• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : معارف قرآنية .
                          • رقم العدد : العدد الثاني والاربعون .

معارف قرآنية

معارف قرآنية

وقفات مع كلمات وآيات القرآن الكريم

إعداد هيئة التحرير

قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ الزخرف (81)

اختلف العلماء في معنى‏ إِنْ‏ في هذه الآية.

إنها شرطية والمعنى: إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم

 فعلى هذا في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ‏ أربعة أقوال:

أحدها: فأنا أوّل الجاحدين

عن ابن عباس: أنّ أعرابيّين اختصما إليه، فقال أحدهما: إنّ هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أوّل‏ العابدين الجاحدين أنّ للّه ولدا.

والثاني: فأنا أوّل من عبد الله مخالفا لقولكم.

وقال الزّجّاج: معناه: إن كنتم تزعمون للرّحمن ولدا، فأنا أوّل الموحّدين.

والثالث: فأنا أول الآنفين للّه مما قلتم. قال ابن قتيبة: يقال: عبدت من كذا، أعبد عبدا، فأنا عبد و عابد

والرابع: أنّ معنى الآية: كما أنّي لست أول عابد للّه، فكذلك ليس له ولد؛

أي لو جاز لكم أن تدعوا ذاك المحال جاز لي أن أدعي هذا المحال

وقالت جماعة آخرون: إن لفظة إِنْ‏ في الآية نافية.

فيكون المعنى: ما كان للرّحمن ولد، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له.

وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله : فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ‏  ثلاثة أوجه

الأول: فأنا أول العابدين للّه، المنزهين له عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله، وجلاله.

والثاني : أن «الْعابِدِينَ‏» من عبد بمعنى أنف والمعنى: قل لو كان للرحمن ولد فأنا أول

من أنف واستنكف عن عبادته لأن الذي يلد لا يكون إلا جسما و الجسمية تنافي الألوهية.

او انا من الآنفين المستنكفين من ذلك القول الباطل المفتري على ربنا الذي هو ادعاء الولد له.

والعرب تقول: عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضا سماعا، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه.

الوجه الثالث: أن المعنى‏ فَأَنَا اول الجاحدين النافين أن يكون للّه ولد سبحانه.

ترجيح كون  إِنْ‏ النافية لا الشرطية:

الأول: إن هذا القول جار على الأسلوب العربي، فكون إن كان بمعنى ما كان كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] أي ما كانت إلا صيحة واحدة.

الأمر الثاني: أن تنزيه اللّه عن الولد، بالعبارات التي لا إيهام فيها، هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة، كقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) [مريم: 88- 89] والآيات الكثيرة تبين أن (إن) نافية. قال تعالى(‏ وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً)[الإسراء: 111] وغير ذلك من الآيات.

وأما على القول بأن إن شرطية وأن قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ‏ جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له ألبتة في كتاب اللّه.

الأمر الثالث: هو أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية، إلا معنى محذور، لا يجوز القول به بحال، وكتاب اللّه يجب تنزيهه عن‏ حمله على معان محذورة.

- الطَّبْرِسِيُّ فِي (الْإِحْتِجَاجِ): عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ‏ «أَيْ الْجَاحِدِينَ» التَّأْوِيلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، بَاطِنُهُ مُضَادٌّ لِظَاهِرِهِ.

لفظة «بلى» لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما:

الأول- أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام، فهي نقيضة «لا»؛ لأن «لا» لنفي الإثبات، و«بلى» لنفي النفي؛

 كقوله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۖ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل (28

فهذا النفى (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) نفته لفظة «بلى» أي كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي.

وكقوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى‏ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ‏ [التغابن: 7]

وكقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى‏ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏ [سبأ: 3]

وقوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ [البقرة: 111]

 فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏ [البقرة: 112] الآية

 ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.

الثاني- أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة؛

كقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ [الأعراف: 172]

وقوله: أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‏ [يس: 81] وقوله: قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى‏ [غافر: 50]

وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب.

 أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي‏ فجوابه ب «نعم» لا ب «بلى»

من فقه الآيات والاحتمالات في قوله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا ما لَا تَفْعَلُونَ)

﴿يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعلون، كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا ما لَا تَفْعَلُونَ الصف2_3
الاحتمال الأول: نزول الآية في المنافقين، حيث كانوا يقولون بأنهم مؤمنون ولم يكونوا كذلك، فجاء الخطاب لهم .
الاحتمال الثاني: إن الآية نزلت في قوم كانوا يقولون: (إذا لقينا العدو لن نفر) ثم بعد ذلك لم يفوا، فهم وعدوا ثم فروا.
فتكون الآية ناظرةً للمستقبل -وهو خلف قولهم. هذا إذا كانت ظاهرة في خلف الوعد. ويحتمل إرادتها الكذب في الوعد فسيكون نظرها إلى الماضي، فالذم حينئذٍ على القول الذي لم يلتزموا به، وهناك ذم على الخلف اللاحق للقول.

الاحتمال الثالث: إن الآية نزلت بقوم قالوا: (لو علمنا ما هو أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها) فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا ولم يسارعوا..

الاحتمال الرابع: إن الآية نازلة في قوم قالوا: (جاهدنا وأبلينا) ولم يفعلوا.
فيكون الذم للكذب في إخبارهم.

الاحتمال الخامس: إن الآية جارية مجرى قوله تعالى ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
فيكون مفادها: إنشاء الطلب بصيغة استفهام استنكاري، وحاصله هو: (إن وعدتم بشيء فافعلوا).

وفي رواية معتبرة صحيحة عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (عِدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرَّض، وذلك قوله تعالى : ﴿يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعلون، كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا ما لَا تَفْعَلُونَ
والمتحصل: إن الإطلاق في الآية الشريفة شامل لـ(الحاضر) و(المستقبل)، وللوعد بجميع حالاته (اضمار الوفاء، اضمار الخلف، عدم الإضمار، وايضاً العلم بالوفاء، والعلم بعدم الوفاء، وعدم العلم أصلاً)، ولحالة النفاق، ومطلق أن يأمر بما لا يفعل به.

كثير من الناس يتعمدون الكذب و الخداع، فيتصرفون في الخفاء ما لا يبدونه علانية .. وليس من شك ان هؤلاء منافقون بكل ما في كلمة النفاق من معنى

ومن الناس من يقول و يعد بنية الصدق والوفاء، ولكن تعترضه ظروف فيعجز عن الوفاء على الرغم مما بذله من جهد، وهذا معذور.

 ومنهم من يقول ويعد بنية الوفاء، و لكن إذا جاء أوان العمل و تهيأت له الأسباب تراجع وألغى ارادته كسلا أو جبنا أو بخلا، وهذا مؤمن ضعيف في ارادته وأمام نفسه.

وأن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأول من النفاق و الثاني من ضعف الإرادة ووهن العزم وهو رذيلة.

إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله وأعماله. والتناقض بين القول والفعل، بين الشعار والواقع، هو من أسوأ ما يتورّط فيه المؤمن، لأنّ ذلك يضعف شخصيته في المجتمع، وثقة الآخرين به بل وثقته بنفسه لذلك حذّر للّه منه.

وَمَتاعاً لِلْمُقْوِینَ

قال تعالى : أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)

القرآن حدّثنا عن مظاهر نعم اللّه علی عباده، ومن جملتها النار.

لِلْمُقْوِینَ لیست أکثر من کلمه واحدة! ... وفّت بالتعبیر عن فوائد  عديدة

مَتاعاً أي: منفعة لِلْمُقْوِينَ‏

فالمقوین جمع مقو، أی نازل فی القواء (وهو المکان القفر) أو مجتاز بها

وعلیه قول النابغة: یا دار میه بالعلیاء فالسّند أقوت وطال علیها سالف الأمد

والمقوین أیضا من القوی وهو الجوع، وعلیه قول حاتم الطائی:

وإنی لأختار القوی طاوی الحشا  محاذرة من أن یقال لئیم

والمقوین أیضا جمع مقو، بمعنی مستمتع

وعموم الاستمتاع فی هذا المعنی الثالث، إنما یفسره الزمن وتطور الأحوال وتقدّم أسباب الحیاه والعیش.

فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ    البلد (11)

والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والقحمة: الشدة، وجعل الاعمال الصالحة: عقبة، وعملها: اقتحاما لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته.

وفي معنى َفلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ  أقوال

(أحدها) أن المعنى فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة ولا جاوزها

وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة لا كما قال سبحانه‏ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى‏ أي لم يصدق و لم يصل

وقد جاء من غير تكرار في نحو قوله:

إن تغفر اللهم تغفر جما      وأي عبد لك لا ألما         أي لم يلم بذنب

أن في الآية إشكالا وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة ؟

أجيب عنه من وجوه: إنها متكررة في المعنى لأن معنى‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا

الثاني: معنى‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ لم يقتحمها، وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى‏ فهو كتكرر ولم: نحو لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67].

(والآخر) أن يكون على وجه الدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة كما يقال لا غفر الله له ولا نجا ولا سلم والمعنى لا نجا من العقبة ولا جاوزها

(و الثالث) أن المعنى فهلا اقتحم العقبة أو أفلا اقتحم العقبة

قالوا ويدل على ذلك قوله تعالى‏ «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام.

من الحذف والاختصار في القرآن

من ذلك: أن تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه وتجعل الفعل له

كقوله تعالى: {وسئل القرية الّتي كنّا فيها} [يوسف: 82] أي سل أهلها

(وأشربوا في قلوبهم العجل) [البقرة: 93] أي حبّه.

وقوله: {بل مكر اللّيل والنّهار} [سبأ: 33] أي مكركم في الليل والنهار

ومن ذلك أن توقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، وتضمر للآخر فعله

كقوله سبحانه: {يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون (17) بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ (18)} ثم قال:{وفاكهةٍ ممّا يتخيّرون (20) ولحم طيرٍ ممّا يشتهون (21) وحورٌ عينٌ (22)} [الواقعة] والفاكهة واللحم والحور العين لا يطاف بها، وإنما أراد: ويؤتون بلحم طير.

ومثله قوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} [يونس: 71] أي: وادعوا شركاءكم.

قال الشاعر  إذا ما الغانيات برزن يوما وزجّجن الحواجب والعيونا

والعيون لا تزجّج، وإنما أراد: وزجّجن الحواجب، وكحّلن العيون.

ومن ذلك: أن يأتي بالكلام مبنيّا على أنّ له جوابا، فيحذف الجواب اختصارا لعلم المخاطب  به كقوله سبحانه: {ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى بل للّه الأمر جميعاً} [الرعد: 31] أراد: لكان هذا القرآن، فحذف.

وكذلك قوله: {ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته وأنّ اللّه رءوفٌ رحيمٌ (20)} النور

 أراد: لعذّبكم فحذف.

وقال اللّه عز وجلّ: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يسجدون (113)} [آل عمران]. فذكر أمّة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى.

ومن ذلك: حذف الكلمة والكلمتين

كقوله: {فأمّا الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم.} [آل عمران: 106] والمعنى فيقال لهم أكفرتم؟

وقال اللّه عز وجل: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً} الإسراء: 23. أي ووصّى بالوالدين.

وقال اللّه عز وجل: {كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يومٍ عاصفٍ} [إبراهيم: 18] أراد: في يوم عاصف الرّيح، فحذف، لأنّ ذكر الرّيح قد تقدّم، فكان فيه دليل

وقد يشكل الكلام ويغمض بالاختصار والإضمار

كقوله سبحانه: {إنّي لا يخاف لديّ المرسلون (10) إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوءٍ

 فإنّي غفورٌ رحيمٌ (11)} [النمل: 10، 11] لم يقع الاستثناء من المرسلين، وإنما وقع من معنى مضمر في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسلون، بل غيرهم الخائف، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف. وهذا قول الفراء، وهو يبعد.

وبعض النحويين يحمل (إلّا من ظلم) بمعنى: ولا من ظلم

ومن الاختصار: القسم بلا جواب إذا كان في الكلام بعده ما يدلّ على الجواب

كقوله عز وجل: {والنّازعات غرقاً (1) ..فالمدبّرات أمراً (5)} [النازعات: 1، 5].

 ثم قال: {يوم ترجف الرّاجفة (6)} [النازعات: 6]. ولم يأت الجواب لعلم السامع

 به، إذ كان فيما تأخّر من قوله دليل عليه، كأنّه قال: والنّازعات وكذا وكذا، لتبعثنّ، فقالوا: {أإذا كنّا عظاماً نخرةً (11)} [النازعات: 11] نبعث؟

ومنه: أن تحذف (لا) من الكلام والمعنى إثباتها

كقوله سبحانه: {تاللّه تفتأ تذكر يوسف} [يوسف: 85] أي لا تزال تذكر يوسف 

ومنه قوله: {يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا} [النساء: 176]، أي: لئلا تضلوا.

{وإنّ اللّه يمسك السّماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41]، أي: لئلا تزولا

وقوله: {كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم} [الحجرات: 2] أي: لا تحبط أعمالكم

ومن الاختصار أن تضمر لغير مذكور

كقوله جل وعز: {حتّى توارت بالحجاب} [ص: 32] يعني: الشمس، ولم يذكرها قبل ذلك

وقال: {فأثرن به نقعاً (4)} [العاديات: 4]، يعني: بالوادي

وقال: {إن كادت لتبدي به} [القصص: 10]، أي بموسى: أنه ابنها

ومن الاختصار قوله: {ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضّلالة ويريدون أن تضلّوا السّبيل (44)} [النساء: 44]. أراد: يشترون الضلالة بالهدى، فحذف (الهدى) أي يستبدلون هذا بهذا

ومن الاختصار قوله: {وتركنا عليه في الآخرين  [البقرة: 108]. أي: أبقينا له ذكرا حسنا في الآخرين، كأنه قال: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء الحسن للعلم به.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ جَمِيعَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر ٩٢ - ٩٣] ، وَقَوْلُهُ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات ٢٤] وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِين القصص ٦٥

وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن ٣٩] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ القصص ٧٨

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ

الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَوْجَهُهَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ السُّؤَالَ قِسْمَانِ

سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَأَدَاتُهُ غَالِبًا: لِمَ، وَسُؤَالُ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ وَأَدَاتُهُ غَالِبًا: هَلْ

 فَالْمُثْبَتُ هُوَ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَالْمَنْفِيُّ هُوَ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ

 وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا أَنَّ سُؤَالَهُ لَهُمُ الْمَنْصُوصُ فِي كُلِّهِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ كَقَوْلِهِ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [٣٧ ٢٤ - ٢٥]

وَقَوْلِهِ:  أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [٣٩ ٧١]  وَكَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [٦٧ ٨] وغَيْرِ ذَلِكَ

وَسُؤَالُ اللَّهِ لِلرُّسُلِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ [٥ ١٠٩] لِتَوْبِيخِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ كَسُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [٨١ ٩] لِتَوْبِيخِ قَاتِلِهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ مُتَعَدِّدَةً، فَفِي بَعْضِهَا يَسْأَلُونَ وَفِي بَعْضِهَا لَا يَسْأَلُونَ

من امثال القرآن

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ إبراهيم (18)

ضرب اللّه تعالى لأعمال الكفار مثلا في هذه الآية الكريمة كرماد اشتدت به الرياح في

يوم عاصف، أي شديد الريح، فإن تلك الريح الشديدة العاصفة تطير ذلك الرماد ولم تبق له أثرا فكذلك أعمال الكفار . وفي الآية شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقا لا يرجى معه اجتماعه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شي‏ء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة.

ووصف اليوم بالعاصف مجاز عقلي، أي عاصف ريحه، كما يقال يوم ماطر، أي سحابه.

ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثر لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعها بينهم وهو قرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.

وجملة لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى‏ شَيْ‏ءٍ بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشي‏ء منها.

وضرب أمثالا أخر في آيات أخر لأعمال الكفار بهذا المعنى كقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39]

وقوله‏ مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ‏ [آل عمران: 117] الآية إلى غير ذلك من الآيات.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1180
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 01 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12