• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : المبلغ القدوة .
                          • رقم العدد : العدد التاسع والثلاثون .

المبلغ القدوة

المبلغ القدوة

الشيخ حسن بدران

 

يمثل الموقع الذي يحظى به العالم الديني في المجتمع لبنة أساسية في جدار الحصانة الاسلامية، ويستدعي ذلك شروطا دقيقة ومواصفات صارمة على مستوى الممارسة تسمح بالارتقاء الى موقع النموذج والمثال المحتذى. وهذا الموقع ليس مكسبا عشوائيا، وانما هو ضريبة مكلفة، تستدعي المداومة على الاصلاح، والتجهز، والتنظيم، والانضباط، والترتيب، والانتباه، والتحرك، والتحصين، والاستعداد.. وسائر المفردات المماثلة.
ولا يوجد أي عذر في الإخلال بهذه القواعد الضرورية، ذلك أن أي إهمال سوف يتسبب بثمن فادح، لا أقل القضاء على النفس وعلى أحكام الاسلام.. بحيث يصح القول هنا أن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير.
في سبيل ذلك، يتوجب وضع طلبة العلم بين خيارين: إما العمل على الاعداد والتنظيم والتجهز، لاحباط مؤامرات العدو، وإما الإهمال وما ينتج عنه من الفناء والزوال.
ونظرا لما يمثله عالم الدين من موقع متقدم، وطبيعة الدور الذي يقوم به، وهو دور يتجاوز مجرد التمثيل الرسمي والمهني، ويستوجب ايمانا رساليا وانتماءا نهائيا، بحيث يتحول العالم الى قدوة ونموذج ومثال أعلى في نظر العموم، وتتحول القيم التي يمثلها بتصديه للمنصب الى ايمان في وجدان الجماعة وكيانهم، لأجل ذلك فإن أي انحراف أو فساد يصدر عنه، سوف يترك تداعيات سلبية كبيرة يتعدى اثرها الوضع الشخصي إلى الوضع العام، وسوف ينجم عن ذلك تصدعات في بنية ايمان الجماعة قد لا يسهل جبرها، نتيجة فقدان الثقة.
وإذا كان لا يصح تعميم السلوكيات الفردية في الحالات العادية، إلا أن المكانة العلمائية تفترض سلوكا مختلفا نظرا لحساسية الموقع، سيما وأن المرتجى من هذا الموقع هو مخاطبة الجماعة الاسلامية، ما يعني ضرورة أن تتحمل الجماعة العلمائية (كجماعة) نتائج الآثار السلبية الناجمة عن أي اختلالات جزئية قد تلحق بهذا الموقع.
ولأن العمل القبيح من العالِم سوف ينسب الى الاسلام، لا الى فاعله، يجب تنزيه ساحة العلماء من كافة أشكال التلوث، والفساد، والانحطاط، واقتراف القبائح والسيئات.. ويجب الحذر من الاندراج في علماء السوء. إن الأعمال التي تصدر عن العلماء لها طابع عام، ما يستوجب منهم العمل على تجاوز البعد الفردي إلى البعد العام.
في المقابل، ينبغي التأكيد على الطابع الايجابي لوجود العالِم الصالح في المجتمع، ومدى التأثير الاجتماعي البالغ لأخلاقية العالم الذي يتحلى بالتهذيب، والصلاح، والتقوى، والورع، والاستقامة.. إن مجرد وجود العالم الصالح في المجتمع سوف يبعث على هداية الناس ولو لم يمارس الوعظ والارشاد.
وعليه، يتميز الموقع الذي يتصدى له العالم الديني عن سائر المواقع الأخرى من حيث خطورة المسؤوليات، وحساسية الواجبات. ويفترض أن يتحلى العلماء بنمط خاص من اللياقات في سلوكهم بحيث تتماشى مع التوقعات المفترضة فيهم. وفي هذا السياق ينبغي التنبيه على خطورة هذه المسؤولية، وضرورة التمسك بعصا الاحتياط، فإن واجبات العلماء غير واجبات الناس، وقد يحرم عليهم ما هو مباح للناس.
من جانب آخر، يمتلك الكثير من طلبة العلم تصورا خاطئا عن طبيعة الدور الموكل إليهم في أثناء تواجدهم في الحوزات، لهذا ينصرفون إلى تعلم المصطلحات، وحفظ القواعد العلمية، وتكديس المفاهيم.. وأما الجوانب الأخلاقية فتأتي في الدرجة الثانية!
هذا الخطأ يقع فيه غالبا القيّمون على العمل الحوزوي، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه من التواني والاهمال، سوف تتضاءل المعنويات وسوف يأتي يوم تخلو فيه الحوزة من المربين، وسوف لن يعود بامكان الحوزة القيام بهذه المهمة الجليلة. ان اتمام الاخلاق كان على رأس أهداف البعثة النبوية الشريفة. من هنا، لا بد أن تكون الأولوية في الحوزة للانجاز الاخلاقي على الانجاز العلمي، فلا يجوز الانهماك بالمقدمات على حساب الأهداف الأساسية، بل يجب أن يكون العلم مقدمة للأخلاق.
إن صلاح المجتمع يبتنى على صلاح الانسان، وعلى تهذيب النفس والاخلاص والصدق. إن النجاح في عملية التبليغ، والتوفيق في هداية الآخرين، يتوقفان على تربية النفس وتهذيبها. وإذا كان المرتجى من طالب العلم هو العمل على بناء الانسان وتربيته وتهذيبه.. فلا بد أن يستغل الفرص من خلال اعداد النفس اعدادا جيدا قبل مغادرة الحوزة للتبليغ. وقد تكفل الله تعالى للعلماء العاملين أن يستجيب الناس لهم، وأن يجعل القلوب تهفو إليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾.
إن مسؤولية العلماء وواجباتهم ثقيلة وجسيمة. وعلى الرغم من أن "كلكم مسؤول عن رعيته" إلا أن مسؤولية العلماء تأتي في الدرجة الأولى. إن العجز عن إصلاح النفس وعدم اكتساب الكمالات المعنوية والأخلاقية، سوف يؤدي إلى اضلال الناس، والاساءة إلى الإسلام وإلى علماء الدين. وأن يتحول طالب العلم إلى عنصر مضر للإسلام والمجتمع الإسلامي وحياة المسلمين وآخرتهم. وإذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوك بعض العلماء وسوء عمله، فمن الصعب أن تقبل توبته، ذلك أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد".
إن مهمة العلماء هي هداية المجتمع، والانقطاع الى الله تعالى في لباس خدمة الخلق، وهي مهمة الانبياء والاولياء. ذلك أن هداية انسان واحد خير مما طلعت عليه الشمس، ومن لا يستطيع إصلاح نفسه، فكيف يتسنى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟
لهذا، ينبغي ان يكون سلوك العالم في المجتمع مثاليا، وذلك من خلال تحسين السلوك مع عباد الله تعالى والنظر إليهم بعطف وحنان، واحترام العالم منهم لعلمه، وإكرام الصالح منهم لصلاحه وكذلك من كان في سبيل الهداية، والتودد إليهم، ومحادثتهم ومؤآخاتهم.. وكذلك الاقتداء بالأئمة الأطهار (ع) الذين كانوا يوضحون الكثير من المسائل عن طريق الأدعية والأعمال الصالحة.
وينبغي التنبه الى أن العلم سلاح خطير ذو حدين، ومآله إما إلى الخير وحسن العاقبة، وإما إلى الضلال وسوء العاقبة. وكلما ازداد العلم كلما ازدادت شوكة هذا السلاح وسطوته. ولهذا نجد أن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم، ذلك أن العلم إذا وقع في القلب الفاسد كان أخطر وأعظم من كل الشرور، فيجعل الظلمة أكثر عتمة، ويتحول إلى حجب ظلام، ولن يجني صاحبه سوى الحجاب والابتعاد عن الحق تعالى. فالعلم نور لا مكان له في القلوب الصدئة. ولأجل أهمية العلم، يدعو الإمام الخميني إلى تعزيز قواعد الفقاهة، وأن يصبح العلماء من أصحاب الرأي فيها.
إن المبلّغ القدوة يتجاوز الذات ويبذل العطاء والجهد والتضحية. ويعمل على توطين النفس على التضحية من أجل الإسلام، والاستعداد التام للبذل والعطاء. ولا يتوقع على عمله اجرا دنيويا، وإنما يطلب الأجر والثواب الأخروي، لأن الدنيا لا تعني له شيئا ولا قيمة لها، والأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حد.
وعلى الرغم من وعورة طريق العلم وصعوبته، وتوقفه على الجهد والاجتهاد، ولكن يوجد فرق كبير بين أن تكون عالما وأن تكون مهذبا، ولذلك ينبغي السعي إلى اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية والمعايير الآدمية: جدوا واجتهدوا لأن يكون كل واحد منكم إنسانا. فلا بد أن يضع العالم في حسبانه مفردات من قبيل ضرورة الاخلاص، وقصد القربى، والنية الخالصة لوجه الله تعالى، وكمال الانقطاع، والانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه. ذلك أن السبيل إلى ترويض النفس غير اعتيادي، وتحقيق معنى الانقطاع إلى الله تعالى يحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، وتعويد اللسان على ذكر الله ومناجاته، وتأدية العمل بعيدا عن الرياء، والانقطاع عن شياطين الإنس والجن. وأن يحذر من الموانع التي قد تحول دون بلوغ هذه الذرى، فما دام في القلب مثقال ذرة من حب الدنيا، وما دام لم ينقطع عن الدنيا ويجتنب لذائذها، وما دام يعمل لغير الله وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية.. فإن هذه العلوم لن تنفع شيئا، ولن نجني غير الوزر والويل والوبال والابتعاد عن عرش الربوبية. فلا بد من اجتناب كل ذلك في صورته الكاملة، وهي الانقطاع التام إلى الله تعالى.

إن الهدف السامي والمقدس لطالب العلم يتمثل في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها. وتاليا، إصلاح المجتمع وبنائه، وخدمة الإسلام والمسلمين. من هنا ينبغي الحذر من خطر المراوحة في المقدمات، والحث على مداومة التفكير في ثمارالأعمال ونتائج الجهود، وبذل الوسع لتحقيق الهدف الأصلي والأساس.
يرى الإمام الخميني (ره) أن ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات سوف يؤدي إلى نفوذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين، ويتسبب في عدم وضوح الرؤية، كالجهل بوظيفة عالم الدين، وواجباته، ومهامه.. وبكلمة واحدة الجهل بالهدف. فالبعض يسعى من وراء الدراسة للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملق للآخرين.. وقد لا يجني من دراسته غير جهنم، والبعد عن الله عز وجل.
فالانتساب الى الحوزة العلمية يعني قبل كل شيء التفكير بإصلاح النفس، وتهذيبها قبل النزول إلى المجتمع. والسبب في ذلك: ليتسنى له هداية الناس، ويتسنى للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقية التي يتحلى بها ويتعظوا ويصلحوا أنفسهم بالتأسي به.
ومن الضروري أن يتحلى العالم بالتواضع العلمي، ذلك أنه إذا كبرت عمامة أحدهم وطالت لحيته، فيصعب عليه - إذا لم يكن قد هذب نفسه - أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مفيدا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة، وحضور درس أحد. إن بناء الإنسان لا يتحقق بدون معلم، والإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه، والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتخذ لنفسه مرشدا وموجها لا يصبح فقيها وعالما. إن علماء الاسلام الكبار كانوا يحضرون دروس الآخرين وهم في مرحلة متقدمة من العمر، فالشيخ الطوسي (رحمه الله) كان يذهب إلى درس السيد المرتضى كتلميذ وهو في سن الثانية والخمسين، في حين كان قد صنف بعض مؤلفاته ما بين سن العشرين والثلاثين. والشيخ الأنصاري (رحمه الله)، كان يحضر - وهو أستاذ الفقه والأصول - درس الأخلاق والمعنويات لدى سيد جليل.
ومن المزايا التي تتمتع بها الحوزات العلمية وعلماء الدين؛ دعم وتأييد الناس. ومادام هذا الدعم والتأييد قائمين فمن غير الممكن سحق الحوزات والقضاء عليها أبدا. ولكن إذا ما كان علماء الدين مختلفين فيما بينهم ويسيء بعضهم لبعض، ولم يكونوا متأدبين بآداب الإسلام، فإنهم سيفقدون اعتبارهم ويخسرون ثقة الأمة بهم.
من هذا المنطلق، يجب الحذر من التقليل من أهمية البرامج التربوية والأخلاقية. ومن الأيادي الخبيثة التي تبث السموم ودعايات السوء والأفكار الخبيثة في الحوزات لكي تجردها من المعنويات والأخلاقيات، فتصوّر مثلا ارتقاء المنبر للوعظ والإرشاد على أنه يتنافى مع المكانة العلمية، غافلين عن أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان منبريا، وكان يعظ الناس ويرشدهم من على المنابر.

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1108
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29