• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : في رحاب سورة الكهف3 .
                          • رقم العدد : العدد الثامن والثلاثون .

في رحاب سورة الكهف3

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏

في رحاب سورة الكهف3

وقفات تفسيرية مع سورة الكهف ق2

إعداد : الشيخ سمير رحال

موانع تصدّ عن الايمان والاستغفار، من أمنعها التّرف والاستكبار:

قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا 55

أي وما منع المشركين من أهل مكة من الإيمان باللّه ، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود اللّه وتوحيده، واستغفار ربهم إلا طلبهم أحد أمرين:

إما أن تأتيهم سنة الأولين القدماء من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم وهو عذاب الاستئصال كما قال جماعة لنبيهم: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏ [العنكبوت / 29] وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ‏ [الأنفال 8/ 32]. وعند تحقق سنة الاوّلين عذابا واقعا لا يبقى مدعي الايمان حينه حتى يؤمن!

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أنواع من العذاب والبلاء يتلو بعضها بعضا حين وجودهم فى الدنيا

ولكن عند رؤية العذاب قبلا لا يفيد الايمان‏ «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ... فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ» (40: 85).

ويمكن ان يكون إسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي. والمراد: ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب.

وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال، فلا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال. وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين.

_ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (56)

بيان لوظيفة الرسل فليس عليهم إلا أن يبشروا الناس بالنتائج الإيجابية التي يحصلون عليها من الإيمان باللَّه وبرسله وبكتبه، وينذروهم بالنتائج السلبية التي يواجهونها من خلال الكفر ويبذلوا كافة الوسائل ويقدّموا أفضل الأساليب في سبيل تقريب الفكرة إلى عقولهم ... وتنتهي مهمتهم. أما استجابة الناس لهم وإيمانهم برسالتهم فشأن آخر.

قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [57]

جعل تعالى على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات اللّه إذا ذكروا بها أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به, وأنه جعل في آذانهم وقراً، أي ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات الذي ذكروا بها.

ويماثل هذه الآية قوله تعالى: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً الكهف(101)

وقد بيّن سبحانه في آيات كثيرة تغطية أعينهم: كقوله‏ وَعَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7]

وقال في عدم استطاعتهم السمع: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ‏ (هود: 20)

وهذا المعنى أوضحه اللّه تعالى في آيات أخر؛

 كقوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 45- 46]  والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.

واللّه جل وعلا بيّن في آيات كثيرة من كتابه العظيم: أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ، ونحو ذلك- إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم، فأزاغ اللّه قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم

كقوله‏ تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ‏ [النساء: 155] أي بسبب كفرهم

وقوله: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ [النحل: 5] سبب إزاغة اللّه قلوبهم هو زيغهم السابق.

وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏  [المطففين: 14]

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من اللّه على الكفر السابق على ذلك.

أَنْ يَفْقَهُوهُ‏  ‏ والفقه: الفهم

وهنا وجهان معروفان لعلماء التفسير:

أحدهما :أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه. ف (لا) النافية محذوفة.

والثاني: أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه .

وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة. كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا.

إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ [الحجرات: 6] أي لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم.

 

الْأَخْسَرونَ أَعْمالًا

قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105).

والأخسرون: جمع أخسر، صيغة تفضيل من الخسران، وأصله نقص مال التاجر.

والمراد به هنا: خسران أعمالهم وضياعها بسبب إصراره على كفرهم.

ويتلخص المعنى بأن أخسر الناس صفقة، وأخيبهم سعيا هو الجاهل المركب الذي يرى جهله علما، وشره خيرا، وإساءته إحسانا .. والخسران الحقيقي هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل.

وجواباً على السؤال هَلْ نُنَبِّئُكُمْ  بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا فقد بيّن تعالى  بعض شؤونهم وصفاتهم  :

 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.

والضلال: خطأ السبيل. شبّه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.

كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً  [الفرقان: 23]

وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] الآية

وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي. والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم أى بطل وضاع بالكلية سعيهم وعملهم في هذه الحياة الدنيا بسبب إصرارهم على كفرهم وشركهم والحال أنهم يظنون العكس. كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً.

وهذا هو الجهل المركب بعينه، لأن الذي يعمل السوء ويعلم أنه سوء قد ترجى استقامته. أما الذي يعمل السوء ويظنه عملا حسنا فهذا هو الضلال المبين.

وحسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق وتبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق والإصغاء إلى داعي الحق ومنادي الفطرة .

قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ‏ الكهف: 105

والمراد بالآيات آياته تعالى في الآفاق والأنفس وما يأتي به الأنبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم . والحبط: البطلان والدحض. ولقاء الله الرجوع إليه وهو المعاد.

والآية تعرّف الأخسرين أعمالا بأنهم المنكرون للنبوة والمعاد وهذا من خواص الوثنيين.

وهي أوضح انطباقا على الوثنيين منها على غيرهم. فهم يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم كما قال تعالى عنهم:ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏ الزمر: 3 وقال عنهم‏ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ‏ [يونس: 18]  

ولكن في الرّوايات والأحاديث تفاسير متعدّدة للأخسرين أعمالا ، والروايات جميعا من قبيل الجري وتطبيق المفهوم على المصاديق وإنّ كل واحد منها إشارة إلى أحد المصاديق لهذا المفهوم الواسع.

ففي حديث «أصبغ بن نباتة» أنّه سأل الإمام علي عليه السّلام عن تفسير الآية، فقال الإمام: «كفرة أهل الكتاب، اليهود و النصارى، و قد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا»[1].

وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه السّلام: «وما أهل النهر منهم ببعيد»

يعني بهم الخوارج‏ لأنهم ارتكبوا أمورا شنيعة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وفي حديث ثالث إشارة خاصّة إلى الرهبان (الذين يتركون الدنيا)

وهناك قسم من الرّوايات تفسّر الآية بالذين ينكرون ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام

كل ذلك تشمله هذه الآية. لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

ف(الأخسرين أعمالا) يشمل المشركين واليهود والنصارى، وغيرهم ممن يعتقدون أن كفرهم وضلالهم صواب وحق.

ومصدر هذا الانحراف الخطير هو التعصب القوي والغرور والتكبير وحب الذات،  فيتصوّر أنّ كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، بحيث يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلا من إحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول تعالى أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فاطر، 8.

ينظر الى نفسه على انها المقياس الوحيد للحق والصواب، وتنقلب مقاييسه وقيمه. فهو منكوس فهمه مغلوب على عقله.

والآية نص في أن الكفر بآيات اللّه ولقائه يحبط العمل ( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ‏).

والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا، كقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ العنكبوت(23)  

فكانت نتيجة هذا الكفر أن‏ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ‏ أى: فسدت وبطلت.

فان أعمال الإنسان لا تحفظ الا في اطار الايمان باللّه واليوم الآخر، والا  كانت النتيجة : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)

ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشي‏ء، وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشي‏ء التافه لا يوزن. وهم لا قدر لهم عند اللّه لحقارتهم ، بسبب كفرهم.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة

_ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا).

تتوجه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم.

فذكر جل وعلا أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس.

والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سببا في دخول الجنة كثيرة ؛

كقوله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف: 2]

وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ الزخرف: 72 وغير ذلك من الآيات.

والعمل لا يكون سببا لدخول الجنة إلا إذا تقبله اللّه تعالى وتقبله له فضل منه.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإنّ الآية تقول: خالِدِينَ فِيها.

وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوّع، إلّا أنّ سكان الجنّة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبدا: لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا.

_ قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً )(109)

ومثله قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ‏ [لقمان: 27] .

وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

وإذا كانت نعمة اللّه لا تحصى وهي محدودة في الواقع لحدوثها «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» فأحرى بكلمات اللّه ألّا تحصى!

و (كلمات) جمع كلمة، وهي لفظ يدل على المعنى، وبما أنّ كل موجود من موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإنّه يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة اللّه) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.

كالمسيح ع: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ‏ النساء: 171.

وفي الآية فإنّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة للّه تبارك وتعالى.

فعالم الوجود على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أنّ البحار وجميع المحيطات تحولت إلى‏حبر ومداد، ولو أنّ كافة الأشجار تحولت إلى أقلام، فإنّ ذلك كلّه لا يستطيع الإحاطة بما موجود في عالم الخالق جلّ وعلا. ولهذا يجب أن يتحدد غرورك أيها الإنسان، ولا تظن أنك قد وصلت الى نهاية الحقيقة.

وربما كان المراد من كلمات اللَّه معلوماته. وهذا تصوير مقرّب لعلم اللّه الذى أحاط بكل شى‏ء علما، فلو كان علم اللّه يدوّن في مكتوب ما وجد مدادا يدون كلماته.

وقيل أراد بالكلمات ما يقدر سبحانه على أن يخلقه من الأشياء ويأمر به .

وقيل أراد بالكلمات ما وعد لأهل الثواب وأوعد لأهل العقاب.

وقيل أراد بكلمات ربي معاني كلمات ربي وفوائدها وهي القرآن وسائر كتبه. فكتب الوحي وكافة التشريعات الإلهية هي من كلمات الرب، وحملتها الرسل والأئمة وسائر العلماء باللّه، هم من كلمات الرب، وكافة الرحمات الإلهية رحمانية ورحيمية هي من كلمات الرب، ومجموعة الكائنات هي آيات اللّه وكلماته.

 فأين مداد البحار والأشجار من مدّ كلمات اللّه!.

_ قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ...)[110] آية.

والمعنى أنما انا بشر من جنس البشر، إلا أن اللّه تعالى فضلني وخصني بما أوحى إليّ من توحيده وشرعه. فهو كسائر البشر يأكل ويمشي في الأسواق ويتزوج... وهذا الذي بيّنه تعالى في أخر:

 كقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ‏ [فصلت: 6]

وقوله تعالى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا  [الإسراء: 93]

عن رسول الله(صلّى اللّه عليه وآله) : «لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم»

وعن البعض إنَّ في هذه الآية الأخيرة تلخيصاً لِكتاب الله كله.

فهي مشتملة على إجمال الدعوة الدينية وهو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له وقد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى وهو الرجوع إليه إذ لولا الحساب والجزاء لم يكن للأخذ بالدين والتلبس بالاعتقاد والعمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ»( ص: 26)

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ  ماذا يوحى إليّ ؟

 يوحى إليّ هذا الكتاب التوحيد أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فهو الحقيقة الأولى والأخيرة في الدين﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ الأنبياء : 25

وهذه دعوة جميع الشرائع السماوية وجميع الكتب المنزلة على أنبياء الله عليهم السلام

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، إعلام من اللّه تعالى بمن هو الإله حقا، فهو اللّه تعالى، ولا إله غيره. وهو الأصل الذي تتبناه كافة الرسالات الإلهية، وسائر الأصول وكل الفروع تبنى على ذلك الأصل.

 ومن تلك الأصول المعاد «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ»

 ثم الأعمال التي تنتجها الأصول‏ «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً»!

فمن كان راجيا من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملا صالحا ومن صلاح العمل خلوصه للّه دون اي اشراك فيه.

عن أبي عبد الله (ع) قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا خير شريك- من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.

واذا صلحت النية حين العمل فان "الإبقاء على العمل أشد من العمل "

ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة: أن الذي يشرك أحدا بعبادة ربه، او لا يعمل صالحا أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند اللّه يوم القيامة.

كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ لأن من كفر بلقاء اللّه لا يرجو لقاءه.

وقوله تعالى: * وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: 21] إلى غير ذلك من الآيات.

لطائف من الآيات

قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} وبعده {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرًا}

الإِمْر: العَجَب، والعجب يستعمل فى الخير والشرِّ، بخلافِ النُّكر؛ لأَنَّ النُّكْر ما ينكِره العقلُ، فهو شرّ، وخَرْق السفينة لم يكن معه غَرق، فكان أَسهل من قتل الغلام وإِهلاكِه.

قال مستنكراً: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ من غير جرم ولا ذنب لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا الكهف:74

وفي القرآن منكر ونكر، النكر: الشيء المستعظم على النفوس، الذي تتهول منه الأعين إذا رأته، وإن كان حقاً في ذاته.

أما المنكر فهو ضد المعروف، ولو أن النفس العاصية قبلته لكنه يبقى منكراً إذا كان على غير شريعة الله جل وعلا، فالمنكر: ما حرمه الله وذمه الله، ولو ألفته النفس.

والنكر: ما استعظمته النفس ولو كان حقاً في ذاته.

 

 

ضلال السعي

قال تعالى ضَلَّ سَعْيُهُمْ‏  أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد!

كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الفرقان: 23

وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39]

والضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات:

الأول- الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل؛ كالذهاب عن الإسلام إلى الكفر. وهذا أكثر استعمالاته في القرآن؛ ومنه قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ‏ [المائدة: 77].

الثاني- الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال

ومنه قول العرب: ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه. ومنه قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ‏  [القصص: 75] أي غاب واضمحل، وقوله هنا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ‏ أي بطل واضمحل.

ومن هذا المعنى قوله تعالى: وَقالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] الآية. اختلطت عظامهم الرميم بها فغابت واستهلكت فيها.

الثالث- الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع.

 قال تعالى عن أولاد يعقوب(ع) : قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ‏ [يوسف: 95]

أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف(ع) ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه.

وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [البقرة: 282] أي تذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله‏ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏

وقوله تعالى: قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى‏  [طه: 52]

ومن هذا المعنى قول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها   بدلا أراها في الضلال تهيم

_ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ‏ يشمل كونه يأمل ثوابه، وكونه يخشى عقابه؛

أي فمن كان راجيا من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملا صالحا.

والرجاء  يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضا. واستعماله في رجاء الخير مشهور. ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها    وحالفها في بيت نوب عواسل .  أي لم يخف لسعها.

وهما متلازمان، فمن كان يرجوا ما عند اللّه من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس.

كلمة: ( وراء ) جاءت في القرآن على عدة معان، من أشهرها ثلاثة

وراء بمعنى أمام: زمانياً ومكانيا

أما بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المؤمنون:100

وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17] يعني: هذا في مستقبل أيامه، فحياة البرزخ، والعذاب المتوعد به أهل النار، لم يأت بعد، وإنما هو أمام المتوعد به، هذا ظاهر.

وأما وراء بمعنى أمام مكانياً فدليلها الآية: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] ومعنى وراءهم أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأول معاني وراء في القرآن بمعنى: أمام.

وتأتي بمعنى: خلف وهو الأصل في استخدامها اللغوي، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب(ع) : وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود:92] وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه.

وأشهر معانيها ان تأتي بمعنى غير أو بعد، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] ثم ذكر المحصنات...وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ [النساء:24] أي ما بعد ذلك.

 وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ  (أي: غير ذلك) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. [المؤمنون:5-7]

 

 

 

 

مصادر  البحث:

 القرآن الكريم

مجموعة من التفاسير

 

[1] ( 1)- يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 311- 312.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1070
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 01 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29