• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : أصالة الطبيعة في البحث الفلسفي الاسلامي .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

أصالة الطبيعة في البحث الفلسفي الاسلامي

 

 


أصالة الطبيعة
 في البحث الفلسفي الاسلامي


الشيخ حسن يحيى بدران

تمهيد
(1) تحدّث ابن سينا في موسوعته الفلسفية الشفاء، وفي مؤلفاته الأخرى، حول الطبيعيات، واضعا الحجر الأساس للبناء الفلسفي الذي بنى عليه كل من جاء بعده. يفصح عن ذلك، أنّ الطبيعيات كما نجدها في مؤلفات ملا صدرا الشيرازي، وكتاب عين اليقين للفيض الكاشاني، لا تكاد تشذّ عن الصورة الكلية التي رسمها الشيخ الرئيس فيها على الرغم من مرور ردح طويل من الزمن، فقد حرّر ابن سينا الصيغة الفلسفية الكاملة، ولم يخالفه من جاء بعده في كثير منها أو قليل إلا بمقدار اختلاف الرأي في داخل المسألة الواحدة.
وتحوي الطبيعيات، - كما نجدها عند ابن سينا  -، على ثمانية علوم رئيسة، يتفرع منها علوم خاضعة لمبادئها.‏
وأول هذه العلوم يختص بالأمور العامة لجميع الطبيعيات، من قبيل المادة، والصورة، والحركة، والطبيعة، والأسباب بالنهاية وغير النهاية، وتعلق الحركات بالمحركات، وإثباتها إلى محرك أول واحد غير متحرك، وغير متناهي القوة لا جسم ولا في جسم، ويشتمل عليه كتاب الكيان، أو السماع الطبيعي.
والقسم الثاني: يعرف فيه أحوال الأجسام التي هي أركان العالم، وهي السماوات، وما فيهن، والعناصر الأربعة وطبائعها وحركاتها ومواضعها، ويشتمل عليه كتاب السماء والعالم.‏
والقسم الثالث: يعرف فيه حال الكون والفساد والتوالد، والنشوء والبلى، والاستحالات مطلقاً من غير تفصيل، ويتبيَّن فيه عدد الأجسام الأولية القابلة لهذه الأحوال ولطيف الصنع الإلهي في ربط الأرضيات بالسماوات، واستيفاء الأنواع على فساد الأشخاص بالحركتين السماويتين إحداهما شرقية والأخرى غربية منحرفة عنها ومواجهة لها، كل هذا بتقدير العزيز العليم، ويشتمل عليه كتاب الكون والفساد.‏
والقسم الرابع: في الأحوال التي تعرض فيه العناصر الأربعة قبل الامتزاج لما يعرض لها من أنواع الحركات والتخلخل والتكاثف بتأثير السموات فيها فنتكلم في العلامات والشهب، والغيوم والأمطار، والرعد والبرق، والهالة وقوس قزح، والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال. ويشتمل على كتاب الآثار العلوية.‏
والقسم الخامس: يعرف فيه حال الكائنات الجمادية وما في المعادن والجبال والصخور، وعن كيفية تكوينها وعن منافعها، ويشتمل عليه كتاب المعادن.
والقسم السادس كتاب النفس، وهو يتضمن التعليم الأساسي لأرسطو، وإضافات ابن سينا وملاحظاته، كبرهنته الدقيقة على تجرد النفس وعدم فسادها، وتحليلاته للعمليات المختلفة التي تقوم بها الحواس والملكات النفسية لكي تنقل إلى العقل مواد المعرفة.‏
أما القسم السابع والثامن: فهما مخصصان لدراسة النبات والحيوان.
وبالاضافة إلى هذه العلوم الرئيسية في الطبيعيات، ثمة علوم أخرى تتفرع منها،‏ كعلم الطب، وعلم أحكام النجوم، وعلم الفراسة، وعلم التعبير، وعلم الطلسمات، وعلم النيرنجيات، وعلم الكيمياء .‏
ومن الواضح أن هذا التصنيف يضم في جعبته الطبيعيات الفلسفية إلى جانب علوم الطبيعة ذاتها. وهو متأثر بشمولية الفلسفة الحاوية لجميع العلوم الحقيقية بالمعنى الكلاسيكي القديم.
(2) شرع قدماء الفلاسفة في ترتيب نظامهم الفلسفي بالمنطق، ثم الطبيعيات، فالإلهيات. ويوحي هذا الترتيب بأولوية الفكر على ما عداه أولوية فهم وتنسيق وإدراك، فالمنطق فن، ونهج، يتوصل منه إلى سائر العلوم، فهو من علوم الوسائل. أمّا الطبيعيات والإلهيات فهي من علوم الغايات. قال في شرح الإشارات والتنبيهات: « النهج: الطريق الواضح. والنمط: ضرب من البسط. وإنما وسم أبواب المنطق بالنهج وأبواب هذين العلمين - أي الإلهي والطبيعي - بالنمط؛ لأن المنطق علم يتوصل منه إلى سائر العلوم فكانت أبوابه أنهاجا، وهذه مقصودة بذاتها فكانت أنماطا » .
وبالإضافة إلى مطلوبيتهما في أنفسهما، يحتل كل من الطبيعي والإلهي المستوى نفسه من حيث الجهد العلمي؛ وذلك لعدم خلوهما عن « انغلاق شديد، واشتباه عظيم.. والناظر فيهما يحتاج إلى مزيد تجريد للعقل، وتمييز للذهن، وتصفية للفكر، وتدقيق للنظر، وانقطاع عن الشوائب الحسيّة، وانفصال عن الوساوس العاديّة » .
بل إن للمحسوس أولوية على المعقول من جهة التعلّم؛ لكونه أقرب تناولا للإنسان وأسهل فهما، من هنا فقد جارى فلاسفة الإسلام المعلم الأول في ابتدائه « في تعليمه بالطبيعيات التي هي أقدم الأشياء بالقياس إلينا، وختم بالفلسفيات التي هي أقدمها في الوجود بالقياس إلى نفس الأمر، متدرجا في التعليم من مبادئ المحسوسات، إلى المحسوسات، ومنها إلى المعقولات » ، وذلك طلبا لسهولة التعليم.
وعليه، فالطبيعيات بحسب التصنيف الفلسفي الإسلامي هي من علوم الغايات التي تطلب لذاتها وتستدعي جهدا علميا نظرا لانغلاقها واحتياجها إلى إيغال فكري ممنهج، وهي تتساوى من هذه الجهة مع مباحث الإلهيات، وإن كانت قد تعتبر من آليات تبسيط الفهم بالنسبة إلى الإلهيات  بالنظر الثانوي، الآلي، العابر.
ولئن شهدت بدايات الفلسفة الاسلامية محاولات تأصيل متمحورة حول عالم الطبيعة، الا أنّه سرعان ما تضاءل حجم الاهتمام هذا سيما في المرحلة المتأخرة من تاريخ الفلسفة هذه، وسادت النظرة الآلية إلى الطبيعة في طيات المتون المتأخرة وإلى حد كبير. 
(3) أول ما يبحث في علم الطبيعة عن تجوهر الجسم، بمعنى تحقق حقيقته: أهو مركّب من أجزاء لا تتجزّأ، أم من المادة والصورة؟ والبحث عن الجزء الذي لا يتجزّأ هو بحث طبيعي، بينما البحث عن اثبات المادة والصورة يدخل في الإلهي، وبهذا يتداخل - ومنذ البدء - الطبيعي بالالهي، ويقوم البحث على نفي الجزء الذي لا يتجزأ لاثبات المادة والصورة، أي نفي الطبيعي لإثبات الالهي، أو فقل: نفي المحسوس لاثبات المعقول؛ كل هذا انسجاما مع قاعدة التعليم التي تقضي بتقديم الأسهل فالأسهل.
وقد قامت الطبيعيات القديمة من الناحية العلمية على اعتبار الاسطقسات الأربعة أبسط الطبائع التي تنحل إليها جميع الأجسام، ومن الناحية الفلسفية تمّ الأخذ بفكرة الطبائع البسيطة هذه مع لحاظ أن الجسم فلسفيا يؤول إلى عنصرين أساسيين: المادة والصورة. وبهذا تمّ استبعاد النظرية الذرية على الرغم من وجودها منذ القدم، حيث ذهب بعض فلاسفة اليونان، وحكماء الهند، إلى أن الجسم يتألف من أجزاء صغيرة لا تتقسم، وعرف هذا القول عن ديمقريطس (460 - 404 ق م)، وأبيقور (341 - 270 ق م) ولوكراس (98 - 55 ق م). فيما أنكره أرسطو.‏
وتبنى هذه النظرية من المسلمين أكثر علماء الكلام، أمثال أبي الهذيل العلاف (849 م)، ومعمر بن عباد (؟89 م)، وهشام الفوطي (833 م) من المعتزلة، وبعض الأشاعرة ، حيث قالوا بأنَّ الأجسام البسيطة الطباع مركّبة من أجزاء صغار لا تنقسم أصلاً، وقيل فعلاً، وقيل من أجزاء غير متناهية.‏
 وأما الطبيب الفيلسوف أبو بكر الرازي (932 م) فقد شيّد صرح مذهب ذرّي يشمل فيه التركيب الذري الهيولى والخلاء، بحيث يكون الجسم تركيباً لهذين الصنفين من الذرّات .
وفي المقابل، نفى فلاسفة الإسلام المذهب الذرّي، وتابعوا أرسطو الذي استشنع القول بالجزء الذي لا يتجزّأ، ومن هؤلاء الفارابي (950 م)، وابن سينا (1027 م)، وغيرهم من المشائين.‏ وهكذا أبطله الشيخ الرئيس في طبيعيّات الشفاء، وطبيعيّات النجاة، وطبيعيّات الإشارات والتنبيهات، وطبيعيّات عيون الحكمة، في خمس حجج مشهورة.
وثمة من يرى أن الإشراقيين، وعلى رأسهم السهروردي (ت1191 م)، قد ذهبوا إلى أن الجوهر الوحداني المتصل في حد ذاته قائم بذاته غير حال في شيء آخر لكونه متحيزاً بذاته، وهو الجسم المطلق، فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج أصلا .‏
وعبر أبو الريحان البيروني في مراسلاته المشهورة مع ابن سينا عن تعاطفه مع مذهب الجوهر الفرد . فيما خصّ أبو البركات ابن ملكا البغدادي (1152 م) في الكتاب المعتبر في الحكمة، النظرية الذرّيّة بالأرض، داحضا ذرّيّة الماء والهواء والنار. وقد عُرف بقوله بضرب من الذرية الهندسية الرياضية خلاصتها: تركب الجسم من السطوح، والسطوح من الخطوط، والخطوط من النقط. وبهذا دخل المذهب الذرّي الإسلامي في الرياضيات، فالنقطة الهندسية هي الجوهر الفرد . وبهذا الصدد يقول أبو المعالي الجويني إمام الحرمين (1085 م): إن الكرة الحقيقية إذا وضعت على سطح بسيط حقيقي فإنها إما أن تماسه بجزء منها لا ينقسم فيكون هذا هو الجوهر الفرد، وإما أن تماسه بجزء ينقسم فلا تكون كرة، بل سطحاً بسيطاً، وهو خلاف الغرض .‏
ويطالعنا الشهرستاني (1153 م) في نهاية الأقدام على فكرة الدائرة عند محاولته إثبات الجزء الذي لا يتجزأ. وهكذا شهد المشرق الإسلامي الوسيط مدرسة ذرّيّة رياضية، طبقت الفرضية الذرّيّة في حساب المتناهيات في الصغر ، كان من أبرز أعلامها نصير الدين الطوسي (1274 م)، وقطب الدين الشيرازي (1311 م)، فكان الجوهر الفرد إرهاصاً لعلم النهايات، ثم حساب التفاضل والتكامل.
وعلى الرغم من كل ذلك، نجد أن الفلسفة الإسلامية في دورها المتأخر قد تجاوزت النقد المشائي على نظرية الجوهر الفرد، وبقيت وفية للنمط الفلسفي الذي افتتحه ابن سينا في باب الطبيعيات، وأسيرة الحجج السينوية المشهورة.
(4) إنّ ما يعني الفيلسوف في بحث الطبيعيات ليس هو الطبيعيات بما هي، فهو يعترف بأن الزمن الذي كانت الفلسفة فيه تشكل وعاءا كبيرا يحوي كافة العلوم الحقيقية قد انتهى، ولم يعد هاجس الفيلسوف سيما في الأزمنة المتأخرة، كزمن الفيض الكاشاني، متعلقا بالطبيعة في ذاتها، كما لم يكن البحث عن القضايا الطبيعية هدفا أصيلا في الفلسفة. وابن سينا نفسه يتمايز بوضوح في اشتغاله على عالم الطبيعة عن اشتغاله الفلسفي في الطبيعيات ذاتها، بل إننا نكاد نزعم أن الفلاسفة الأوائل الذين ظهروا في أيونية في بدايات التفلسف البشري المعلن، من الذين تمحورت فلسفاتهم حول تفسير الطبيعة، ومصدرها، وغايتها، ما كان ذلك منهم إلاّ لإبعاد شبح الأسطورة عن التفكير البشري، والمتمحور آنذاك حول التفسيرات الخرافية لنشاط الطبيعة.
فما يشكل هاجس الفيلسوف حقا، ويؤرق خاطره في العمق، هو البحث حول مدى ارتباط الطبيعة بعالم ما بعد الطبيعة، وهو تعبير آخر عن ردم الثغرة ما بين الروح والجسد، الفكر والمادة. وهذا ما يجعل فيلسوفا مثل الفيض الكاشاني يسعى جاهدا للعثور على الثغرة الفاصلة ما بين العالمين، ومن هذه الزاوية تحديدا ينبغي أن نفهم مبررات عقد مباحث تتعلق بالعلم بالسماوات والأرض وما بينهما، وذلك في نطاق أبحاثه الفلسفية التي بثّها في طيات كتابه عين اليقين. فقد عقد الفيض قسما مهما من الجزء الأول من كتابه هذا، ومساحة كبيرة من الجزء الثاني منه للبحث عن جانب العود في سلسلة الوجود، جاعلا إياه المقصد الثاني، وذلك في مقابل جانب البدء الذي استغرق الحجم الأكبر من المقصد الأول من كتابه. وقد أفصح من قبله أستاذه الشيرازي عن هذه الحقيقة بلغة أشد وضوحا، فنجده يعنون هذا النمط من المباحث بعنوان: في النظر المختص بعلم المعاد .
إذن، يتخذ البحث الطبيعي في فلسفة الاسلاميين المتأخرين، كالفيض، طابعا توظيفيا، فهو إذ يشرع في تقسيم الجسم إلى بسيط ومركب، وتقسيم البسيط إلى فلكي وأرضي، يسعى بذلك الى التمهيد لسيره الفلسفي من عالم الطبيعة باتجاه عالم ما وراء الطبيعة. وعالم الطبيعة بحسب هذه النظرة مبتدأ: هو عالم قوابل التكوين، بخلاف عالم السماوات والافلاك الذي هو عالم بسيط تام الفعلية.
وانطلاقا من هذا التحديد، لن يتوقع الباحث في فلسفة الفيض مثلا أن يجد لديه نظريات فلسفية غير مسبوقة حول الطبيعة، والزمن، والمكان، والاسطقسات..الخ كما يفعل عادة مع فكر ابن سينا والكندي وأمثالهما، ذلك أن الفيض، شأنه في ذلك شأن أستاذه من قبل، لم يشتغل على الطبيعيات اشتغالا مستقلا، بمقدار ما استثمرها في مشروعه الفلسفي، فقد تناول علم الطبيعيات من زاوية فلسفية بحتة، واستمدّ أسسه من درس استاذه الذي تأثر بطبيعيات ابن سينا، والتي تعتبر بدورها امتدادا إسلاميا للحالة اليونانية، هذا التناول الفلسفي كان قد تجاوز مفاعيل التطورات العلمية التي كانت قد آتت أكلها آنذاك حتى لدى كثير من العلماء المسلمين أنفسهم.
ولا ضير في ذلك طالما أن ما يمكن أن يعتور النظرية من تغيرات في الرؤية الطبيعية، لن يلحق الضرر بالبنيان الفلسفي في الميتافيزيقا، ذلك أنّ الفائدة التي تعود بها العلوم الطبيعية على البحث الفلسفي، - سواء ساهمت تلك العلوم بإثبات مقدمات لبعض البراهين الفلسفية، أو ساهمت في إعداد مجالات أوسع للتحليل الفلسفي -، لا ينبغي أن تفهم على أنّها فائدة ذات طابع متأصّل في البنيان الفلسفي، كما قد يتخيل البعض.
فالبذرة التي يدّسها الفيلسوف على أرض الطبيعة لا بد أن تنمو وتثمر وتصل إلى نهاياتها، وإذا صحّ أن الغاية من المشروع الفلسفي هنا، هي إبراز الخضوع الكوني لله وامتثال الكلّ لأمره التكويني، فلا يضرّ بأصل تحقق الغاية تطرق بعض المتغيرات إلى الشكل، فالكل خاضع له؛ سواء تمثّل هذا الخضوع بصورة أجرام كريمة صافية دوريّة الحركات، دائمة الأشواق، تترشّح من حركاتها البركات والخيرات على ما دونها، بأن كان كلّ جرم سماوي حيوانا مطيعا لله - جلّ وعزّ -، متصرّفا في نظام الكون بالتدبير، متجلّيا بقدر قسطه ومرتبته بانتقاش صور الأشياء وأحوالها في لوح نفسه، ورقيم ذهنه، وكتاب عقله، أو تمثّل هذا الخضوع بصورة ذرّات مركّبة بدورها من أجزاء أصغر تخوض لجّة الوجود الطبيعي كلّه بأمر ربّها، فإنّ التنوع في تصوير الخضوع، لا يضرّ بأصل حقيقة الخضوع. كما أن للطبيعيات بصورتها القديمة فائدة ثانوية غير حصرية، وثمرة تدريبية تعليمية؛ من باب الأنس بالمحسوسات للدربة على المعقولات.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=247
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28