من دلالات موت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وآثاره
قال تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) الزمر:30
ان الموت لا يعني الفناء بل التحرر من البدن والانتقال من عالم الدنيا الى عالم الاخرة حيث الحياة الحقيقية (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (العنكبوت :64)
والخطاب موجه الى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ولجميع البشر لافادة التحقق القطعي وانهم صائرون اليه لا محالةكما قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران :185
إن الرسول (ص) ميت على أية حال، فان «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» والناس على ضروب شتى بالنسبة لموته، فمنهم من انقلب بعد موته، ومنهم من ثبت، ومنهم من أنكر موته وهو بمرأى المسلمين.
وكان لارتحال الرسول الاكرم (ص) الى ربه جملة من الدلالات والآثار تضاف الى مسألة انقطاع الوحي وكانت جملة من الاحداث الخطيرة :
الأول:كانت وفاته (صلى الله عليه واله) شهادة من الله تعالى على أن البقاء لله وحده قال تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر:30)
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء لأخته العقيلة زينب (عليها السلام):(إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)
ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صلى الله عليه واله) لأنه أكمل الخلق
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):(ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (عليه السلام)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌ آخرون)
الثاني:هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صلى الله عليه واله) فما قيمتها بدونه (صلى الله عليه واله)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):(ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه واله) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها)
(فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه واله) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه)
الثالث:انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صلى الله عليه واله)
(ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى:(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال:33)
وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي:(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)الانفال 33 فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)
ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:(قال رسول الله (صلى الله عليه واله):مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال:أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)
الرابع:انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صلى الله عليه واله) لأهل بيته:(أنتم المستضعفون بعدي)
وحصل ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) وما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)- مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى:23) ووصايا نبيه الأكرم (صلى الله عليه واله) الكثيرة.
الخامس:الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صلى الله عليه واله) في أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة والخلافة، قال تعالى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)
والآية وان كانت تشير الى واقعة معينة، وهي وقعة أحد حيث انكفأ الناس عن النبي (ص)، وما بقي معه الا قليل، منهم علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري، وقال البعض من الأصحاب: ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، وقال آخرون: لو كان محمد نبيا لم يقتل، ألحقوا بدينكم الأول.
وكلمة (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) عامة تشمل الارتداد عن الدين، والارتداد عن تأييد الحق، وترك العمل بالحق الذي أوصى به النبي (ص) ..
ولكن الآية تشير الى امور مستقبلية غير واقعة احد حيث لا وجود للنبي (ص) في عالم الدنيا والاحاديث تؤكد ذلك :
يقول خليفة الرسول علي (عليه السلام) في خطبة الوسيلة: «حتى إذا دعى الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه و آله و سلم) ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خنقة او و ميض من برقة إلى ان رجعوا على الأعقاب و انتكصوا على الأدبار وطلبوا بالأوقار وأظهروا الكتائب وفلوا الدار وغيروا آثار الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) و رغبوا عن أحكامه وبعدوا من أنواره و استبدلوا بمستخلفه بديلا اتخذوه و كانوا ظالمين و زعموا ان من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ممن اختاره الرسول عليه و آله السلام لمقامه وان مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الانصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف».
وفي صحيح البخاري، كتاب الفتن، ان رسول اللّه (ص) يقول يوم القيامة: أي ربي أصحابي .. فيقول له: لا تدري ما أحدثوا بعدك ..
وفي حديث ثان من أحاديث البخاري: انك لا تدري ما بدلوا بعدك؟. فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي ..
وقضية الامامة بلّغها رسول الله (صلى الله عليه واله) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67)
وقضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ - والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها
وقد بدأ النبي (صلى الله عليه واله) التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) حيث جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته.
ثم والى (صلى الله عليه واله) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) في غدير خم قبل وفاته (صلى الله عليه واله) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صلى الله عليه واله) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صلى الله عليه واله) لهم:قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن:(رزيّة يوم الخميس) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.
الانحراف الذي –كأي خط مائل عن الصراط المستقيم- يزداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (عليه السلام) لما بلغه موته:(لقد اوجع قلبي موت أبان) وقال (عليه السلام) في بعض أصحابه لعله زرارة او محمد بن مسلم (لولا فلان لمات فقه أبي)
من نتائج الانقلاب على وصية رسول الله (صلى الله عليه واله)
وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صلى الله عليه واله) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار كارثية وويلات عظيمة على الأمة
منها:تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:
1 تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته
2 طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه
3 ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب
ومنها:ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية.
ومنها:عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان
ومنها:تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) وقوله تعالى:(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة النبي (صلى الله عليه واله) وأهل بيته.
ومنها:انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، بعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة
ومنها:تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صلى الله عليه واله) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء)
وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صلى الله عليه واله) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (صلى الله عليه واله) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون
أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية
|