدنيا، وأما في الآخرة فالنعم تبقى تابعة له إلى حين الحساب فيدخل بعدها الجنة، ورد في دعاء شهر رجب "يامَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ، يامَنْ يُعْطِي الكَثيرَ بِالقَلِيلِ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّنا مِنْهُ وَرَحْمَةً ؛ أَعْطِنِي بِمَسأَلَتِي إِيّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَمِيعَ خَيْرِ الآخرةِ، واصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ ما أَعْطَيْتَ وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يا كَرِيمُ"

نِعْم الدنيا ونِعْم الآخرة وشر الدنيا وشر الآخرة بما كسبت إيدي الناس ولا يظلم ربك أحداً، حتى أنه ورد في ذكر الأعمال السيئة التي تحبط الأعمال الصالحات، كالكفر، والشرك بالله، والريا، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، والظلم.. 

 

الاختلافات في المعاملات

عند الموت وقبض الروح تبدأ معاملات الملائكة مع الناس وتختلف من حين قبض الروح، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}([11]).

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}([12]).

نعم، فالمعاملة سيئة وليس فيها تراخي من حين سكرات الموت إلى نهاية القيامة، وذلك بسبب الأعمال التي هي محل الرهان، فالمعاملة السيئة ثمن أفعال الكافر وبما أقدم عليه من المعاصي وارتكب من السيئات، لذا استحق هذه المعاملة السيئة، وتختلف المعاملة السيئة ودرجتها مع الكفار بحسب اختلاف أعمالهم السيئة فهناك مراتب في سوء المعاملة وتختلف درجات سوء المعاملة قوة وضعفاً.

 

معاملة المؤمن مختلفة ودرجته مرتفعة

قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ}([13])

أما العبد المؤمن فعند خروج روحه تتهيأ له السموات والأرض احتفاء به واستقبالاً له، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشيراً إلى هذا الموضوع عندما كان هو وبعض أصحابه في جنازة رجل من الأنصار ووصلوا المقابر ولم يكونوا جهزوا بعد موضع الدفن، فجلس رسول الله ومن معه علي الأرض، وأمسك عصا وظل يخطط بها في الأرض، وأمر أصحابه أن يستعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثة، ثم قال لهم مفسراً:

إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.

فلا يضربونه ولا يعذبونه إنما يفعلون ذلك العذاب بالكافرين أما المؤمنون فلا، ولذا لما حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاة شاب من الأنصار قال(ص): نظرتُ إلى مَلكِ المَوتِ عِندَ رَأسِ رجل من الأنصار فقلتُ يَا ملكُ الموت ارفق بِصاحبِي فإنَه مؤمن قال: يا محمَّد طب نفساً وقر عيناً فإِني بِكل مُؤمن رفيقٌ.

عند الخروج من القبور

هل تخرج الخلائق من قبورها عارية ليس لديها ما يستر جسدها؟ بما أننا نتحدث عن اختلافات المنزلة وفرق المعاملة مع درجاته، نقول: كذلك الخروج من القبور تختلف صوره وتتنوع، ليس كل الناس تخرج عارية لأن العري وغيره إنما هي تبعات أفعالنا وسوء أعمالنا، لذا نرى البعض يخرج عارياً والبعض يخرج لابساً كفنه الذي كُفن به، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حسنّوا أكفان موتاكم..([14]) وإذا الكفن عرضة للتلف فما معنى حسنّوا؟ وعليه نعم من يخرج من قبره عارياً فبسبب تبعات أعماله. وأبين مصداق هؤلاء الكفرة، وفسقة المسلمين الذين قصروا في جنب الله تعالى، وأما المؤمن بما يحمل معه من أفعال وأعمال تتميز بالصفاء والنقاء فيخرج لابساً كفنه، كما ورد في دعاء العهد: ".. اَللّـهُمَّ اِنْ حالَ بَيْني وَ بَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذي جَعَلْتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً فَأخْرِجْني مِنْ قَبْري مُؤْتَزِراً كَفَني شاهِراً سَيْفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدّاعي فِي الْحاضِرِ وَالْبادي".

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

"يخرج أهل ولايتنا يوم القيامة من قبورهم مشرقة وجوههم، مستورة عوراتهم، آمنة روعاتهم، قد فرجت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد . يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، وقد أعطوا الامن والأمان، وانقطعت عنهم الأحزان، حتى يحملوا على نوق بيض لها أجنحة، عليهم نعال من ذهب شركها النور، حتى يقعدون في ظل عرش الرحمن على منابر من نور، بين أيديهم مائدة يأكلون عليها حتى يفرغ الناس من الحساب"([15])  

ورد عن سماعة أنه قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا سماعة، كيف حبك لإخوانك؟ قلت : جعلت فداك، والله اني أحبهم وأودهم. قال: يا سماعة إذا رأيت الرجل شديد الحب لإخوانه فهكذا هو في دينه.

يا سماعة إن الله يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من عيوب، ولهم من ذنوب، مبيضة وجوههم، مستورة عوراتهم، آمنة روعاتهم قد سهلت مواردهم وذهبت عنهم الشدائد، يحزن الناس ولا يحزنون، يفزع الناس ولا يفزعون، وذلك قوله تعالى: {مِن فَزَعٍ يَومَئِذٍ آمِنُونَ}([16])

وعن ابن عباس قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على فاطمة عليها السلام وهي حزينة فقال لها: ما حزنك يا بنية؟ قالت: يا أبه ذكرت المحشر ووقوف الناس عراة يوم القيامة.

قال: يا بنية إنه ليوم عظيم ولكن قد أخبرني جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل قال: أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة أنا ثم أبي إبراهيم ثم بعلك علي بن أبي طالب عليه السلام ثم يبعث الله إليك جبرئيل في سبعين ألف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب من نور ثم يأتيك إسرافيل بثلاث حلل من نور فيقف عند رأسك فيناديك: يا فاطمة ابنة محمد قومي إلى محشرك فتقومين آمنة روعتك مستورة عورتك فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها...

وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث تلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتهُم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلحَقنَا بِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَمَا أَلَتنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيءٍ كُلُّ امرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}([17])      

 

صورة من الاختلافات بين السعيد والشقي

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}([18])، خير البرية في المعاملة من قبل الملائكة وفي الأشكال التي سيخرجون بها، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} هذا شكل المؤمن فرح مسرور مضيء الوجه مشعشع الجسد، وأما الكافر{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}([19])، فلأنهم كفروا وفجروا فجزاء ذلك هو الاختلاف أولاً بالشكل وثانياً بالمعاملة.

 

صورة من الاختلافات أخذ الكتب للحساب

دل القرآن الكريم والسنة الشريفة على اختلاف آخر من الاختلافات بين المؤمن والكافر والشقي والسعيد، عند أخذ الكتب للحساب والصحف للمساءلة، فالناس يأخذون كتبهم التي هي صحائف أعمالهم يوم القيامة، فآخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بالشمال من وراء ظهره.

قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه، يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ ... إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}([20])

تظهر النتيجة في كيفية أخذ الكتب في {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}([21])

دلت الآيات على أن المؤمن السعيد يأخذ كتابه بيمينه، وأن الكافر الشقي يأخذ كتابه بشماله، من وراء ظهره.

ولا شك أن المؤمن المطيع الناجي من العذاب بسبب أعماله وحسن نياته التي لم تشوبها رياء أو عجب أو سمعة أراد بها غير الله تعالى، يأخذ كتابه بيمينه، ويدل على ذلك سياق الآيات، فإن الحساب اليسير هو مجرد عرض الأعمال، دون مناقشة فيها، ومن نوقش الحساب عُذِّب أو هلك، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده إذ عرض رجل فقال: كيف سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول في النَّجْوى؟ فَقَال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول: إِنَّ اللَّه يُدْنِي المؤمن فيضع عليه كنفه([22]) ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذَا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربِّ. حتّى إذا قرره بِذُنُوبِه ورأى في نفسه أنَّهُ هَلَكَ قَال: سَتَرْتُهَا عليك في الدُّنْيَا، وأنَا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأمَّا الكفَّار والمنَافقون فينادى بهم على رؤوسِ الْخلائقِ: هؤلاء الذين كذبوا على اللَّه.([23])

ولا يخفى على اللبيب الواعي أن أهل الشمال هم الكفار في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} وقوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي ظن أنه لن يرجع إلى الله، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}([24])

 

 

نهاية الكلام مسك الختام

هناك صور كثيرة ذكرت في القرآن الكريم وتفصيلات تعرض لها القرآن العظيم تبين بوضوح ما يتعرض له الكافر من سوء معاملة وما يلاقيه المؤمن من ترحيب وحسن معاملة، ومدى الاختلاف في الدرجات والمراتب من حسنها وعلو شأنها، لم يترك القرآن الكريم مورداً ذكر فيه المؤمن إلا وذكر فيه الكافر وبيّن الاختلاف بينهما، ليحفز المؤمن على مضاعفة العمل ويحذر الكافر من سوء نهاية العمل. ونحن لا نريد ذكر كل الموارد إنما كان الغرض منا الوقوف على بعض تلك الاختلافات لتكون عبرة وموعظة حسنة محفزة للمؤمن على حسن اختياره، وننبه الكافر على سوء طالعه.

وقد جمع الله تعالى تلك الاختلافات وصورها مختصرة في سورة الواقعة:

قسّم الله تعالى الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أقسام:

1- أصحاب الميمنة، وهم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم.

2- أصحاب المشئمة، الذين يعطون كتبهم بشمالهم.

3- السابقون، أي المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة.

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ، خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ، إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا، لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، أَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ   ، فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ..}([25])

 



[1] سورة الإنسان/3

[2] سورة الحج/19 ـ 23

[3] سورة النور/39

[4] سورة هود/105ـ 107

[5] سورة هود/108

[6] سورة المدثر/38

[7] سورة آل عمران/185

[8] سورة فصلت/46

[9] سورة الزلزلة

[10] سورة النحل/97

[11] سورة الأنفال:50

[12] سورة الأنعام: 93

[13] سورة النحل/32

[14] كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج الشافي الصغير ج 3 ص 21 وكتاب الكامل للجرجاني ج 3 ص 254

[15] كتاب قرب الاسناد ص102

[16] سورة النمل/89

[17] سورة الطور/21. كتاب تفسير فرات ص445

[18] سورة البينة/7

[19] سورة عبس

[20] سورة الحاقة/19- 33.

[21] سورة الانشقاق/7- 14.

[22] قوله: فيضع كنفه. بفتح الكاف والنون بعدها فاء المراد بالكنف الستر

[23] كتاب عمدة القارئ ج12 ص 287

[24] سورة البلد/19.

[25] سورة الواقعة


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=799
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29