• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : مع المبلّغين  موعظة من ربكم .... وذكّر بالقرآن (1) .
                          • رقم العدد : العدد الثالث والاربعون .

مع المبلّغين  موعظة من ربكم .... وذكّر بالقرآن (1)

مع المبلّغين  موعظة من ربكم .... وذكّر بالقرآن (1)

إعداد الشيخ سمير رحال

قال تعالى : ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل/ 125)

هناك كثير من الآيات القرآنية التي عرضت للدعوة، إلاّ أنّ هناك آية واحدة نستطيع أن نجد فيها الركائز الأساسية لأسلوب الدّعوة وطريقتها التي يلزم على الدّعاة أن يسيروا عليها، وينتهجوا نهجها وهي قوله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل/ 125)

رسمت الآية الكريمة الخط العريض لأسلوب الدعوة في القرآن، وأقوم الطرق وأحكم وسائلها، وأنجعها في هداية النفوس والكيفية التي ينبغي بها مواجهة الآخرين وإذا ما كانت تتم عن طريق العنف أو عن طريق اللين والرفق.

إن الآية تحدّد للأسلوب ثلاثة عناوين، الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن‏ والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة

والقرآن الكريم هو المصدر الذي نحاول أن نتلمّس أسلوب الدعوة في حناياه وفي آياته وتعاليمه، والمصدر الصافي الذي نتلمّس فيه حقيقة الإسلام وخطوطه العامة.

وهذا ما يستدعي الاقبال على كتاب الله وتدبّرآياته والاستفادة منه ودراسة شخصيّاته في خطي الكفر والإيمان، والخير والشرّ، والعدل والظلم، لنستهدي بهذا القرآن الكريم في مضامينه واساليبه  وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

الموعظة الحسنة

ومحل كلامنا في هذه المقالة هو الموعظة الحسنة وبيان موارد استخدام القرآن الكريم لهذا الاسلوب وتجلياته .

الموعظة الحسنة هي الأسلوب الثاني الذي أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه وحدده تعالى منهجاً لإبلاغ دين الحق والدعوة إليه إلى جانب الحكمة.

واللّه جل وعلا انزل لعباده هذا القرآن العظيم، الذي لا أعوجاج فيه؛ بل هو في كمال الاستقامة. أخرجهم به من الظلمات إلى النور. وبيّن لهم فيه العقائد، والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، منذرا من لم يعمل به، ومبشرا من عمل به.

وأخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، لقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏  [الأنعام: 115]. «صدقا» في الأخبار، و«عدلا» في الأحكام

انزله تعالى (... لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ)الكهف 2(...لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الزمر 27

والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف و تهديد. فكل إنذار إعلام، و ليس كل إعلام إنذارا.

هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين. وبشارة للمؤمنين المتقين

إذ قال في تخويف الكفرة به‏ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ‏ وقال‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) وقال في بشارته للمؤمنين: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2).

وكونه إنذارا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بيّنه في مواضع أخر كقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا  [مريم: 97] وقوله: (...لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ‏)  الأعراف2

وهل الانذار والتبشير الا بترغيب وترهيب وهل هما الا بمواعظ مؤثرة

والموعظة هي النّصح والتّذكير بالعواقب وبما يرقّ له القلب وزجر مقترن بتخويف.

وآيات اللّه وكتبه وشرائعه أعظم المواعظ:

قال تعالى ... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ  البقرة: 231

وغير ذلك من آيات تصف القرآن الكريم وما سبقه من كتب بانها موعظة او فيها ما يوعظ الانسان ويذكّره بربّه وخالقه وهدف وجوده ومآله. وكيف لا يكون كذلك وهو أصدق القول، وأبلغ الموعظة، وأحسن القصص كما عن إمامنا الصادق (عليه السلام)

وفي الرواية عن الصادق (عليه السلام) في بيان قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ‏ البقرة 121

قال (عليه السلام) يرتلون آياته ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه...

 وقال تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً  المزمل(4)

ورد في التوجيه النبوي قفوا عند عجائبه و حركوا به القلوب.

اذا لا بد من ان يكون القرآن واعظا وسبيلا ينبغي اعتماده للاتعاظ ولوعظ الآخرين.

ومهمّة المبلّغ الداعية الى الله هي تبليغ رسالات ربّه، ودوره دور المبشّر والنذير الذي يبشّر بثواب الله وينذر بعقابه، ولا شيء بعد ذلك غير الدعوة والتبليغ وتنتهي مهمّته عند ذلك لتبدأ مهمّة الآخرين في التفكير بما دعاهم إليه.

فإذا كانت مادة كلام الواعظ مؤثرة يقولها عن إيمان تام واخلاص كامل، وكان مستمعه مؤمناً بالله وبتعاليم السماء يستقبل أقوال الواعظ بحسن استماع، فإنه يقع تحت تأثيرها ويسعى لإصلاح أخلاقه وأعماله، وقد ترى من بين المستمعين من ينقلب حاله بأثر سماع نصائح الواعظ.

ولكي تؤثر مواعظ الخطيب في المستمع وتوقظ الغافلين وتحيي القلوب الميتة عليه أن يشير في موعظته إلى يوم القيامة وجزائه والعقاب الإلهي، ويورد بعض الآيات والأحاديث. 

فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ

فالقرآن فيه مواعظ الله تعالى كما عن امير المؤمنين (عليه السلام) : انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله....لذا كان القرآن الكريم اولى ما يتمسك به في الدعوة الى الله والتذكير بالله ونعمه وآلائه وبيان المسير والمسار وضرورة ملازمة الصراط المستقيم والانسان ينسى ويحتاج الى ذكرى وتذكرة ومن اولى من القرآن مذكّرا.

فالْقُرْآنِ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ كما قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ الأعراف2  أي: وليكون ذكرى للمؤمنين، يذكّرون به، ويتذكّرون به، ويكون لهم أداة تذكّر كلّما تلوه، أو قرؤوه، أو سمعوه.

وذكرى اسم يؤتى به للدلالة على معنى أو أكثر من معاني ثلاثة:

المعنى الأول: التذكير كقول اللّه عزّ وجلّ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إشارة إلى أنّ القرآن كاف للإنذار وإيقاظ المؤمنين. والقرآن يذكّر بالحقّ والواجب والنصيحة والخير والشرّ والوعد والوعيد.

المعنى الثاني: التّذكّر، كقول اللّه عزّ وجل: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ص (46) أي: تذكّر

 الدّار الآخرة دواما.

المعنى الثالث: التّذكرة ، أي: الوسيلة التي يحصل بها التذكّر.

والقرآن بالنسبة إلى المؤمنين هو ذكرى على المعاني الثلاثة.

فالقرآن ذكرى للمؤمنين خاصة لأنهم يتذكرون بالآيات والمعارف الإلهية المذكورة فيها مقام ربهم فيزيد بذلك إيمانهم وتقر بها أعينهم، وكلّ صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدّث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنّة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل اللّه هي خير موعظة و نصيحة لجميع الناس.

لماذا التذكير بالْقُرْآنِ وكيف يكون مذكِّرا؟

قال تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41):

صرف الشيء بمعنى قلّبه والتّصريف في القرآن هو تنويع أساليب الحجج والبراهين‏ والإقناعات، وتنويع أساليب الترغيب والترهيب والتربية، فالله عز وجل نوَّع في هذا القرآن الكريم ألوان الخطاب ، جعل التقرير ، وجعل التصوير ، وجعل القصة ، وجعل المثل ، وجعل الوعد والوعيد ، وجعل الأمر والنهي ، وجعل التخويف ، وجعل التبشير والإنذار ، وجعل الأخبار وسرد الآيات ، وتعداد النعم ، وتعداد النقم ،  تارة يأتي بالمثل ، وتارة يأتي بقصة ، وتارة يأتي بالوعد وأخرى بالوعيد ، وتارة يأتي بالمثل ، ويأتي بالأمر ، ويأتي بالنهي . . ألوان منوعة من الأساليب الأدبية والبلاغية في كتاب الله ليذكروا وهذا التصريف والتّنويع مراعاة لاختلاف طبائع الناس، ومستويات قدرات الفهم لديهم، واستعداداتهم للاستجابة.

والغرض من التّصريف في القرآن لِيَذَّكَّرُوا اي «ليتذكّروا» أن يكون وسيلة من الوسائل الّتي يتذكّر بها الّذين لم يستجيبوا بعد لدعوة الحقّ الرّبّانيّة.

القصص القرآني وابلغ المواعظ

قال تعالى وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ (120 هود

وقال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ يوسف[111]. أي عظة لأهل العقول.

والقصص بالفتح: الإخبار عن الماضين، والقصص بالكسر جمع قصة، وقص الخبر: حدّث به على أصح الوجوه وأصدقها، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا.

ومنه قوله تعالى على لسان ام موسى عليه السلام: (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ) القصص (11)  أى تتبعي أثره و خبره و ما آل إليه أمره. يقال: قص فلان أثر فلان فهو يقصه، إذا تتبعه، ومنه القصص للأخبار المتتبعة.

والضمير فى قصصهم يعود إلى الأنبياء الذين ذكرت أخبارهم فى القرآن الكريم كنوح وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى، ولوط، ويوسف، ويعقوب عليهم السلام وغيرهم ، وعلى رأي ان الضمير يعود إلى يوسف وأبيه وإخوته.

لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة الذين يتدبرون بعواقب الأمور التي تدلّ عليها أوائلها ومقدماتها ، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام، وآداب وهدايات...

 

 

فثمرات هذا القصص الصادق ثلاث:

الأولى: تثبيت فؤاد النبى صلى اللّه عليه وآله ومن معه من المؤمنين وتقوية ارادتهم ، فإنّ اللّه يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذي يلتّفون حوله يوما بعد يوم.

وهذا ما ينبغي للرساليين أن يواجهوه عند قراءة التاريخ الرسالي في القرآن، حيث التجربة الرسالية النبويّة.

الثانية: الموعظة، وهى الاتعاظ بمن أنزل اللّه تعالى عليهم العذاب، والاتعاظ طريق الإيمان، ومن لم يتعظ بغيره، فالبلاء فى نفسه شديد، وهذا الاتعاظ للمؤمنين أي الذين فى قلوبهم اتجاه إلى الإيمان.

الثالثة: الذكرى، أى التذكر الدائم المستمر لما نزل بالأقوام الظالمة.

هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى انّه لا ينبغي ان نعدّ قصص القرآن ملهاة او يستفاد منها لاشغال السامعين، بل هي مجموعة من احسن الدروس الحياتية في جميع المجالات.

والقرآن يكرر القصة أكثر من مرة و كل مرة يأتي بلقطة جديدة، لتعدد ما فى القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد فى القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ ينقل قصصا واقعية حقة (القصص الحق) بحسب تعبير القرآن الكريم  ليحول مفاهيمه ورسائله الى واقع لما لقصصه من دور تحفيزي ومعنوي ايجابي وتحقيق الثبات في مواجهة التحديات وتجاوز السلبيات.

وفي قصة نبي الله يوسف(ع) الكثير من العبر التي يمكن الافادة منها في مجال الدعوة الى الله تعالى مثل أن الذي قدر على إنجاء يوسف (ع)  في بلاءاته من إلقائه فى غيابة الجب ومعاناته الم الفراق ثم بلاؤه بمحنة امراة العزيز ثم وضعه فى السجن، ومن ثم التمكين له فى الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه ، وجمع شمله بأبويه فإن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز نبيّه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم و إعلاء كلمته، وإظهار دينه، وكذا نصرة اهل الدين على مدى الزمن وابدالهم بما هو خير وصلاح ونجاح بعد محن وإحن.

وتأكيدا على اهمية القصص في الوعظ والاعتبار يقول تعالى : فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ  الأعراف (176) لا للتسلية وملء أوقات الفراغ بل هي فرصة ليعيشوا تجارب الآخرين من خلال القصة ويعرفون النتائج السلبية إذا ساروا على النهج الذي سار عليه أولئك البعيدون عن الله ، من خلال دراستهم للعاقبة السيّئة التي انتهى إليها أمرهم في الماضي او النتائج الايجابية إذا ساروا على نهج  انبيائه واوليائه فيدعوهم ذلك إلى الاتعاظ والتزام الحق .

ففي آيات القرآن وقصصه مواعظ ومجال للتفكر ليحذر للناس وفيها عظة لكل احد على مدار الزمن يقول الإمام علي عليه السلام: عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين. لا يعود ما قد ولى منه، ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله كأوله.

نماذج من مواعظ القرآن الكريم

بمراجعة للآيات الصريحة في الوعظ بداية او تعقيبا  نجد ان الوعظ الالهي اما ان يكون توجيها منهجيا في كيفية استبيان الحق  بعيدا عن المؤثرات الصارفة عنه كالانفعال والحماس والحب والبغض والغوغائية ( كالهمج الرعاع اتباع كل ناعق) وغير ذلك ويدعو الى اماطتها جانبا,كما في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) سبأ 46

فالآية ارشدت الى منهج البحث في معرفة الحق فدعتهم إلى أن يتفرّقوا مثنى وفرادى، وينفصلوا عن جوّ الجماعة المؤثرة والغوغائية التي قد تكون غالبة عند الجمهور المتحمس والمنفعل ، وان يبتعدوا عن المؤثرات المبعدة عن الحق والصواب ثم التأمل  والتفكر والنظر الموضوعي الى دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به , وكذا دراسة شخصيّة لأفعاله وأقواله وسيرته العامة فيما بينهم ليبنوا على الشيء مقتضاه بعيدا عن الموقف المسبق او المبتني على اللا موضوعية في الحكم.

ومنه ما يكون وعظا عاما

كالذي كان من الانبياء عليهم السلام لأقوامهم حرصا منهم عليهم وعلى هدايتهم للحق والتوحيد والالتزام بمندرجاته

تذكر الآيات قصة هود النبي(ع) وقومه وهم عاد الأولى، نهض للدفاع عن الحق ودحض الوثنية فاخذ يدعو قومه واعظا لهم قال تعالى(.. قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ*قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ*أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الأعراف 65 _ 69

وكذا نبي الله صالح عليه السلام يدعو قومه واعظا لهم قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ*...وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ*فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ*فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} الأعراف73_79

ومما قاله النبي شعيب عليه السلام لقومه:

وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (ع) إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال بالقسط وترك الفساد في الأرض، وبشّرهم وأنذرهم وبالغ في عظتهم وهو خطيب الأنبياء كما روي عن النبي (ص).

ومما قاله واعظا لهم (...يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) وهكذا الحال في خطاب نبي الله ابراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام وسائر الرسل والنبيين عليهم السلام فهو خطاب الوعظ والتنبيه والاشفاق والسعي لعودة اقوامهم الى المسار التوحيدي والحسن الفعلي والفاعلي.

ومنه ما يكون وعظا خاصا

كوعظ نبي الله ابراهيم عليه السلام لآزر ووعظ لقمان لابنه.

ومن الوعظ الخاص أي من كان الموجه اليه الوعظ ابتداء شخصا بعينه وان كان عاما بلحاظ انه خطاب غير مباشر للعموم ما كان من وعظ نبي الله ابراهيم عليه السلام لآزر داعيا له الى التوحيد ونبذ الشرك بلسان المشفق عليه ليكون ابلغ في التأثير وادعى لتحقيق الهدف

يقول تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‏ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) ..مريم

قال صاحب الكشاف: انظر كيف رتب إبراهيم الكلام مع أبيه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعماله المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن.

ولم يصرح بأن العقاب لاحق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ ....

وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله: يا أَبَتِ‏ توسلا و استعطافا ...[1].

ألحّ إبراهيم عليه‏ السّلام على أبيه في الدّعوة إلى دين اللّه الحقّ، وإلى نبذ اتّخاذ الأوثان وعبادتها، ونوّع له أساليب الإقناع، وقدّم له الحجج والبراهين، واستعطفه واستلانه، وتخضّع له، وترفّق به، وعاشره بإحسان، ولم يقابله بما يكره.

لذا من الضروري للنبي (ع)، أو للداعية والمبلّغ بشكل عام، أن يستحضر الشخصيات الرسالية التي تمثل النموذج الأكمل في حركة الدعوة الى الله ، ليدرس أساليبها، ويستلهم روحيتها، وينتفع بتجربتها .. ومن أبرز هؤلاء إبراهيم (عليه السلام)

مواعظ لقمان لابنه

وهذا من الوعظ الخاص من حيث المتوجّه اليه ابتداءً وان كان الشأن عاما لكل ذي لبّ

قال تعالى  متحدثاً عن لقمان الحكيم (..وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

مواعظ عشرة ذكرت ضمن ستّ آيات، قد بيّنت بأسلوب رائع المسائل العقائدية وعلى رأسها الدعوة الى التوحيد ونبذ الشرك وهي قضية الانبياء الاولى ، إضافة إلى أصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية. واستطرد فى أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد فى معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، ، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه تعالى ، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.

ويستفاد من هذا الوعظ الذي اورده القرآن الكريم على لسان لقمان امور :

أولا في المضمون حيث نفهم ضرورة تقديم الاهم على المهم  او المهم على غيره فقدم  التوحيد ونبذ الشرك وهو الامر المحوري في كل جهود الانبياء الدعوية والتعريف بالله تعالى وصفاته ثم الامر بعبادته واقام الصلاة ومن ثم بيان بعض اصول الاخلاق في النفس التي لها الاثر الكبير في مواجهة الصعاب والتحديات كالصبر وكذا بيان بعض مفردات التعامل السوي مع الناس.

ثانيا : في الاسلوب حيث خاطب لقمان ابنه بلسان الاب الحاني الحريص على ولده وعلى تأديبه بما فيه صلاحه بتكرير لقمان قوله: يا بُنَيَ‏  ثلاث مرات.

ومن مواعظ القرآن الكريم

ما كان الوعظ بعد بيان اصول القواعد الحياتية  وبعض الاحكام الشرعية

ومن ذلك قوله تعالى  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ 90. وقد جاء التعبير ب (يَعِظُكُمْ) بعد جملة من المأمورات والمنهيات. وختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏  أي رجاء أن تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه فإنها جامعة باقية في نفوسكم كى تتعظوا لعلكم بذلك تحسنون التذكر لما ينفعكم، وتعملون بمقتضى ما علمكم سبحانه بما فيه رضاه سبحانه وتعالى وما فيه صلاحكم.

ومما ورد من الوعظ الالهي بعد بيان الحكم الشرعي

وبيان آثاره الايجابية ترغيبا في التزامه او بيان الآثار السلبية للتخلف عن الالتزام بها قوله تعالى : وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى‏ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ البقرة (232) البقرة

بيّن الله سبحانه  في هذه الآيات ما يجب أن تُعامَل به المطلقة المعتدة من العدل والانصاف، بأحد أمرين- متى أشرفت العدة على الانقضاء- إما إرجاع المطلقة الى عصمته بقصد الإصلاح وحسن المعشر، وهذا هو الإمساك بمعروف، واما تركها وعدم التعرض لها بسوء، مع تأديتها كل ما تستحقه عليه، وهذا هو التسريح بمعروف.

وما ذكره تعالى من أحكامه المقرونة بالترغيب والترهيب، (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). وخصص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون به، وترق معه قلوبهم و تخشع له نفوسهم. فإنّهم يتقبلون تلك الأحكام ويعملون بها طاعة للّه تعالى و رجاء لمثوبته، وهم الذين تنفعهم المواعظ و يقفون عند حدود اللّه ولا يتجاوزونها.

وفي هذه الآية دلالة واضحة على ان الايمان الصحيح لا ينفك أبدا عن الاتعاظ والعمل، وان من لا يتعظ ولا ينتفع بأوامر اللّه فليس من الايمان في شي‏ء.

ومثله في النهي عن الافك في قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) ...وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) النور

وفي الآيات توجيه  قرآني عريض يتناول كيفية مواجهة المؤمنين والمؤمنات للشائعات التي يسمعونها، والاتهامات بالزنى وأمثاله من الأفعال الشنيعة التي تمثل انتهاكا لحرمة الإنسان‏ المؤمن في عرضه .. وانه ليس للمؤمنين أن يخوضوا في ذلك بل الصواب هو :

 (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

فلا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن، و فيه تنبيه على أن المؤمن إذا سمع قالة سوء في أخيه أن يبنى الأمر فيه على ظن الخير.

وثانيا (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

تأديب آخر يوجب اللّه عليهم ان لا يتناقلوا الشائعات، أو يساعدوا على انتشارها بين صفوف المجتمع، والمعنى: هلّا وقت أن سمعتم أيها المؤمنون حديث الإفك ممن افتراه واخترعه، قلتم له على سبيل الزجر والردع والإفحام: ما يكون لنا أن نتكلم إطلاقا بهذا الحديث البالغ أقصى الدركات في الكذب والافتراء.

ثم نهى سبحانه المؤمنين من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. والقرآن كله موعظة كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ (57) [يونس‏]

فاللّه تعالى يعظكم أيها المؤمنون بهذه المواعظ والإنذارات بما يرقق قلوبكم، ويحذركم من العودة إلى الخوض في حديث الإفك، أو فيما يشبهه من أحاديث باطلة إن كنتم مؤمنين.

وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع ومحاسن‏ الآداب والمواعظ الموجهة إلى الخير، والداعية إلى الرشاد والهادية دلالة واضحة، لتتّعظوا بها وتتأدّبوا بآداب اللّه‏ وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏ بمصالح عباده وأحوالهم الظاهرة و الباطنة حَكِيمٌ‏ في أحكامه و تدابيره.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء

 (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ). المراد بالعظة هنا الأمر برد الأمانة، ولفظ نعم يشعر بأن اللّه سبحانه لا يأمر إلا بما فيه الخير و الصلاح.

وما أحسن ما رغّبكم فيه من ردّ الأمانات والحكم بالعدل! فاعملوا بما أمركم اللّه، واتّعظوا بما وعظكم به‏ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لأقوالكم‏ بَصِيراً بأعمالكم، يسمع حكمكم بالعدل والجور، ويبصر ردّكم للأمانات وخيانتكم فيها، فيجازيكم بما تستحقّون.

مثال آخر وأخير

قال تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا

 الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) البقرة

اعتبر القرآن الربا من أعظم أنواع الطغيان ومن‏ يرتكبه يكون محاربا للّه ورسوله. وهو يوجب شيوع الفساد وهدم النظام وفيه من الآثار السيئة المشومة التي تؤثر في الفرد والاجتماع.

وفعل المرابي في أخذه الربا من الأفعال التي ليس فيها الخير والنفع وهو خلاف ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة والعقل في الأفعال.

فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ‏. والموعظة: اسم لما يأمر الله سبحانه وتعالى زاجرا للناس إن خالفوا، مبينا لهم أن المصلحة فى اتباعه، ضاربا لهم الأمثال على أن فيه مصلحتهم فى معادهم ومعاشهم؛ والمعنى: من جاءته موعظة الله وبلغه من الله سبحانه وتعالى النهي عنه فعليه اتباعه والتفكير فيه والاتعاظ به، لا أن يعترض عليه، ويجعل الشريعة تبعا لهواه. فمن انزجر وترك الربا فله ما سلف من أمره وما ارتكب منه في زمن الجاهلية فلا عقاب عليه في الدنيا والآخرة ولا ضمان.

وهناك آيات كثيرة فيها موعظة من الله تعالى والغرض منها صلاح الانسان وضرورة الالتزام بمنهج الله تعالى خالق الانسان والعالم بما يصلحه .

وفي الخلاصة ينبغي الافادة من اسلوب الموعظة الحسنة وفقا لما جاء به القرآن الكريم (بالاضافة الى ما ورد من المعصومين عليهم السلام ) لانه خطاب مؤثر في الوجدان ولا يغفل عن جوانب اخرى كلطيف البيان والادلة والبرهان كما تبيّن مما اوردناه من آيات .

 

[1] تفسير الكشاف ج 3 ص 19.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=1206
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 06 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12