• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : سيرة .
                    • الموضوع : النبي(ص) الشاب.. قدوة الشباب .
                          • رقم العدد : الثالث عشر / الرابع عشر .

النبي(ص) الشاب.. قدوة الشباب

 

 

 

 

 

النبي(ص) الشاب.. قدوة الشباب

 

 

بقلم: الشيخ ياسر عودة

 

بحث يدور حول مرحلة الشباب قبل بعثة النبي محمدP بأسلوب تحليلي مقارن بين الشاب القدوة الواعي والمدرك لحقائق الأمور وبين الشباب الذين يعطلون جانباً أو أكثر من شخصياتهم وقدراتهم العقلية. وإذا أردنا الحديث عن ذلك الشاب قبل النبوة فإننا نبحث عن نزر يسير في بحر لجيّ يستحيل الأخذ بمجامع أطرافه وأغواره فمن الصفات الكمالية الإنسانية الأخلاقية والسلوكية ما هو منقطع النظير من رجاحة عقل إلى حكمة فائقة تضع الأمور في نصابها، إلى تأمل في الكون وحالاته ودقة صنعه وتناسق نظامه إلى غير ذلك لم تجتمع في ميزات غيره سوى ذلك الشاب الذي اختاره الله عز وجل للنبوة في الأربعين من عمره وإن كان المؤرخون لم ينقلوا لنا إلا شيئاً يسيراً من مراحل حياته قبل النبوة إلا فيما اتصل بولادته المباركة وذكر نسبه الشريف وأحواله مع مرضعته وبعض مشاركات محدودة خلال شبابه كحلف الفضول وإشارته على القوم بوضع الحجر الأسود عند اختلاف القوم وغير ذلك مما سنتناوله بالبحث والتحليل، لعلنا نلقي ضوءاً على حياة النبي P في شبابه ومن ثمّ يكون شباب اليوم على بيّنة من ذلك مما يتيح لهم فرصة التعرف على شخصيته المميزة وتالياً للاقتداء به، لأن العلم مقدمة للعمل، ولا يستغني المرء عن قدوة ليمضي قدماً نحو الكمال.

اتفق المؤرخون والمحدثون أن النبي محمدP كان مطلع شبابه مرموقاً ومثلاً كريماً لكل الصفات النبيلة والأخلاق الفاضلة وكان يعرف بالصادق الأمين فما دخل مجلساً أو محفلاً إلا قالوا جاء الصادق الأمين الذي لم يعرف الكذب إلى لسانه سبيلاً في رد أي أذية توجّه إليه، ويظهر من الأخبار الكثيرة التي أوردها ابن شهرآشوب أنه كان أحكم الناس وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم لا تمس يده امرأة لا تحل له وكان سخياً لا يثبت عنده درهم ولا دينار وكان متواضعاً بل أشد أهل زمانه تواضعاً يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها ويخصف النعل ويرقع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير ويطحن مع الخادم إذا أعيا ويجيب دعوة الحر والعبد والناس عنده سواء إلى غير ذلك من الصفات الكمالية الإنسانية التي لم تجتمع في شاب مثله.

 

النبي الشاب

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد قريش يتصل إلى هاشم من أشراف العرب وكذا من جهة الأم آمنة بنت وهب سيد بني زهرة نسب شريف وعائلة ميسورة.

شاب لا ينقصه شيء من الجمال والكمال فقد جاء في كتاب أعيان الشيعة المجلد الأول نقلاً عن ابن شهرآشوب وغيره ممن اهتم بنقل صفات ذلك الشاب الخلقية أنه كان أطول من المربوع عظيم الهامة رجل الشعر أي ما بين الجعودة والاسترسال أزهر اللون واسع الجبين، ازج الحاجبين أي رقيق في طول يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان كث اللحية سهل الخدين وكأن عنقه جيد دمية في صفاء فضة، معتدل الخلق بادناً متماسكاً سواء البطن والصدر بعيد ما بين المنكبين، إلى غير ذلك من الأوصاف الجميلة التي يتمناها أي شاب في حياته يصرف وقتاً ومالاً وجهداً في سبيل تحقيق بعضها.

وشاب بهذا الوصف الجميل لا بد أن يكون محط أنظار الفتيات له حتى فيما لو لم يكن يحمل من المواصفات الخُلقية والروحية لأن كثيراً من الشباب يستغل جماله أو عضلاته أو شعره أو أي شيء فيه ليلفت أنظار الفتيات إليه ساعياً بكل جهد إليهن ملبياً نداء نزواته وشهواته منهن متفاخراً بين أقرانه بما يمتلك من جمال الجسد وقوة العضلات، ولكن على الشباب أن يعرف أن جماله مهما بلغ فهو أقل من جمال محمدP ويوسفQ، فيوسف ورد أن الجمال قسم نصفين بينه وبين الناس بحيث لا تراه امرأة إلا شغفها حباً وأذهلها جماله وأسكرها حسنه ومع ذلك كله كان مستعففاً بعيداً عن هذه الملذات المحرمة مترفعاً عن استغلال الفرص، لأن امرأة العزيز هي السيدة الأولى التي تملك القرار تستطيع حمايته وإغناءه وجعله في مناصب متقدمة في الدولة وربما تسعى لقتل زوجها وتنصيبه مكانه، ولكنه استعفف وفضل السجن على ما يدعونه إليه مخافة من ربه وعملاً بأخلاقه وسجاياه التي تحفظ الجميل لمن رعاه في بيته. ومحمدP لا يقل جمالاً في الجسد والهيئة والنور المتلألىء منه عن يوسفQ فيما ورد من أوصافه بحيث ما رأه رجل ولا امرأة إلا أعجب بشخصيته وتساءل.

وقد اشتهر عن السيدة خديجة بنت خويلد كما يروي المؤرخون قولها في مدح جماله:

جاء الحبيب الذي أهواه من سفر

 

 

والشمس قد أثرت في وجهه أثرا

 

عجبت للشمس من تقبيل وجنته

 

 

والشمس لا ينبغي أن تدرك القمر

 

 

وينسب أيضاً إليها  قولها:

نواجي زليخا لو رأين جبينه

 

 

لأثرن بالقطع القلوب على الأيدي

 

 

هكذا صفات جمالية تلوث نفسية الشاب الجميل من حيث الفخر والعجب الذي يعكسه جماله مما يجعله متكبراً متعالياً على من دونه في الجمال والقوة وحسوداً مبغضاً لمن هم أجمل منه أو مساوين له.

أما محمد هذا الشاب الفريد، فقد كانت القيم التي يحملها في نفسه والشعور الذي يخالج وجدانه والعقل الذي ينفتح على كل الإنسان من حوله تمنعه من أن يمارس أي صفة سلبية يعكسها جماله الجسدي.

الشاب العامل الكادح

وهذه ميزة أخرى للنبي محمدP في شبابه حيث لم يبق عالة على أقربائه في تحصيل قوته وقد تركته المشيئة الإلهية يتيماً في صغره، فحاول أن يعمل بالتجارة مع عمه أبو طالب حيث ألحّ على عمه أبو طالب بالخروج معه في تجارته إلى الشام ليتعلم فنون التجارة وليكسب قوت نفسه بعرق جبينه بدل من أن ينتظر الصدقة من هنا وهناك ليعتاش كما يفعل الكثيرون من الشباب هذه الأيام، حيث إنهم عطالون بطالون لا عمل لهم سوى ربط زوايا الطرقات والجلوس على حافة الشرفات والنظر والتعرض للذاهب والآتي حتى أدى الأمر ببعضهم إلى الجريمة والفساد من الفراغ الذي يعيشونه فعليهم التأسي بهذا النبي الشاب الذي سارع منذ نعومة أظفاره إلى تعلم التجارة وقيل أنه في طفولته كان يرعى الغنم حتى روى عنه ابن إسحاق أنه كان يقولP ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قيل وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا.

إن ذلك لو صح يفيد أن العمل مهما كان وضيعاً ليس فيه بأس وعيب وعلى الإنسان أن يعمل أي شيء في حدود ما أحل الله لا أن يكون بطّالاً يعيش الفراغ ولا يعمل.

ثم إنه P كان يخرج للتجارة في مال خديجة بنت خويلد إلى الشام وكانت ترى الخير على يديه وتأتمنه لصدقه وأمانته ورعاية أموالها فدخل قلبها ووافقت على زواجه بعدما بلغه من صدق حديثه وكرم أخلاقه وعرضت عليه نفسها وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً وأكثرهن مالاً وكل قومها كان يحرص على الاقتراب منها لو يقدرون على ذلك.

وخرج أبو طالب وأصدقها وقال لها في نفر من أعمامه أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح عليه ولا يقاس بأحد إلا كان أعظم منه وإن كان المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجله من مالي.. وتم الزواج.

 

عنفوان الشاب العاقل

من الطبيعي أن كل شاب يمتلك من المواصفات التي قدمنا بعضها يشعر بالعنفوان وهو في أوج قوته خصوصاً بعد سن المراهقة إلى الأربعين من عمره فيندفع لإثبات ذاته وإظهار قدرته ولو عبر الدخول في معارك وحروب من دون تفكير في سلبيات تلك الحروب وما تعكسه على المجتمعات من عداوات وبغضاء وأخذ بالثأر يمتد مع الزمن بين القبائل والعشائر والجماعات، ولكن النبي P القدوة لم يكن ليندفع وراء ما لا طائل وراءه. لا إرضاء الرغبة النفسية ومجاراة أهل قومه وعشيرته.

فقد شهد ذاك الشاب العظيم حرب الفجار وقد سميت بذلك لأنهم فجروا بالحرب في الأشهر الحرم التي كانت تعظمها العرب ولا يقاتلون فيها حيث نشبت الحرب بين قريش ومن ساندهم من كنانة ـ وبين قيس ومن ساندهم وكان عمر النبي P إذ ذاك أربع عشرة أو خمس عشرة سنة ـ وجاء عن ابن إسحاق أن رسول اللهP كان عمره عند نشوب حرب الفجار عشرين سنة. والمهم في الأمر أن محمداً ذاك الشاب القوي الجاهز للقتال والنزال لم يشارك في تلك الحرب ولم يكن موافقاً عليها لأنها لم تكن حرباً عادلة.

وجاء في السيرة وشهد رسول اللهP بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم وقالP كنت أنبل على أعمامي: أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.

والشاهد من هذا النقل أن هذا الشاب العشريني أو أقل، في كل عنفوانه وقوته وشدة شبابه كان يمتلك من رجاحة العقل ما منعه المشاركة أو الموافقة على هذه الحرب لأن حرباً تنشب بين أكبر القبائل لمجرد خلاف بين رجل من قيس ورجل من كنانة يقتل أحدهم الآخر ليس سبباً وجيهاً لكل هذا النزف من الدم ومجرد رده بعض النبل عن أعمامه لا يعني مشاركته بالحرب وموافقته لعرقه وعشيرته على ما قاموا به. ويستنتج من ذلك:

أولاً: على الإنسان أن يفكر ويدرس مواقع الحق والباطل ولو اجتمع الناس عليه على خلاف رأيه ليقف مع الحق.

ثانياً: أن القرابة والعشيرة لا يمليان عليه موقفاً لا يرتضيه عقله ونظره.

ثالثاً: أن يكون للإنسان رأيه المستقل عبر دراسته للأمور وعدم تبعيته لقومه.

رابعاً: أن هذا  الشاب لم يحاول إظهار قوته ولم يتخذ الحرب فرصة لكي يثبت لعشيرته وقومه أنه الأقوى والأشجع والمقدام لأنه لا يرى أحقية في هذه الحرب.

والحاصل إن على الأنسان وخصوصاً الشباب الذين يمتلكون القوة والعنفوان أن ينظروا ملياً إلى شخصية نبيهم P في شبابه حتى لا ينساق مع انفعالاته وأهوائه بل يحكّم العقل ويدرس الصحيح من الفاسد في كل قضية وواقعة ليستخلص النتيجة التي تتماشى مع قضايا الحق والعدل في الحياة، ويبتعد هذا الشباب عن كل همجية عصبية أو قبلية أو أية تبعية فيها سخط الله تعالى ومخالفة الحق والعدل.

أيها الشباب ليكن محمدP هذا الشاب العظيم قدوتكم في مواجهة العصبية بالحلم والباطل بالحق والظلم بالعدل والجور بالنصفة، ليست البطولة في أن تقهر القوي بالباطل أو أن تثير نعرة عصبية تجر الويلات على نفسك وقومك، بل البطولة في أن يدير العقل كل حواسك وأعضائك وعضلاتك وقوتك في طريق الخير والصلاح فهكذا كان محمد الشاب العظيم ولم يقبل بكل تلك التجاوزات والاعتداءات من شباب قريش على الوافدين إلى مكة والتي كان بعضها يؤدي إلى نشوب الحروب.

 

الشاب المنتصر لقضايا الحق

وهكذا نجد محمداًP بعد أن تجاوز سن العشرين من عمره الشريف بقليل يشارك قومه في قضاياهم العادلة فعندما عقلت قريش وأرادت أن تضع حداً لتجاوز شبابها وغطرستهم حيث إن التجاوزات التي كانت تصدر من فتيان قريش على الوافدين لم تكن لتقف عند حد لولا حلف الفضول. ومن الأسباب التي دعت الزبير بن عبد المطلب وأخوه أبو طالب للدعوة إلى هكذا حلف نفس السبب الذي أدى إلى نشوب حرب الفجار.

فقد جاء في السيرة أن رسول اللهP حضر حلف الفضول وكان منصرف  قريش من الفجار وكان أشرف حلف وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتميم في دار عبد الله بن جدعان فتعاقدوا وتعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه وقد سمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ولا يعلم أحد قد سبق بني هاشم بهذا الحلف وقالP ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت. والشاهد عند دراستنا لمشاركة ذلك الشاب العظيم بعد سن العشرين بقليل في حلف الفضول  أن محمداً بدل أن يشارك الشباب كونه شاباً مثلهم في ما يقومون به من أعمال اعتداء  وأكل أموال بالباطل وما إلى ذلك، وفي وقت يعيش الناس فيه الجاهلية العمياء بكل ظلاماتها بدون شريعة تحكمهم أو قانون يوقفهم أو رادع يردعهم، الحياة فيها للقوي والسلطة للظالم وشباب يعيشون الطيش واللهو وإثبات الرجولة بكل وسيلة قذرة همهم بطونهم وفروجهم كما قال الشاعر:

وابن عشرين لا تسألني عنه

 

 

فابن عشرين ما عليه كلام

 

حبب الطعام والشراب إليه

 

 

وصنوف اللذات وهي حرام

 

 

نجد أن هذا الشاب ينتفض على كل ذلك الواقع بكل عزيمة صادقة وإرادة صلبة، ضد شباب قومه وعشيرته لأنه يرفض الظلم والاعتداء ليكون شاهداً وموقعاً على ذلك الحلف الذي نستفيد منه.

أولاً: الوعي الكبير لهذا  الشاب العظيم في رفض حرب الفجار ومشاركته حلف الفضول لأن أساس الأول باطل وأساس الثاني إرساء قواعد العدل.

ثانياً: تشجيع العنصر الشبابي على المشاركة بقضايا الأمة الحقة التي فيها صلاح العباد وحفظ الحقوق.

ثالثاً: عدم تهميش الشباب في القضايا الكبيرة بحجة صغرهم وطيشهم فالعنصر الشبابي عنصر هام في بناء المجتمع والدولة.

 

ظاهرة التعري عند الشباب

ربما لا تجدون هذه النقطة مهمة في البحث ولكن خلال مطالعتي استوقفتني حادثة جرت مع ذاك الشاب محمدP.

الشاب الحكيم

وله حكمة نادرة ظهرت في طريقة حله للقضايا العالقة ففي حادثة هدم الكعبة وإعادة بنائها بعد أن صدعها السيل اختلفت قبائل قريش أيهن يكن لها شرف وضع الحجر الأسود في مكانه وتجمهر القوم وكاد القتال يقع بينهم وكان فيهم الشيوخ وكبار القوم ولم يجدوا حلاً لهذه المعضلة وكل يصر على رأيه لعصبية الجاهلية والعرقية ونقل ابن هشام في سيرته أن أبا أمية بن المغيرة بعد أن تحالفوا على القتال وأعدوا له ومكثوا خمسة أيام اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وأشار عليهم قائلاً يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا وكان أول الداخلين عليهم محمد فلما رأوه قالوا: هذا الأمين «وكانت الصفة التي يعرف بها» رضينا هذا محمد فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قالP هلم إلي بثوب فأُتي به فأخذ الركن أي الحجر الأسود فوضعه بيده فيه ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوا جميعاً ففعلوا حتى بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه . ورواه الحاكم وأحمد في مسنده والطبراني وغيرهم.

وهذه الحادثة تدل على وفير حكمته ورجاحة عقله في حل المشاكل العالقة والمعضلات التي كادت أن تؤدي إلى نزاع بين القوم.

الشاب المتأمل في الخلق المتأله.

لقد أجمع المحدثون والمؤرخون على أن النبي الشاب P ومعه جماعة من بنى هاشم كانوا قبل نبوته على شريعة إبراهيم الخليلQ ولم ينحنِ لصنم ولا خشع قلبه لغير الله الواحد الأحد لأنه رأى المسيحية في خلاف وشقاق شديد في شخصية عيسىQ وطبيعة خلقه وخلق أمه وكانوا يتراشقون بالسباب والشتائم وتفرقوا جماعات وأحزاباً يتلاعنون ويتحاربون وغالوا فيه فجعلوه إلهاً أو ابنه مبتعدين عن أدنى الضوابط العقلية والعلمية في الوصول إلى العقيدة التوحيدية وقد أدرك بفطرته الصافية وعقله المنير المتفكر أن هذه العقيدة غير سليمة إضافة إلى عقائد عديدة كانت تسود تلك الجزيرة ولكل منها أنصار وأتباع والجامع بينها الانحراف عن الفطرة السليمة والعقل الصحيح. في هذا الجو المشحون بالعقائد الفاسدة ينظر محمد فيرى الانحراف في فهم حقيقة عيسى، ويرى ضلال قومه وعبادتهم للأصنام وقد اتخذت كل قبيلة حجراً تعبده. فيعود إلى تأملاته بعيداً عن إنسان عصره ويتفكر في خلق السماوات والأرض وما أعد الله فيهما من نِعَم ومخلوقات وما سخره الله للإنسان ويرى كل هذا الخلق الدقيق والنظام الكامل حتى ابتعد عن قومه وكثر صمته وتفكره ليصل إلى الحقيقة التي تأخذ به إلى السعادة والنقاء كان يتألم للضلال وللانحراف في قومه ولكل هذا الظلام الذي يعيشه إنسان عصره ويعتصر قلبه الكبير لشدة التخلف والجهل عن قومه لا ليكون راهباً أوناسكاً بل ليتأمل في الحقيقة لعله يجد شيئاً يضيء به ظلام الجاهلية لا ليكون حكيماً كحكماء الإغريق ولا فيلسوفاً كفلاسفة اليونان ولا ليكون عارفاً يخبر الناس عن ضمائرهم وما يجري عليهم بل ليكون صاحب العقل المستنير الواعي العارف بكل ما يجري حوله وليجيب على أسئلة تطرق قلب كل إنسان على هذه الأرض، هل خلق عبثاً؟ من أين أتى ومن الذي أوجده؟ ما هي هذه القوة التي تسيطر عليه وعلى الكون كله ما هو المطلوب منه في هذه الحياة ما هي مسؤولياته تجاه الكون وما فيه تجاه نفسه ومجتمعه؟ ومن أوجده؟ إلى أين يعود بعد هذه الرحلة الدنيوية وما هو الموجود في ذلك العالم هل كما يقول قومه يفنى أو هناك حياة أخرى؟ أسئلة تجول في ذهن كل شاب واعٍ مدرك لمسؤولياته ومبتعد عن اللهو واللامسؤولية.

كان محمد P الشاب المتفكر والمسؤول المتوازن في كل شيء لذا وحتى يكون الفكر صافياً لا تشوبه أية شبهة علمية أو تأثير بيئي أو عصبية عرقية أو قومية أو انحراف جماعي التجأ إلى غار حراء في جبل عال بعيداً عن بيوتات مكة مشرفاً على ذلك البيت العتيق الذي جعله الله للناس أمناً ليتأمل من دون ضوضاء ولغو كان يذهب إلى هذا الغار في شهر رمضان في كل عام يمكث الشهر كله ليتفكر ويتأمل طالباً للحقيقة وناشداً للمعرفة والسعادة ليبلغ الحقيقة العليا بوجود إله ليس كمثله شيء لهذا الكون ليزداد قناعة بجهل قومه وتخلفهم كلما رأهم يلوذون بالأحجار ثم بقي على تلك الحال في كل سنة يمكث في غار حراء وحيداً متأملاً في الإله الواحد مكتفياً بما تأتيه به خديجةQ من زاد إلى أن شارف على الأربعين من عمره قبيل النبوة.

إن هذا الشاب محمدP بكل ما أوردته مما تسنى لي ذكره أو عثرت عليه من سيرته المباركة ينبغي أن يكون القدوة الأولى في حياتكم لأنه جمع من صفات الكمال الإنسانية قبل النبوة ما لم يجمعه إنسان قبله، إنكم تتخذون بعض الأسماء قدوة لأن صاحبه قام بثورة هنا أو رفض ظلماً هناك له جانب واحد في شخصيته وهذا جيد لكن هل بحثتم عن الجوانب الأخرى لقد جمع محمد الشاب كل الجوانب في شخصه فاستحق أن يكون القدوة بحق ومثالاً للشباب يحتذى به.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=85
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 01 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28