• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : سيرة .
                    • الموضوع : الأئمة عليهم السلام ودورهم في حفظ السنة النبوية .
                          • رقم العدد : العدد التاسع عشر .

الأئمة عليهم السلام ودورهم في حفظ السنة النبوية


الأئمة عليهم السلام ودورهم في حفظ السنة النبوية


سماحة الشيخ حسن الجواهري 

 
تمهيد : بعد أن ثبت أن القرآن الكريم قد جُمع وكُتب على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما روى ذلك عدّة من المسلمين منهم : ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن حبّان والحاكم والبيهقي والضياء المقدسي عن ابن عباس ، وروى ذلك الطبراني وابن عساكر عن الشعبي ، كما رواه قتادة عن أنس بن مالك ، وأخرج ذلك النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر(1) . وهناك عدّة أدلّة أخرى ذُكرت لذلك تُورث القطع بأنَّ القرآن قد جمع في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحيث أطلق عليه اسم الكتاب كما ورد ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين « . . . إني تاركٌ فيكم الثقلين ; كتاب الله وعترتي . . . » . والكتاب لا يطلق إلاّ على ما كان محفوظاً بين الدفتين ، ويكفيك التحدّي الذي كان في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)من قبل القرآن نفسه في الإتيان بمثله ، ولا يصح التّحدي إلاّ أن يكون القرآن مجموعاً متميّزاً في زمانه (صلى الله عليه وآله)
قال تعالى : ( قلْ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا )
أقول : بعد أن ثبت أن القرآن قد جمع في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يبق من الشريعة مما يستوجب الحفظ والاهتمام به إلاّ السنّة النبوية الشريفة ، لأن الاكتفاء بالقرآن لا يمكّننا من أن نستنبط حكماً واحداً بكل ماله من شرائط وموانع ، حيث إن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم ، وإنما هي واردة في بيان أصل التشريع كآية : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . . )  وآية : ( . . .ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا . . . )  وآية : ( . . .كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم . . .)  وآية :( واعلموا أن ما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . .)  وآية : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها . . . )  ; كل هذه الآيات الواردة في أهم أحكام الشرع من صلاة وصيام وحج وخمس وزكاة لا يمكن ان نستفيد منها حكماً محدوداً إذا تجرّدنا عن تحديدات السنّة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها
لهذا نرى انه لا يمكن أن يفهم معنى للإسلام بدون السنّة الشريفة ، لذا كان لحفظها الأثر الكبير في حفظ الإسلام
تحديد السنّة
السنّة في اللغة : الطريقة المسلوكة أو الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أم سيئة
وفي اصطلاح الفقهاء : تطلق السنّة على ما يقابل البدعة . ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة ، فإنها تطلق على ما خالف أصول الشريعة . وقد تطلق السنّة على المستحب والنافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاص، كما تطلق على ما واظب على فعله النبي(صلى الله عليه وآله) مع عدم تركه بلا عذر
وتُطلق السنّة عند الاصوليين :ـ بالاتفاق ـ على ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)من قول أو فعل أو تقرير غير ما اختصّ به (صلى الله عليه وآله) . ويدور كلامنا في هذا المقال حول دور الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) في حفظ السنّة بمفهومها عند الأصوليين
حجّية السنّة النبوية
من نافلة القول التأكيد على حجيّة السنة النبوية والتماس دليل لها ، لأنها ضرورة دينية أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن الكريم بقوله : ( . . .أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . . . )(1) ( . . .وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . . . )(2)(وما ينطق عن الهوى . إن هو إلاّ وحيٌ يوحى )(3) وقد تقدم القول منّا بأنه لا يكاد يفهم معنى للإسلام بدون السنة النبوية . ثم إن العصمة الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله) تقتضي أن تكون أقواله وأفعاله وتقريراته من قبيل التشريع أو موافقة للشريعة
اتجاهان مختلفان حول السنّة النبوية
أقول : هناك اتجاهان متفاوتان بالنسبة إلى السنّة النبوية حدثا في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته
الإتجاه الأول : ينحو لعدم الاهتمام بحفط وكتابة السنة النبوية وحتى يمنع من نشرها ، خشية أن تختلط مع القرآن الكريم ; وقد أدى هذا الاتجاه إلى صدور النهي عن كتابة الحديث(1) مثل ما حدّث به عبدا لله بن عمر حيث قال : « كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بشر يتكلّم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك للرسول (صلى الله عليه وآله) فقال : اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ حق »(2) ، كما نسبت في ذلك روايات إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)تنهى عن كتابة الحديث
ومن الجدير بالذكر تنبّه الخط المانع ( وهو الخط الحاكم آنذاك ) بعد قرن من الزمان إلى بطلان هذا الاتجاه ! فدعوا إلى كتابة الحديث وعرفوا أن القرآن لا يمكن أن يختلط مع غيره الذي لا يكون معجزاً ، ولم ينقص من الاهتمام بالقرآن نتيجة كتابة الحديث   قال السيد رشيد رضا :  « ونحن  نجزم  بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبيّنا حظّاً عظيماً لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه »(3
الإتجاه الثاني : وهناك اتجاه آخر حَفِظَ السنّة وكتبها ونشرها وتوارثها وأمر المسلمين بكتابتها . وهذا الاتجاه قام به الإمام علي (عليه السلام) ومَنْ بعده من أئمة أهل البيت الذين صرّحوا بأنّ ما يقولونه هو عبارة عن السنّة النبوية التي كانت محفوظة عندهم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وإليك نموذجاً من الأدلة على ذلك من
-      ------------------------------------------------------
  1_ كتاب الغدير، للعلاّمة الأميني: ج6 ، ص294 ـ 295 نقلاً عن تاريخ ابن كثير ج8، ص107، الروايات في كتاب تنوير الحوالك، للسيوطي: ج1 ، ص4 و مستدرك الصحيحين، للحاكم: ج1، ص102، وراجع تذكرة الحفّاظ: ج1، ص7
 2_ المدخل للفقه الإسلامي، لمحمد سلام مذكور: ص184، نقلاً عن ابن عبد البر في جامعه وأبي داود في سننه، والحاكم وغيرهم
 3_ تفسير القرآن، للإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا: ج6 ، ص288

الروايات التي تواترت في هذا الأمر المهم : أوّلاً : ما ذكره في كتاب الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال : « قلت للإمام الصادق (عليه السلام) : الحديث أسمعهُ منك أرويه عن أبيك ، أو أسمعهُ من أبيك أرويه عنك ؟ قال (عليه السلام) : سواء ; إلاّ انك ترويه عن أبي أحبُّ إلي »(1
ثانياً : ما رواه في الكافي عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمد عن عمر بن عبد العزيز عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا : « سمعنا الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عزّ وجلّ »(2
ثالثاً : ما رواه في المجالس عن الحسين بن أحمد بن ادريس عن أبيه عن محمد بن أحمد عن محمد بن علي عن عيسى بن عبدالله عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام)قال : « قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللّهم ارحم خلفائي ، قيل : يا رسول الله ومَنْ خلفاؤك ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي ثم يعلّمونها »(3
__________________________________________-
 1_ وسائل الشيعة: ج 18، باب 8 من أبواب صفات القاضي، ح11 عن الكافي
 2_ المصدر السابق: ح26
 3_ وبما أن الأئمة من أهل البيت هم خلفاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالنصّ الوارد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)فهم المقصودون في هذا الحديث وهم رواة السنّة وهم الذين يعلّمونها الناس . المصدر نفسه: حديث5، وقد ورد الحديث عن الفقيه مرسلاً وعن المجالس مسنداً بالسند المتقدم، وورد هذا الحديث بنفس المضمون في كتاب معاني الأخبار بسند آخر عن: صاحب معاني الأخبار عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن اليعقوبي عن عيسى بن عبد الله العلوي عن أبيه عن جدّه عن علي(عليه السلام) . وله أسانيد أخرى عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
رابعاً :روى محمد بن محمد بن النعمان ( الشيخ المفيد ) في المجالس عن جعفر بن محمد بن قولويه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن هارون بن مسلم عن ابن أسباط عن سيف بن عميرة عن عمر وبن شمر عن جابر قال : « قلت للإمام الباقر (عليه السلام)إذا حدثتني بحديث فأسنده لي : فقال (عليه السلام) : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى ، وكلما أحدثك بهذا الإسناد »(1
خامساً : روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإجازات ، قال : مما رويناه من كتاب الشيخ الحسن بن محبوب عن ابن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : « ليس عليكم فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي (عليه السلام) ، وليس عليكم جناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عني . ليس عليكم في هذا جناح »(2)
سادساً : روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس قال : ومما روينا من كتاب حفص بن البختري قال : « قلت للإمام الصادق (عليه السلام) نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال (عليه السلام) : ما سمعتَهُ منّي فاروِهِ عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) »(3
______________________________________________
 1_ المصدر السابق: ح67، عن مجالس المفيد
2_ المصدر السابق: ح85 عن كتاب الاجازات للسيد بن طاووس ( مخطوط ) . (3) المصدر السابق: ح86، عن كتاب الاجازات للسيد بن طاووس ( مخطوط

سابعاً : وروى في الكافي عن محمد بن يحيى عن عبدا لله بن محمد عليّ بن الحكم عن ابان بن عثمان عن عبد الله بن أبي يعفور قال : وحدّثني الحسين بن أبي  العلا انّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس ، قال : « سألت الإمام الصادق (عليه السلام)عن اختلاف الحديث يرويه مَنْ نثق به ومنهم مَنْ لا نثق به ؟ قال (عليه السلام) : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به » . وروى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم مثله(1) . والظاهر أن المراد من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصوص قوله ولو بالواسطة فلا يشمل قول غيره
ثامناً :روى في عيون الأخبار عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعاً عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله المسمعي عن أحمد بن الحسن الميثمي انه سأل الإمام الرضا (عليه السلام) يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشيء الواحد ، فقال (عليه السلام) : « . . .لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ لعلّة خوف ضرورة ، فأما أن نستحل ما حرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)أو نحرّم ما استحلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يكون ذلك أبداً ; لأنّا تابعون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)مسلِّمون له كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تابعاً لأمر ربه مسلِّماً له . وقال الله عز وجل : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(2
__________________________________________-
1_ المصدر السابق: باب 9 من أبواب صفات القاضي، ح11، فالإمام الصادق (عليه السلام)الذي يقول: بأنّ الميزان هو الشاهد من كتاب الله وقول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهو لم يرَ لقوله الذي ليس هو قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) أي ميزة
2_ المصدر السابق: ح21، عن عيون الأخبار
تاسعاً : روى محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار القمي ( المتوفى سنة 290 هـ .ق ) قال : حدّثنا احمد بن محمد عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة عن أبي المعزا عن سماعة عن أبي الحسن  الإمام الرضا (عليه السلام) ) ، قال : « قلت له : كل شيء تقول به في كتاب الله وسنته أو تقولون فيه برأيكم ؟ قال (عليه السلام) : بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنّة نبيّه 1
عاشراً : روى محمد بن الحسن الصفار القمي قال : حدّثنا احمد بن محمد عن البرقي عن صفوان عن سعيد الأعرج قال : « قلت للإمام الصادق (عليه السلام) إن من عندنا من يتفقّه ، يقولون : يرد علينا مالا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا . فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : كذبوا ، ليس شيء إلاّ جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة »(2) والظاهر أنَّ المراد بالسنة هي سنّة النبي (صلى الله عليه وآله
الحادي عشر : روى الصفار قال حدّثنا احمد بن الحسن بن علي فضّال عن أبيه عن أبي المعزا عن سماعة عن العبد الصالح ( الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ) ، قال : « سألته فقلت إن أناسا من أصحابنا قد لقَوْا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان الشيء يبتلي به بعض أصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه ، وعندهم ما يشبهه ، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟ فقال (عليه السلام) : إنه ليس بشيء إلاّ وقد جاء في الكتاب والسنة »(3) . والظاهر أن المراد بالسنّة هي سنّة النبي (صلى الله عليه وآله
الثاني عشر : روى محمد بن الحسن الصفار قال : حدّثني السندي محمد بن صفوان بن يحيى عن محمد بن حكيم عن أبي الحسن    ( موسى بن جعفر (عليه السلام) ) ، قال :« قلت له : تفقّهنا في الدين وروينا ، وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بشيء صغير ، الذي ما عندنا فيه بعينه شيء ، وعندنا ما هو يشبه مثله ، أفنفتيه بما يشبهه ؟ قال (عليه السلام) : لا ، وما لكم والقياس في ذلك ، هلك من هلك بالقياس . قال : قلت : جعلت فداك ، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يكتفون به ؟
________________________________
1_ بصائر الدرجات: ج6 ، باب 15 ، ص301 ، ح1
2_ المصدر السابق: ح2
3_ المصدر السابق: ح3
قال (عليه السلام) : أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما استغنوا به في عهده وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة . قال : قلت : ضاع منه شيء ؟ قال : لا ، هو عند أهله »(1
الثالث عشر : روى في الكافي عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال : « سمعت الإمام الصادق يقول : من خالف كتاب الله وسنّة محمد (صلى الله عليه وآله) ، فقد كفر »(2
الرابع عشر : روى الشيخ الطوسي في أماليه وروى الصفار في بصائر الدرجات وروي في ينابيع المودة ـ واللفظ للأول ـ عن أحمد بن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) عن آبائه قال : « قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي : اكتب ، أملي عليك . قال : يا نبي الله أتخاف عليّ النسيان ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : لستُ أخاف عليك النسيان وقد دعوتُ الله لك ان يحفظك ولا ينسيك ، ولكن اكتب لشركائك . قال : قلتُ ومَنْ شركائي يا نبي الله ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : الأئمة من ولدك ; بهم تُسقى أمتي الغيث ، وبهم يستجاب دعاؤهم ، وبهم يصرف الله عنهم البلاء ، وبهم تنزّل الرحمة من السماء . وأومأ إلى الحسن (عليه السلام)وقال : هذا أولهم ، وأومأ إلى الحسين (عليه السلام)وقال : الأئمة من ولده »(3
إذن كَتَبَ علي لشركائه وهم الأئمة من ولده ، فما يقولونه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وقد وردت روايات كثيرة في شأن الصحيفة التي أملاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام)وقد خطها عليّ بيده وتوارثها الأئمة (عليهم السلام) ، وهذه الروايات فيها تفصيل لما ذكر في إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) ، إذ فيها « كل حلال وحرام حتى أرش الخدش
_______________________________
1_ بصائر الدرجات: ج6 ، باب 15، ح4 ، فإذا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أتى بما يستغني به المسلمون الى يوم القيامة، ولم يفقد منه شيء، وهو عند أهله الذين لا يقيسون، وهم الأئمة(عليهم السلام)، إذن ما يقولونه هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
2_وسائل الشيعة: ج18، باب 9 من صفات القاضي، ح16 ، ولا يضرّ إرسال ابن ابي عمير عن بعض أصحابه لشهادة الشيخ الطوسي بأنه لا يُرسل الاّ عن ثقة
3_ أمالي الشيخ الطوسي: ج2 ، ص56، ط النجف 1384 هـ
منها : ما رواه الصفار قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عن سليمان بن خالد قال : « سمعت الإمام الصادق (عليه السلام)يقول : إنّ عندنا لصحيفة سبعين ( سبعون ) ذراعاً ، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)وخط عليّ (عليه السلام) بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى ارش الخدش »(1)
ومنها : قال النجاشي : أخبرنا محمد بن جعفر قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد عن محمد بن أحمد بن الحسن ، عن عبّاد بن ثابت عن أبي مريم عبد الغفار بن القاسم عن عذافر الصيرفي قال : « كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (عليه السلام)       ( الإمام الباقر ) فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر له مكرِماً ، فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر : يا بنيّ قم فأخرِج كتاب عليّ ، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ، ففتحه وجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر : هذا خطّ عليّ (عليه السلام)وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأقبل على الحكم وقال : يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة وأبو المقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (عليه السلام) »(2) .
 وقد عبّر عن هذه الصحيفة في بعض الروايات بالجامعة ; فقد روى الصفار عن أبان بن عثمان عن علي بن الحسين ( زين العابدين )(عليه السلام) عن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) قال : « إن عبد الله بن الحسن يزعم انه ليس عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، فقال (عليه السلام) : صدق ـ والله ـ عبد الله ابن الحسن ، ما عنده من العلم إلاّ ما عند الناس 
_____________________________
1_ بصائر الدرجات ج3: 142، باب 12، الأحاديث 24 حديثاً فراجع
2_ رجال النجاشي: ص255، ترجمة محمد بن عذافر
ولكن عندنا ـ والله ـ  الجامعة فيها الحلال والحرام . . . كيف يصنع عبد الله إذا جاء الناس من كل أفق ويسألونه ؟ »(1 
الخامس عشر : روي في كتاب الاختصاص عن حمزة بن يعلى عن احمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم »(2)

الخلاصة : ان كثيراً من الروايات المتقدمة مختلفة من ناحية السند في تمام الطبقات ، كما أن بعضها عن الإمام الصادق وبعضها عن الإمام الباقر وبعضها عن الإمام الرضا وبعضها عن الإمام الحسين (عليهم السلام) ، وبعضها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; فهي تورث القطع بمضمونها الذي يقول : « ان كل ما يقوله الأئمة هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; إما قد كُتِبَ عندهم بواسطة الكتب التي ورثوها عن آبائهم ، أو تعلّموه من آبائهم ورووه الى الناس لأجل ان تتضح معالم الشريعة المستفادة من القرآن الكريم وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) » . وإذا كان حديث كل إمام من الأئمة الاثني عشر ، هو عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)حسب الروايات المتقدمة فيجب التسليم لهذه الأحاديث والأخذ بها ، ولذا قال        ( الإمام ) أحمد وهو يعلّق على حديث الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه حين مرَّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الإسناد على مجنون لبرىء من جنته
ومن هذا الذي تقدم نفهم أن خطّ أهل البيت قد تحمل العبء الثقيل في نشر سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) وحفظها من الضياع في مقابل الخط الآخر ، الذي كان يرى في حفظ أو نشر السنّة النبوية اختلاط القرآن بغيره ، فصدرت النواهي عن كتابة الحديث النبوي أو نشره بين الأمة
_________________________________
1_ بصائر الدرجات ج3: ص147، باب 14، ح19
2_ بحار الأنوار: ج 26: ص28
لماذا لم يكن لروايات كتاب علي ( الجامعة ) ذكر في كتب أهل السنّة ؟
وقد يتساءَل المتسائل المنصف عن علّة عدم وجود أثر للروايات التي ترويها الشيعة ( وهي متواترة ) عن كتاب علي (عليه السلام) الذي كتبه بيده بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)والذي فيه كل حلال وحرام إلى يوم القيامة ، بل وجد ما يخالف هذه الروايات وينفيها ويثبت كتاباً لعلي (عليه السلام) صغيراً موجوداً في ذؤابة سيفه قد أملاه عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وقد ذكر هذه الروايات النافية لكتاب علي ( الجامعة ) كل من البخاري ومسلم وذكرت أيضا في مسند أحمد وفي سنن البيهقي وسنن النسائي . واليك خلاصتها كما في البخاري بحاشية السندي:
1ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن سلام قال اخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي حجيفة ، قال : « قلت لعلي : هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا ، إلاّ كتاب الله، أو فهمٌ أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة . قال : قلت فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلمٌ بكافر»(1
2ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الاعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي(رضي الله عنه) قال : « ما كتبنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) إلا القرآن وما في هذه الصحيفة . قال النبي (صلى الله عليه وآله)المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا ، فمن أحدث حدثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف . وذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل »(2
___________________
1_ صحيح البخاري: ج1، ص31 ـ 32، باب كتابة العلم
2_ المصدر السابق: ج2، ص205، باب إثم من عاهد ثم غدر
3ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة حدّثنا مطرف قال سمعت الشعبي قال سمعت أبا جحيفة قال  « سألت عليّاً(رضي الله عنه) : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ ( وقال مرة ما ليس عند الناس ؟ ) . قال : والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن إلا فهماً يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة . قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر »(1
4ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا عمر بن حفص بن غياث حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدثني ابراهيم التيمي حدّثني أبي قال :    « خطبنا علي(رضي الله عنه) على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة ، فقال : والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها ، فإذا فيها أسنان الابل ، وإذا فيها : المدينة حرم من عير الى كذا فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . واذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . وإذا فيها : مَنْ والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً »(2
5ـ وفي مسند أحمد : ـ الذي بهامشه منتخب كنز العمال ـ يقول : حدّثنا عبد الله حدّثني أبي حدّثنا هاشم بن القاسم حدّثنا شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب قال : شهدت عليّاً يقول : « . . .والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة . . . »(3) .
وفي حدود تتبعي في كتاب البخاري ومسند أحمد وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وسنن البيهقي ، فقد رأيت كل الروايات ترجع إلى ثلاثة أسناد
1_المصدر السابق: ج4، ص192 و 194، باب العاقلة
2_ المصدر السابق: ص260
3_ مسند أحمد: ج1: ص100
________________________________________
السند الأول : الذي يكون عن مطرف عن الشعبي عن ابي جحيفة
السند الثاني : الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه
السند الثالث : عن شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب
ولكن السند الأول والثاني فيهما سفيان فهما رواية واحدة لها إسناد متعددة فلا تخرج عن الخبر الواحد . ورواية الإمام احمد هي رواية ثانية لأنَّ سندها يختلف عمّا سبقها ، وفي هاتين الروايتين من لم يوثَّق أو مجهول فلا تصلح لأن تكون حجّة ; فأبو جحيفة وهو وهب بن عبد الله السوالي لم يوثّق في الكتب التي رجعت إليها وكذا الشعبي الذي هو عامر بن شرحبيل رغم عدِّه من الفقهاء  وأما إبراهيم التيمي فهو لم يذكر في كتب الرجال التي رجعت إليها ، وكذا لم يوثق كل من شريك وطارق بن شهاب ، ولم أجد لمخارق ذكراً في الكتب التي رجعت إليها أيضا .
 ومع هذا فقد يدور في الذهن عدم صحة الروايات المتقدمة في وجود كتاب لعلّي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة حتى ارش الخدش
والجواب
1ـ بعد الإغماض عن سند الروايتين المتقدمتين اللتين فيهما من لم يوثَّق والمجهول ، فان لسانهما وأمثالهما من الروايات التي فيها يمين مغلظة على النفي يدلّ على أن هناك حديثاً حول كتاب خُصّ به علي ( فيه أحكام الدين وقواعده ) دون بقية المسلمين وكان مشهوراً ، الأمر الذي دعا بعض المسلمين إلى السؤال عن هذا الكتاب ( الجامعة ) فنفى هذه الروايات باليمين المغلّظة
انظر إلى اليمين : « والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة . . . » « والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن . . . وما في الصحيفة . . . » وفي رواية : « من زعم ان عندنا شيء نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب
وانظر إلى السؤال عن أبي جحيفة « هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا » فهو يدلّ على وجود حديث حول كتاب قد خُصّ به علي (عليه السلام) . وحينئذ يتوجه السؤال لمن روَوْا هذه الروايات فقط فيقال لهم : ما هي تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي يُدّعى أن عليّاً (عليه السلام) قد كذبها في هذه الروايات كما يدّعي شرّاح الروايات من أبناء السُّنة.
2 ـ ثم لو تنزلنا عمّا تقدم ، يكون أمامَنا طائفتان من الروايات
الأولى : تزعم أن هناك كتاباً خُصّ به علي والأئمة من ولده دون بقية الناس ( وهي متواترة كما تقدم)
الثانية : تزعم نفي ذلك . فما علينا إلاّ أن نقول : إن الروايات المتواترة توجب علماً بالصدور عن النبي (صلى الله عليه وآله)بخلاف الروايات غير المتواترة فانها لا توجب علماً بالصدور وحينئذ يتعيّن الأخذ بالعلم وترك غير العلم عند التعارض
أما عدم ذكر الروايات المتواترة في كتب بعض المسلمين ( أهل السنّة ) فهو لا يدل على عدم صدورها ولا يقلل من العلم الحاصل من التواتر
3ـ وأما سرّ ترك كتب السنّة للروايات المتواترة ( التي تصرّح بوجود كتاب خصّ النبي (صلى الله عليه وآله) به عليّاً دون بقية الناس فيه كل حلال وحرام إلى يوم القيامة ) فهو الجوّ الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ضدّ أهل البيت وضدّ عليّ بحيث جعل سبّ عليّ سُنّة تعبّد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أكثر من أربعين سنة ، فكُتمت فضائل أهل البيت وعليّ ووضعت فضائل لغيرهم ممن تسلّم الحكم من قبل مَنْ يهوى الأمويين والعباسيين . وهذا الجوّ الذي ساد في ذلك الزمان أوجب أن توضع روايات لتغيير ما كان مسموعاً ومألوفاً في حق أهل البيت (عليهم السلام) وتبعدهم عن الساحة السياسية ، كما حدث في زمان معاوية ، خصوصاً إذا علمنا أن مرحلة تدوين الحديث حصلت في تلك الأجواء المعادية لعليّ (عليه السلام) وأهل بيته
 وبهذا يتضح سرّ عدم ذكر الروايات( القائلة بأنَّ كتاباً أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)وخطّه علي بيمينه بتفاصيلها المتقدمة ) في كتب أهل السّنة ووجدت متواترة في كتب الشيعة الامامية . والظاهر أن هذه الروايات كرواية عكرمة ومقاتل ( في شأن نزول آية التطهير ) حيث كان عكرمة ينادي في السوق(1)
 و يقول : « من شاء باهلته أنها نزلت في نساء النبي (صلى الله عليه وآله)خاصة » أو يقول : « ليس بالذي تذهبون إليه ، إنّما هو نِساء النبي (صلى الله عليه وآله) »(2
على أن هذه الروايات التي تذكر كتاب علي ( الجامعة ) لو لم تتم فرضاً فيكفينا الروايات الأخرى الكثيرة والمتواترة أيضا القائلة بأنَّ الأئمة (عليهم السلام) يروون سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)عن آبائهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
2ـ الأئمة (عليهم السلام) وتشريع الأحكام
وبعد ان اتّضح خط أهل البيت في حفظ السنّة النبوية ونشرها يبقى علينا أن نبحث الروايات الواردة في كون الأئمة مشرّعين لنرى مدى انسجامها مع الروايات المتقدمة أو عدم انسجامها ، ولكن قبل ذلك لابدّ من بيان
1ـ معنى تشريع الحكم
2ـ تفويض الأمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله
3ـ روايات التفويض الى الأئمة (عليهم السلام
_______________________
1_ الواحدي، أسباب النزول: ص268
2_ الدرّ المنثور : ج5، ص198. وعكرمة: خارجي معاد لعليّ، ومقاتل: خارجي معاد لعليّ . راجع ترجمتهما في ميزان الذهبي، وكان مقاتل يقول لأبي جعفر المنصور: « انظر ما يمكن أن أحدثه فيك حتى أحدثه . . . »
1 ـ معنى تشريع الحكم
ان الأحكام الشرعية يمكن تقسيمها الى قسمين
أ ـ الأحكام الواقعية
ب ـ الأحكام الحكومتية
أما الأحكام الواقعية : فهي الأحكام التي شرّعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم وجاء فيها الأثر القائل : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة
وهذه الأحكام الواقعية تنقسم الى قسمين
أولاً : الأحكام الواقعية الأولية
ثانياً : الأحكام الواقعية الثانوية
أما الأحكام الواقعية الأولية : فيراد بها الأحكام المجعولة للشيء أولاً وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض أخر مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلّية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية ، وما إلى ذلك من أحكام واقعية تكليفية أو وضعية
وأما الأحكام الواقعية الثانوية : فيراد بها ما يجعل للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير الحكم الأولي ; فالصوم اذا كان مضرّاً بالمكلف ينقلب حكمه إلى الحرمة أو عدم الوجوب ، وشرب الماء اذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجباً ، والنوم في النهار اذا كان فيه خيانة للجيش الإسلامي يكون محرّماً ، وشرب الخمر إذا كان لإنقاذ النفس من الموت يكون واجباً ، وهكذا أكثر الأحكام الأولية إذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدّل واقعها وحكمها الأولي إلى حكم ثانوي . وهذه الأحكام هي أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية ، لا تتغيّر ولا تتبدّل الى يوم القيامة . فاذا ثبت ان هناك تشريعاً من النبي (صلى الله عليه وآله) ( كما هو ثابت ) فهو في هذه الأحكام ، وكذا ما يقال عن تشريع الإمام المعصوم
أما الأحكام الحكومتية : فهي الأحكام التي ترك الإسلام مهمة ملئها إلى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الإسلامية ، سواء كان ولي الأمر هو النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام المعصوم أو الفقيه الذي تصدّى لإقامة دولة إسلامية ونجح في ذلك ، وحينئذ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومتية ( تمييزاً لها عن الاحكام الشرعية الواقعية ) حسب المصلحة التي تتطلبها الدولة أو المجتمع الاسلامي في كل زمان .
 وهذه الأحكام
1ـ ليست لها صفة الثبوت الى الأبد ، بل هي أحكام متحرّكة مؤقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر ، لأنها ليست أحكاماً صدرت من ولي الأمر بما انّه مبلِّغ للأحكام العامة الثابتة ، بل صدرت من ولي الأمر بما انّه حاكم وولي على المسلمين
2ـ كما أن هذه الأحكام لا توجد إلاّ على أساس وجود جهاز حاكم يتولى شؤون الدولة الإسلامية ، فيمنح هذه الصلاحية في إيجاد أحكام حكومتية بما تفرضه المصالح والأهداف الإسلامية حسب الظروف التي تعيشها الدولة الإسلامية
3ـ وهذه الأحكام تغطي حاجة تطور علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن والتي قد تكون مهدِّدة للعدالة الاجتماعية ان لم تكن هناك احكام متحركة يفرضها ولي الأمر ; فمثلاً هناك الحكم القائل : « بأنّ من سبق إلى معدن فهو أحق به » قد صدر في زمان كان النصّ فيه حكماً عادلاً ، لأن من الظلم أن يساوي بين السابق إلى المعدن وغير السابق ، إلاّ أنّ قدرات الانسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة ، أما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلّة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن فقد يؤدي الأمرُ إلى تزعزع العدالة الاجتماعية في الدولة الإسلامية . لهذا جعل الإسلام لولي الأمر صلاحية أن يُشرِّع في منطقة الفراغ ـ التي سنحددها ـ أحكاماً حكومتية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق : « من سبق الى معدن فهو أحق به » . وهكذا نقول في ما شرّعه الاسلام من حرمة احتكار اُمور معينة في صدر الاسلام ( من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح ) ، اما في زماننا هذا فيمكن لجماعة قد اُتيحت لها قدرة مالية معينة ان تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الاسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخيّل بموازين العدالة الاجتماعية ، فيتمكن ولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الاسمنت ويعاقب عليه ، حتى تتمكن الدولة من تنظيم اُمور المسلمين. قال تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . . . )   ( المائدة: 90
حدود منطقة الفراغ
اما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعياً بطبيعته ، فيحق لولي الأمر إعطاؤه حكماً بالوجوب أو الحرمة ، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء الى يوم القيامة ، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع ، فقد يُغيَّر بعد مدّة من الوقت أو يُرفَع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة
المشرِّع هو الله سبحانه وتعالى
إن المشرِّع الأول هو الله سبحانه وتعالى ، ويكون دور النبي (صلى الله عليه وآله) تبليغ ما شرّعه الله ووصل إليه عن طريق الوحي إلى الناس . وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ،   وقد ذكرت ذلك الآية القرآنية القائلة :   ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى )(2) ، والنطق في الآية مطلق ورد عليه النفي ، ومقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه (صلى الله عليه وآله) ولكن بقرينة خطابه للمشركين وهم يرمونه ـ في تشريعاته والقرآن الذي يقرؤه على العباد على انه من الله ـ بأنه كاذب متقوّل مفتر على الله سبحانه . . . الخ ، كان المراد بقرينة المقام انه (صلى الله عليه وآله) ما ينطق عن الهوى فيما يقول من أمر الشريعة         ( القرآن والأحكام ) بل هو وحيٌّ يوحى إليه من الله سبحانه.
2ـ تفويض الأمر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله
هناك روايات فوّضت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الخلق ليسوس الناس والاُمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد الله سبحانه ، قال تعالى :( أطيعوا الله واطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم . . . ) ، وفوّض الله سبحانه الى رسول الله (صلى الله عليه وآله ) أمر الدين في ناحية خاصة وفي منطقة فراغ معينة ليملأها بنفسه فملأها (صلى الله عليه وآله) وأقرّه الله سبحانه وتعالى على ذلك ، وقال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ; فمثلاً ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله)سأل ربّه في ان يخفف جَعْلَ عدد الصلاة على امته ، فجعلها خمس صلوات ثم فوّض اليه أن يزيد عليها ، فزاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقره الله عليها . وكما ورد في حرمة الخمر : ( . . . انّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان . . . )(1) وفوّض الى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يزيد فحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل مسكر وأقرّه الله تعالى عليه : وهذا التفويض من قبل الله سبحانه وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله)هو في دائرة خاصة فملأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه ; فما دلّ عليه الدليل بان الله سبحانه قد فوّض الأمر فيه الى النبي (صلى الله عليه وآله) وأقرّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الأحكام التي ترجع فى النهاية إلى مشرِّعية الله تعالى بعد إقراره عليه
واليك بعض الروايات الدالة على ذلك
1ـ صحيحة الفضيل بن يسار ، فقد روى الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن الفضيل بن يسار قال : « سمعتُ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : انّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : إنّك لعلى خلق عظيم ، ثم فوّض اليه أمر الدين والاُمّة ليسوس عباده فقال عزّوجلّ : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وان رسول الله (صلى الله عليه وآله)كان مسدداً وموفّقاً مؤيّداً بروح القدس ، لا يزلُّ ولا يخطىء في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم انّ الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات ، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عزوجلّ له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة . ثم سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مِثْلَي الفريضة ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك . والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدُّ بركعة مكان الوتر . وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان ، وسنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)صوم شعبان وثلاثة أيّام في كل شهر مِثْلَي الفريضة ، فأجاز الله له ذلك . وحرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسكر من كل شراب ، فأجاز الله له ذلك كلّه . وعاف رسول الله (صلى الله عليه وآله)أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخصّ فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ، ولم يرخّص لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم ; فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه  نهي حرام لم يرخّص فيه لأحد ، ولم يرخّص رسول الله (صلى الله عليه وآله)لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما الى ما فرض الله عزّ وجلّ ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر ، وليس لأحد أن يرخّص [ شيئا ] مالم يرخّصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! فوافق أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الله عزّ وجلّ ونهيه نهي الله عزّ وجلّ ووجب على العباد التسليم له كالتسلم لله تبارك وتعالى »(1
2ـ عن زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : « وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ديّة العين وديّة النفس، وحرّم النبيذ وكل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله(صلى الله عليه وآله)من غير أن يكون جاء فيه شيء ؟ قال (عليه السلام) نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه»(2) .
 وهناك روايات أخرى تؤدي نفس المضمون المتقدم في نفس المصدر المذكور .
 إذن تلخص لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله
1ـ مبلِّغ عن الله سبحانه ما شرَّعه الله للناس عن طريق الوحي
2ـ حاكم على الناس
3ـ مشرِّع لأحكام خاصة ( وهي التي فوّض الله فيها أمر التشريع الى النبي (صلى الله عليه وآله) في دائرة خاصة وملأها النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه وأقرّه الله عليها
 )
3ـ روايات التفويض إلى الأئمة (عليهم السلام
وهناك روايات تقول : إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أعطى ما فوّضه الله إليه الى الأئمة (عليهم السلام)أو إلى علي (عليه السلام) ، وهي عبارة عن خمس روايات أربع منها غير حجّة(3) وواحدة لها الحجة، باب التفويض إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) والى الأئمة، تجد الرواية الأولى هي المعتبرة بسندها الثاني، وأما الرواية الثانية فضعيفة بابن أشيم، والرواية الثامنة فيها محمد بن سنان فهي ضعيفة، والرواية التاسعة فيها الحسن بن زياد ومحمد بن الحسن الميثمي وهما لم يوثقا، والرواية العاشرة مرسلة
____________________________
1_ أصول الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب التفويض إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) والى الأئمة، ح4
2_ المصدر السابق: ح7
3_ لأنّها بين مرسل أو مسند في بعض رجال سنده ضعف أو جهالة . راجع الروايات في اصول الكافي: ج1، ص265
سند معتبر عن الإمام الباقر (عليه السلام) : وهي : روى الشيخ الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي إسحاق قال : « سمعت الإمام الباقر (عليه السلام) يقول : إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه على محبته ، فقال : ( وانك لعلى خلق عظيم ) ثم فوّض إليه فقال عزّ وجلّ : وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال عزّ وجلّ : مَنْ يطع الرسول فقد أطاع الله . قال : ثم قال : وإن نبي الله فوّض إلى عليّ وائتمنه ، فسلّمتم وحجد الناس ، فوالله لنحبّكم أن تقولوا اذا قلنا ، وان تصمتوا إذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله عزّ وجلّ ، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا »(1)
وهذه الرواية ظاهرة في إعطاء الولاية والحكومة إلى الأئمة ، حيث يقول إلى بعض أصحابه : « فسلّمتم وجحد الناس » . ونحن نعلم أن الذي جحده الناس هو الحكومة والولاية . أما رواية الأئمة عن النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يجحدها الناس . ثم لو تنزلنا وقلنا إن هذه الرواية مطلقة شاملة لإعطاء الولاية وحق التشريع ، فلابدّ من تخصيصها
1ـ بطائفة الروايات المتقدمة القائلة على لسان الأئمة (عليهم السلام) « كل ما أحدثك هو عن رسول الله(صلى الله عليه وآله 
2ـ والروايات القائلة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أملى على عليّ وكتب لشركائه كل شيء من حلال وحرام حتى ارش الخدش ; ومعنى ذلك ان كل أحكام الإسلام قد أملاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليّ وشركائه ، فلا حاجة الى تشريع من قبل الائمة (عليهم السلام) . وقد ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : « ما من شيء يقربكم الى الجنة ويبعدكم من النار إلاّ أمرتكم به
1_ المصدر السابق : ح1
3ـ والآية القرآنية التي نزلت في حجّة الوداع . ( . . .اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . . .) (المائدة: 3) ، فقد تم الدين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) فلا حاجة إلى مشرِّع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وحينئذ يكون معنى روايات التفويض إلى الأئمة (عليهم السلام) ناظرة الى الحكومة وتبليغ الأحكام وحفظها .
 ومما يؤيد هذا هو استبعاد أن يكون أمر عظيم الأهمية ( كحق التشريع للائمة عليهم السلام) ) في حياة المسلمين وفي مسيرتهم قد دلّ عليه خبر واحد ، بل لابدّ ان يكون مبيّناً بالدليل الواضح ( كالدليل على حاكميتهم في الخلافة العامة مثلاً ) الواصل بحيث لا يكون فيه غموض ولا إبهام فيكون مَنْ خالف قد خالف عن بيّنة .
 بقي علينا أن نجيب عن سؤال قد يوجّه إلينا وهو : لماذا فوّض النبي (صلى الله عليه وآله) أمر الحكم والتبليغ إلى الأئمة (عليهم السلام)دون غيرهم ؟
الجواب : إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، فيما يرجع إلى أمور الشريعة بالاتفاق لأنه ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ) ، ومع هذا نتمكن ان نجيب على ذلك من باب حكمة هذا التفويض الى الأئمة دون غيرهم ، إذ نقول : يمكن أن تكون الحكمة هي عصمة هؤلاء الأئمة دون غيرهم ; فهم الأجدر بتحمّل مسؤولية التبليغ لأحكام الله وحفظها من الضياع ، وهم الأجدر بحكومة الناس ـ من حيث عصمتهم من الوقوع في الخطأ أو الاشتباه أو النسيان ـ في تطبيق أحكام الله تعالى . وقد أثبت لنا التاريخ أنهم الأجدر في حفظ سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) حيث مُنع من كتابة وحفظ الحديث في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)وبعد وفاته كما تقدم ذلك ، فان قريش ( ومَنْ تسلّم الحكم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ) قد منعوا من كتابة الحديث بحجّة خشية اختلاطه مع القرآن الكريم ! ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله)والأئمة من بعده هم الذين حفظوا حديث رسول الله وكتبوه وتوارثوه ونشروه كما دلّت على ذلك الروايات المتقدمة
خطأ فظيع
قد ينسب بعضٌ إلى الامامية القول : إنهم يقولون بأن الأئمة (عليهم السلام)مشرّعون
أقول : وهذا من الخطأ بمكان ، لأن مسألة ما يوهم تشريع الأئمة للأحكام الشرعية قد ورد فيها ( كما تقدم ) أخبار آحاد لم يسلم من عدم الحجّية إلا رواية واحدة كانت ظاهرة في تفويض أمر الخلق الى الأئمة ليسوسوا الناس بالحق ، ومع التنزل وافتراض إطلاقها لتفويض أمر الدين والخلق ، فبناء على حجية خبر الواحد الثقة ( وهو الصحيح ) تمكنّا ان نجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة التي أوجبت القطع بكون الأئمة (عليهم السلام) رواة وحفظة للسُّنة النبوية ، فكانت النتيجة هي : أن الأئمة قد فوّض إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم على الأمة والتبليغ لأحكام الشريعة التي تمَّت زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا رأي نلتزم به والتزمناه وكتبناه في كتابنا الحلال والحرام في الإسلام
وهناك من علماء الامامية من ذهب الى عدم حجيّة خبر الواحد منهم
ـ نُسب الى السيد المرتضى وأتباعه بان الخبر الواحد إذا كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فهو حجّة ويجوز العمل به وإلا فلا 1
2ـ نُسب إلى المحقق الحلّي بان الخبر الواحد إن عمل به المشهور فهو حجّة وان كان ضعيف السند، وان لم يعمل به المشهور فليس بحجة وان كان صحيح السند
3ـ نُسب إلى صاحب المدارك وغيره بان الخبر الواحد إن كان رجال سنده عدولاً اُخذ به وإلا فلا وان كان رجال سنده من الثقات . وحينئذ : فعلى هذه المسالك الثلاثة لا يكون الخبر الواحد بما انه خبر واحد حجّة . إذن لا يمكن ولا يصح ان ينسب إلى الطائفة الامامية اعتقادها بتشريع الأئمة للأحكام الشرعية  الواقعية ( الأولية والثانوية ) وانه أمرٌ مجمع عليه ، فان هذا من الخطأ الفظيع ، إضافة إلى أنّ خبر الواحد في المسائل العقائدية ليس حجة بالاتفاق فتنبه
الفرق بين الأئمة (عليهم السلام) وغيرهم كأئمة المذاهب والرواة
ذكرنا فرقاً بين الأئمة من أهل البيت وغيرهم أدى توجيه إعطاء ولاية الحكم والتبليغ إلى الأئمة دون غيرهم بعد زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) . أما هنا فنريد بيان فرق آخر بعد التسليم بإعطاء ولاية التبليغ إليهم دون غيرهم ; إذ ليس المراد بإعطاء ولاية التبليغ لهم دون غيرهم هو حرمة ان يكون المكلف مبلغاً لأحكام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن طريق نشرها بين الناس ، فان هذا أمر لا يمكن ان يلتزم به أحد ، بل المراد هو إعطاء الولاية في التبليغ لهم ( مع ضم عصمتهم التي أوجبت أو سوغت ذلك ) هو الاطمئنان بعدم امكان تطرق الريب إليهم في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) . ولذا قال الامام أحمد وهو يعلّق على حديث الإمام الرضا (عليه السلام)المعروف بـ « سلسلة الذهب » عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين مرّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الإسناد على مجنون لبرىء من جنته »(1) . وحينئذ يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قد تلقى الوحي من السماء ، بينما يتلقّى الأئمة (عليهم السلام)ما يوحى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله)عن طريقه (صلى الله عليه وآله) ، وهم منفردون بمعرفة جميع الأحكام ( كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك ) .
________________________________________
1_ الأصول العامة للفقه المقارن: ص181 نقلاً عن الصواعق المحرقة: ص203 . وسند الحديث وأصل الحديث هو: حينما وصل الإمام الرضا(عليه السلام) الى نيسابور وقد خرج إليه العلماء يستقبلونه، فلما صاروا الى المربعة تعلقوا بلجام بغلته الشهباء وقالوا: يا ابن رسول الله حدّثنا بحقّ آبائك الطاهرين حديثاً عن آبائك صلوات الله عليهم أجمعين، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز فقال: « حدّثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنّة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن الله تقدست أسماؤه وجلّ وجهه: « إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصاً بها انه دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي . . . » . بحار الأنوار ج49: ص120 وما بعدها عن كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام
ولذا اشتهر في زمان الخليفة عمر بن الخطاب قوله : « لولا عليّ لهلك عمر » . وقوله « معضلة وليس لها ابو الحسن » ، حينما ترد المعضلة ولا يجد الحلّ الصحيح لها . وعلى هذا فسيكون قولهم (عليهم السلام) حجّة يجب الأخذ به ، ويكون ما ذكره الأئمة (عليهم السلام) من قواعد وطرق استنباط وترجيح للتعارض بين الأخبار وما إلى ذلك لا يعدوا أن تكون من تعاليم الإسلام نفسه قد وصلت إلى الأئمة (عليهم السلام)عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله) ، بينما يكون دور أئمة المذاهب أو غيرهم من المجتهدين هو الاجتهاد في كل ما يأتون به من أحكام ، فقد يصيبون كما قد يخطِئون ، فليسوا هم مصدراً من مصادر التشريع ، 2ولذا لا يكون قولهم حجّة على المجتهدين الآخرين ، كما يمكن النظر فيما يأتون به من أصل الاستنباط للحكم الشرعي فلا يكون حجّة على الغير
واما فرق الائمة (عليهم السلام) عن غيرهم من الرواة فهو في عصمة الأئمة التي دلّ عليها الدليل، بخلاف غيرهم الذي يكون في معرض الخطأ والنسيان وان كانوا عدولاً، كما ان احتمال الدس والكذب بسبب الأهواء يكون موجوداً اذا لم يكونوا عدولاً
وعلى ما تقدم : فلا يمكن أن نسمي الشيعة الامامية مذهباً في مقابل بقية المذاهب ، لأن ما يأتي به أئمة الشيعة ليس رأياً لهم وإنما هو تعبير عن واقع الإسلام من أصفى منابعه ; فقد ذكر المحدّث أبو جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار القمي ( المتوفى سنة 290 هـ . ق ) قال : « حدّثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميره عن أبي المعزا عن أبي الحسن ( الرضا (عليه السلام) ) قال : « قلت له : كل شيء تقول به في كتاب الله وسنّته ، أو تقولون فيه برأيكم ؟ قال (عليه السلام) : بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيّه »(1) .
 ويتفرع على ما تقدم كون المجتهد من الشيعة الامامية إنْ اجتهد في ضمن إطار الإسلام فقد يخطئ وقد يصيب كالأئمة المجتهدين الأربعة ( أبي حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل ومالك.
1_ بصائر الدرجات: ج6، ص7، الباب 15، ح1
وبهذا ينتهي الأمر إلى أن كل ما يقوله الأئمة (عليهم السلام)هو من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكون المشرِّع الوحيد للدين الاسلامي الحنيف هو الله سبحانه وما فوضه الله الى نبيّه الكريم وشرعه النبي وأقره الله تعالى عليه ، فاذا اضفنا الى دور الأئمة (عليهم السلام) فى حفظ السنة النبوية حصانتهم من الانحراف كما تبينه عدة أدلة ومنها الواقع الخارجي الذي كان عليه الأئمة (عليهم السلام) من سيرتهم المثلى التي يقتدي بها المسلمون من دون نكير ، يتبيّن لنا عظمة التشريع الإسلامي الحنيف الذي حفظ المصدرين الأساسيين للتشريع من ألاعيب اللاعبين ، وهذا هو سر خلود الشريعة الإسلامية وتفوقها على كل تشريع آخر ، ومعنى: أني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا . وبهذا ينحل ما يتخيل من التضاد بين الحديث المشهور بل المتواتر : « إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . . . . » وبين حديث :« إني مخلف فيكم كتاب الله وسنّتي . . . » بناءً على صحة سند الحديث الثاني وصدوره . فسلام الله على نبيه الأكرم حين ولد وحين توفى وحين يبعث حيا .


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=330
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 01 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28