• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : هل الاختلاف بين البشر هو علة الوجود؟ .
                          • رقم العدد : العدد الثاني والثلاثون .

هل الاختلاف بين البشر هو علة الوجود؟

 

هل الاختلاف بين البشر هو علة الوجود؟

الشيخ حسن بدران

ما الذي أضحك مني الظبيات العامرية

ألأني أنا شيعي وليلى أموية؟

اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية !

وردت العبارة الأخيرة في بيت شعر على لسان شخصية من شخصيات مسرحية ”مجنون ليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقي (ت 1932). ومع ذلك، دلت التجارب المشهودة على أن الاختلاف والنقد يدفعان تلقائيا باتجاه اتخاذ مواقف عدائية؛ وأن بقاء الود مجرد أسطورة لا واقع لها. ويتوجب علينا أن نتنبه إلى السياق الثقافي الذي يرد فيه هذا الاعتبار؛ ذلك أن قضية عدم تصادم الود مع الاختلاف في الرأي، قد تكون مقبولة ومعقولة جدا في سياق ثقافي مختلف. وإذا كانت الثقافات تتلون بحسب اختلاف المشرب القومي والمحلي، فيمكن تقدير المسألة على أساس من التحضر والتمدن أو التخلف والرجعية الذي يحظى به ذلك الظرف المحلي.

في هذا السياق دار بيني وبين زميل لي الحوار التالي، قلت له إن الإنسان يولد في كنف الجماعة التي تؤمّن له نمط الحياة التي سيطوي مسيرتها، وأن العملية التربوية ما هي إلا تطويع لهذا المولود الجديد عبر نقل القيم والأفكار إليه والتي سيتحدد على أساسها نمط سلوكه داخل الجماعة، بما يحقق له اندماجاً اجتماعياً هادفاً ومجديا.

كان جوابه حذرا لجهة أن عملية التطويع ما هي إلا توليد لمسالك متشابهة ومتماثلة يعتادها المرء؛ فتقتل روح الإبداع لديه، والإبداع عمل فردي وليس جماعياً؛ اعتادت الأطر الجمعية على مقاربته من الناحية السلبية باعتباره بدعة، وخروجاً عن خصوصية الجماعة، وإن ثقافتنا العامة حاصرت كل سبل الإبداع من خلال التأسيس لحجية الإجماع كأصل كلي ومرجعية نهائية على مستوى التفكير والقيم والسلوك.

بعد مدة، طرحت عليه فكرة الاختلاف والتي اتخذت مسارها في أدبياتنا العامة سربا، وتم التعامل معها من منطلق إيجابي كما لو أنها علامة فارقة على الانتماء إلى العصر والثقافة والتمدن الحضاري.

وشرعت في تعداد ما للاختلاف من دور فاعل على مستوى التأثير في المراجعة الذاتية، واليقظة، وكسر الرواسب، والتجدد، والتعارف، وما يحققه من قيم على صعيد التفاعل والتواصل والتواضع والإبداع.. وأن الدين دعا إلى احترام الخلق بصرف النظر عن انتماءاتهم وآرائهم.. وأن هناك من يرى في اختلاف الأمة رحمة... إلى آخر اللائحة التي لا تنتهي.

وعلى خلاف المتوقع، قاطعني بقوله إن هذا التوجه على خلاف ما يريده المسار الديني والذي دعا إلى وحدة الكلمة وكلمة التوحيد، نظرا لما يسببه الاختلاف من التنابذ والفرقة والشقاق والأحقاد. وان القرآن الكريم تعرض للاختلاف في سياق سلبي متوعدا عليه؛  ولم تبلغ الأمة هذا المصير الأسود إلا نتيجة الاختلاف والتناحر وعدم اتفاقها إلا على عدم الاتفاق.

أصابتني حيرة إزاء اختلاف الموقف، وانفصام الطرح، وقلت في نفسي إن هذا الرجل لا يكاد يستقر على رأي لعدم وضوح الرؤية لديه، ثم تفكرت في تضارب قوليه واختلافهما، فهو يلتقي بذلك مع فكرة الاختلاف نفسها. بل إن قولي الأول أيضا يتضارب ويختلف مع قولي الأخير، وإذا كان هذا هو حال القائل الواحد منا، فكيف مع التعدد! فالاختلاف واقع لا محالة بين البشر.

ثم إن أي علم من العلوم الشرعية لا يخلو من اختلاف الآراء، وإن عبارة "اختلفوا في.." تكاد ترد في مطلع كل بحث كلازمة تمهيدية لطرح الإشكالية في المسألة. بل إن علم المنطق نفسه يتعايش مع قضية الاختلاف على ما يشهد به اختلاف المناطقة أنفسهم، وعلى الرغم من قيامهم بالتأسيس المنطقي لعملية التفكير، إلا أن هذا الاختلاف لا يضر بعلمية العلم طالما أن المنطق لا يمنع من الاختلاف حتى في القضايا البديهية، ولهذا قالوا إن الاختلاف في البديهيات لا يضر ببداهتها.

ومع ذلك ينبغي توخي الحذر الشديد حين تطرح قضية الاختلاف على صعيد الضرورة الواقعية، فقد يلتبس الأمر على البعض، ويرتفع بقضية الاختلاف إلى مستوى النهج المعرفي والتأسيس الفلسفي؛ بأن يجعل منه منهجا في التفكير والتفلسف وفق نمطية مفارقة ومختلفة عما اعتاده العقل البشري على امتداد التاريخ من إقامة الفكر على قاعدة التشابه والتماثل، أو يذهب به بعيدا، بأن يبني عليه نظرية في التعددية المتطرفة أو رأيا في التصويب.

ومع أننا لا نشك قيد أنملة في أن الاختلاف في القضية لا يعني صوابية جميع الآراء فيها بالضرورة. إلا أننا نترصد الاختلاف هنا في أبعاده العملية، ونحيل التفصيل في الجانب النظري منها إلى فرصة أخرى.

فالمسألة إذن، لا بد وأن تتعلق بكيفية تنظيم خلافاتنا وإدارتها بنحو يدل على الرشد. ولا ينبغي أن يتعدى الاختلاف إطار الضرورة التي تفرضها الطبيعة البشرية؛ وسوف نبدو من خلال هذه الملاحظة، كما لو أننا نضع حدودا معيارية لعملية الاختلاف، ولا ضير في مثل هذا الاشتراط طالما أن صوابية أي منهج تتحدد على أساس من عقلانية الطرح نفسه.

ولكي لا نسهب كثيرا في المنزلق النقدي؛ لا بد أن نترسم سيرنا على ضوء عقلانية المنهج؛ والذي يتحدد هنا من خلال مبدأ تعدد الأسباب والأبعاد والجوانب في دراسة أي ظاهرة. وعلى أساس ملاحظة هذا النوع من التعددية الواقعية، سوف نترسم خطانا للاعتراف بالاختلاف وتسويغه في نفس الوقت الذي لا نتنكر فيه للإجماع.

ولا نقصد بذلك التبرع بنوع من المصالحة التبريرية أو انتهاج نحو من أنحاء التوفيقية المركبة، وإنما نسعى إلى نزع صفة الشمولية عمن لا يتصف بها في ذاته، والكشف عن البعد النسبي في بعض المفاهيم للدفع باتجاه تموضعها الطبيعي خارج دائرة الصدق المطلق.

***

يمكن أن نستقي المسوغات العقلانية لقضية الاختلاف من الميدان القرآني والذي ينسجم في طرحه العقلاني مع حدود الطبيعة البشرية؛ وذلك من قبيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13. والاختلاف هنا شعوبا وقبائل ينظر إليه كوسيلة للتعارف، وليس للتفرق.

وكذلك قوله تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل: 125. إذ يخضع الجدل هنا بين المختلفين للشروط التي تقود إلى الحقيقة، أي الجدال بالوجه الحسن والمناظرة برفق ولين وحسن خطاب..

إلا أنه لا ينبغي الانزلاق بعيدا في سَوق الدلالات النصية لتصب مسبقا في خانة الهدف المنشود، فقد دلت التجارب على أنه ما إن تستحوذ الفكرة على اهتمام المرء حتى تتحول لاشعوريا إلى محور جذب لمجمل بنيته المعرفية، وتساق دلالة الأدلة إليها بأدنى التفات، وفي سياق مماثل سوف يتم اعتبار الاختلاف على أنه هو علة الوجود، وأن الله تعالى يبرر الوجود ذاته بالاختلاف إذ يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ) هود: 118، 119.[1]

مع أن الموضوعية تقضي بالتروي وعدم التسرع في الحكم على الموضوع، بل واتهام الذات قضاءً لحق الاختلاف نفسه، وذلك من خلال التبصر في الغاية من قوله تعالى: (ولذلك خلقهم) فإن التناسب الداخلي للسياق القرآني، يقضي بأنه تعالى خلقهم للرحمة، والرحمة هي الهداية الإلهية الموصلة إلى السعادة؛ (إلا من رحم ربك)[2] وأنه لم يخلقهم لأجل الاختلاف في الحق والذي لا يأتي القرآن على ذكره إلا مصحوبا بالذم. وكيف يعقل أن يكون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، وهل أن الله سبحانه أوجد العالم الإنساني ليبغوا ويميتوا الحق ويحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة!

لا شك أن هذا النوع من الاختلاف، وعدم الاتفاق، هو مما لا يرتضيه الطبع السليم؛ نظرا لما يترتب عليه من تشتيت القوى وإضعافها والإضرار بالأمن والسلام. ثم إن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، والاختلاف في الدين بعد العلم بالحق هو من الظلم والبغي[3].

نعم، لا مناص من الاختلاف في الاستعدادات والطبائع والسلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية؛ وذلك لاستمرار المجتمع الإنساني وبقاء العالم الإنساني [4].

وعلى هذا يمكن أن نجمل تفسير الآية الكريمة في ثلاث نقاط:

1. أن الاختلاف المذموم هو الاختلاف في الحق

اختلاف الناس في الحق هو أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي والإثبات. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة؛ بأن يوحدهم ويرفع التفرق والخلاف من بينهم. لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما؛ يداومون على التفرق عن الحق وستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق.

2. أن الرحمة والهداية إلى الحق من الله

يخالف الناس بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله وهداهم من المؤمنين فإنهم لا يختلفون في الحق ولا يتفرقون عنه؛ إن الرحمة هي الغاية التي أرادها الله من خلقه وهي الهداية الموصلة إلى السعادة، وأن الله تعالى يدعو الناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما ولا شرا.

3. أن الاختلاف في الحق هو بغي من الناس

ولكن الناس بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته، ويعبدون غيره، ويفسدون في الأرض فيستحقون العذاب. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم. فالذي منه هو الرحمة والهداية، والذي من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم أنفسهم.[5]

***

وإذن، يميز الدين بين نوعين من الاختلاف:

1- الاختلاف في الحياة والمعيشة: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) البقرة: 213.

2- الاختلاف في الدين: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) البقرة: 213.

والوجه في اتخاذ القرآن موقفا سلبيا من الاختلاف في الحق هو أن التفرق عن الحق يصاحبه غالبا آراء يظهر بها الريب؛ نتيجة ستر الحق وإظهار الآراء الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق. وقد أراد الله سبحانه للحق والحقيقة أن تصل إلى ضمائر الناس دون أدنى تشوش وإبهام؛ والاختلاف وإن كان يتضمن في أطرافه أهل الحق إلى جانب أهل الباطل، إلا أن الذم يلحق مجتمع الاختلاف ككل؛ وذلك بملاحظة ما يتسبب به الاختلاف نفسه من ضمور الحق وإضعافه ووقوع المجتمع في الحيرة وارتيابهم في الحق. إن اللازم من الاختلاف هو التفرق عن الحق والإعراض عنه، وباعتبار هذا اللازم يقع الذم على الجميع.

ويتضح على ضوء الموقف القرآني، أن الاختلاف في الاستعدادات والطبائع والسلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية هو مما لا مناص منه لاستمرار المجتمع الإنساني وبقاء العالم الإنساني... يتبع

 



[1] الاختلاف الفلسفي العربي بين المشروعية الدينية والضرورة الحضارية، بحث منشور على موقع: مؤمنون بلا حدود.

[2] التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) الأعراف: 56. انظر تفسير الطباطبائي للآية في كتابه الميزان.

[3] (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم).

[4] وكما يقول الطباطبائي في الميزان: فإن الله تعالى ينسبه إلى نفسه في كتابه العزيز: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) الزخرف: 32.

[5] فيما يخص التفسير، راجع تفسير سورة هود في كتاب الميزان، الطباطبائي.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=806
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28