• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : لماذا تكرر التعبير بـ( من يشاء ) و ( كيف يشاء ) في القرآن الكريم .

لماذا تكرر التعبير بـ( من يشاء ) و ( كيف يشاء ) في القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا تكرر التعبير بـ( من يشاء ) و ( كيف يشاء ) في القرآن الكريم ؟

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )[1

لماذا تكرر التعبير بـ( من يشاء ) و ( كيف يشاء ) في القرآن الكريم ؟

قد يتوهم متوهم أن كلمة (من يشاء) تستبطن في داخلها الانفلات , أو الفوضوية، أو اللاملاكات واللاضوابط واللاحدود، ولا أي شيء من هذا القبيل

فمثلًا قد تسأل شخصا: فتقول: من الذي سوف تكرمه غدا؟ فانه تارة يقول لك: سأكرم المؤمن أو سأكرم العالم، لكن تارة اخرى يقول: اكرم الذي أريد أن أكرمه، أي من أريد سأكرمه

هل يمكن أن يتطرق إلى الوهم مثل هذا الاحتمال؟

والجواب : لقد ثبت في محله في علم الكلام ان الله سبحانه وتعالى حكيم على الاطلاق وان وأن أفعاله معللة بالأغراض الواقعية التي يحيط بها بعلمه المحيط ، وأن المصالح والمفاسد وراء كل أمر أو نهي او فعل او قول أو ما أشبه ذلك ، ومن الواضح أنه بذاك الأصل الثابت الموضوعي المقرر في محله نعرف ان كلمة {من يشاء} ليس المراد بها العبثية، الفوضوية، الانفلات، وأنه لا ضوابط ولا ملاكات

لكن الكلام يدور حول : ما هي النكتة في هذا التعبير اثباتاً بعد ان كانت الحقيقة واضحة في عالم الثبوت ؟

والذي يؤكد ضرورة البحث عن النكتة والسبب والوجه هو ما نلاحظه من أن القرآن الكريم في مختلف المواطن يركز على مثل ذلك: قال تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [2]) وليس الذي يدرس ويفكر مثلاً ، أي لم يقل تعالى : يؤتي الحكمة من درس ومن فكر وتدبر او من سار في الأنفس والآفاق حيث قال ( سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ )[3]، بل الآية هي أنه ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ )

 وفي آية اخرى: ( وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [4])

وكذلك ( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[5]

إذن هناك تركيز على (من يشاء) ، ما هي النكتة في ذلك؟

وكذلك نلاحظ الامر ذاته في الموارد الأخرى المشابهة ،مثل الآيات الأخرى التي تقول (كيف يشاء ) ، مثل قوله تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[6] ، والمراد باليدين : يدي القدرة والقوة في آية أخرى يقول عن السحاب : ( فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) 7

    كذلك المفردات الآخرى المضارعة، مثل: ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) 8

والآيات من هذا القبيل ليست بالقليلة، فما هو الوجة ـ بعد الفراغ من كونه تعالى حكيما ـ في هذا التعبير والتحويل على المشيئة ؟

من وجوه الحكمة في الأِحالة على المشيئة الالهية

هنالك وجوه عديدة يمكن أن تذكر كوجهٍ للعدول عن بيان الضابطة إلى التعويل والتحويل على المشيئة :

 

1_ اخفاء الحقائق والمصالح والمفاسد والجهات

السبب الأول: هو الإشارة إلى أ - خفاء الحقائق ب - وخفاء المصالح والمفاسد ج - وخفاء الخصوصيات والمزايا والجهات فان هذه الثلاثة خفية علينا نحن البشر- عادة - اصلاً او ببعض دراجتها

فـ(الحقائق) مخفية علينا قال تعالى: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [9]

وكذلك (المصالح والمفاسد) بجهاتها المختلفة وتزاحماتها ونتائجها النهائية فانها خفية علينا

كما ان ( الخصوصيات) ، والجهات، والمزايا، ايضا خفية علينا , ولذلك قال سبحانه وتعالى: (من يشاء) لأنه لا شك- كلاميا- في أن الله عندما ينصر، فإنه ينصر بحكمة، لكن متى ينصر؟ واين ؟ وكيف ؟ هذه كلها خفية علينا.

مثلا قضية الروم قال تعالى : ( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) فقد منح الله النصر للروم وقد اخبر عن انه سينصرهم, لكن متى؟ بعد سنتين؟ ام بعد عشرين سنة؟ قال : ( في بضع سنين ) وهنا ايضا توجد حيثية خفاء بل واخفاء !! ذلك ان المصلحة قد تكون في ما لا نتصوره.

 

ان الله تعالى هو الاعلم بالمصلحة، فأَرجِعَ الأمر إليه , ولا تحكم ايها الانسان ولا تجزم بانني حيث فعلت كذلك فكان ينبغي أن يكون كذا ، فاذا لم يكن كذا، فتعتب على الله!

مثال لطيف في قصة مفصلة نوجزها

كانت هناك شخصية كبيرة مرموقة قبل ألف وثلاثمائة واربعة وسبعين سنة، ولعله كان شيخ عشيرة، وكان خيّرا صالحا كما يبدو ولذا شمله لطف الله تعالى ، وذات يوم حدث ان صعد الى الشرفة ـ الطارمة ـ فزلت قدمه وسقط الى الارض فكسرت رجله فجاء المجبّر وجبّر رجله، وإذا بمبعوث من قبل يزيد يأتي إليه يدعوه ويأمره بالخروج لقتال الحسين ( عليه السلام ). فاعتذر بحجة كسر رجله فتركوه لحاله! بينما – في المقابل - إذا كانت رجله سالمة، فكان أمره دائرا بين اثنين: إما أن يذهب لقتال الإمام الحسين   ( عليه السلام ) فيكون من أهل النار، أو يرفض ويأبى فيحطمون أسرته كلها، فكان من الأهون ان تكسر رجله عن ان يدمرون اسرته و يأسرون اولاده وبناته فكيف بان يخرج لقتال سيد شباب اهل الجنة ؟

أن الواقع خفي علينا: المصالح خفية علينا والمفاسد إلا ما ظهر من بعض جهاتها، ولا نعرف عمقها ولا سائر الجهات المزاحمة لها، لذا كان لابد من ايكال الامر اليه جل اسمه ليحكم كيف يشاء متى يشاء بما يشاء.

 

 

2 الايحاء بالهيمنة الالهية المطلقة

ثانيا: لكي يقودنا ذلك إلى أن نعترف بالهيمنة المطلقة الإلهية على كل هذه الظواهر والاسباب والعلل المادية، فلا نركن إلى قدرتنا مهما أوتينا من سلطة وعلم وحكمة، ومال وذرية وجمع وعدد.

ان بعض الناس قد نراه إنسانا صالحاً، لكنه لو وكله الله إلى نفسه ولو ثانية واحدة فقط فإنه ربما يسقط في الامتحان

كما نرى البعض من الفقراء يعتب على الله بشدة، ولكن هذا الفقير لا يعرف المصلحة في ذلك , لو اطلع على خفايا الامور لعرف أن من مصلحته الواقعية ان يكون فقيرا ، ومن اكبر الشواهد على ذلك انه ما أكثر الاشخاص الذين تجبروا بعد إذ استغنوا أو طغوا وعتوا وعصوا بعد إذ تسلطوا.

والحاصل ان الله سبحانه وتعالى عندما يقول (من يشاء )(كيف يشاء) فانه يتضمن التأكيد على ان: الأمور مرتهنة به جل اسمه ، ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [10])

فعلى الانسان ان يعرف انه اذا وفّر كافة العلل المعدة ، فليعرف وليستحضر أن وراء ذلك وفوق ذلك إرادة الله فتوكل على الله، فعليه ان يتوكل ولا يتكل على نفسه.

ولكي يتضح ذلك اكثر فلنمثل بمثال عرفي واقعي

شخص مجاهد- وكثير منكم كنتم مجاهدين في زمن الطاغية كما انه ما أكثر المجاهدين في العالم على مر العصور ـ في بلدٍ , طاردته السلطات فأراد أن يهرب إلى خارج البلد لكنه لا يعرف الطريق، فيلتجئ إلى شخص خبير حكيم عارف بالمجريات، فيستشيره كيف أهرب من هذا البلد؟ فتارة يقول له: عليك ان تستخرج جوازاً مزوراً من المحل الفلاني مثلا، ثم تغادر عبر الحدود الكذائية بهذه الطريقة الخاصة. وذلك انما يكون لو كانت القضية بسيطة وامكن لهذا الشخص أن يخرج من هذا المعترك بمجرد هذا الارشاد الدقيق لكي يواصل مسيرة الجهاد من جديد من وراد الحدود.

لكن القضية اذا كانت متشابكة معقدة لا تحكمها معادلة واحدة، بل تتحكم فيها عشرات المعادلات وتحتاج الى عشرات الخطوات و لو أخطأ في خطوة واحدة فإنه سيقع في أيدي الجلاوزة، فان ذلك الحكيم سيقول حينئذٍ تعال الي او اعتمد علي واوكل الامر اليّ[11] والذي أقوله لك اسمعه ونفذه، ولا يصح بل لا يمكن ان اشرح لك التفصيلات والخطوات، وانني لا أكلُك إلى نفسك بل أتعهدك بنفسي

إذا هذا الشخص ان كان بالفعل خبيراً وكان ذا نفوذ ايضاً – مثل علي بن يقطين- بحيث لو اخطأ المجاهد في خطوة فانه يتدخل ويخرجه من الورطة ومن المعترك والمحنة، عندئذ يكون عقلائياً أن يقول له: ارجع إليّ او إلى فلان واتبع مشيئته.

وبذلك ظهر انه حيث كانت المنايا والجهات والأبعاد خفية، وحيث كانت المصالح خفية والواقع خفيا، وحيث كانت القضية متعقدة، متشابكة الأطراف، فان افضل ما ينبغي ان يقال ؟ ممن كلامه قمة في البلاغة وقمة في الحكمة هو: (ينصر من يشاء ) ؛ لأنه الأعرف بكل المصالح والجهات والخفايا والأبعاد البعيدة المدى والمتوسطة والقريبة المدى، ويعرف تأثيرات هذا القرار حتى على أحفاد أحفاد الانسان ايضا ، فانه قد يكون شيء ما لصالحك لكنه سيجر الوبال على ذريتك وأحفادك إلى يوم القيامة، وقد يكون شيء ما بضررك ظاهرا، من ضر أو بأساء أو ما أشبه لكنه سيجر العزة لك ولأولادك، والمشكلة اننا لا نعرف تلك المعادلات لكننا لو كنا عرفناها لأذعنا لها

وبكلمة فان قوله تعالى ( يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ) ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) وهكذا بقية الآيات، من وجوه الحكمة فيها : لأنه تعالى هو الأعرف بجهات المصالح كلها ؛ ولأنه حكيم رؤوف رحيم.

وصفوة القول ان النكتة في (من يشاء) ليست التأسيس للعبثية، بل ان (من يشاء) هي بلحاظ دون لحاظ ، وليست (من يشاء) بلحاظ ما يقابل الحكمة، كما ان احدنا احياناً يقول: انا بكيفي ازوج بنتي كيف اشاء، فان المتكلم بهذا القول يحتمل فيه هنا احتمالان: فإذا كان إنساناً غير حكيم، فان معنى كلامه اي عبثا، وانه لا تهمه الملاكات ما هي، وإما اذا كان إنساناً حكيماً، عاقلاً فان معنى كلامه انه سيزوجها على حسب مقتضى الحكمة ، لا كما تشاء هي ولمـــّا تعرف خفايا الاشخاص وقد تغرها المظاهر والكلام المعسول، فليست هناك عبثية بل إحاله للمشيئة الاكثر حكمة ودقة

ولإن شُك في أبٍ من الآباء فانه لا يُشك في الحكيم المطلق بدون كلام

إذن (كيف أشاء) هي بلحاظٍ دون لحاظ، فليست بمعنى أن لا حكمة ولا مصالح كامنة وراء مشيئته، بل هي في مقابل ما نريد بجهلنا ان نحمّله على الله أن يفعله!

 

 

الاستشهاد على ذلك بـــ (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

ثم انه يوجد شاهد واضح في آخر الاية الشريفة يقول تعالى سبحانه وتعالى: ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

فقوله تعالى  (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) يكشف عن ان نصرته منبعثة أو مؤطرة بعناوين يكمل أحدهما الآخر : وهما عنوانا العزة والرحمة ولذا وصف نفسه ههنا بعزيز ورحيم، وذلك انه لو كان عزيزا فقط، والعزيز هو القادر الذي لا يغالب، لقهر المشركين في نفس اللحظة

وفي الرواية: لو أن الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء قط  والله يمهل ولا يهمل.

 فلو كانت الصفة التي ذكرت هي العزة فقط ، فان مقتضاها الانتقام فوراً فان العزيز فورا ينتقم، ويضرب بيد من حديد وهو القادر القاهر ، ولكنه ايضاً رحيم : رحيم بالكفار، فيعطيهم فرصة ومجالاً، لعل بعضهم يرجع إلى الحق، والدنيا هي دار إمهال وفسحة ومجال اما الآخرة فمعادلتها معادلة أخرى، فالدنيا دار امتحان ودار الامتحان تقتضي المزيج من الغضب ومن الرحمة، كلامها ينبغي ان يكون موجوداً ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ). فبعزته ينصركم، لكنه برحمته يؤخر هذه النصرة، وينتخب وقتا يجمع فيه بين الحقين

 

 

للمشيئة ملاكات

مع ان الله تعالى حوّل في هذه الاية ( يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ )الامر على المشيئة الا انه تعالى ذكر في موطن آخر ضابطا لذلك , فتم بذلك الجمع بين كل الحقوق

 فمن جهة حوّل على مشيئته، ومن جهة اخرى وفي مواضع اخرى ذكر بعض الملاكات والضوابط ولم يهملها ويترك ذكرها بالمرة

 ومن الملاكات ماصرح به تعالى : ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) فهذه الآية اذن تكمل تلك الآية السابقة

والجامع هو : إذن مشيئة الله تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات وقد ذكر بعضها لنا مما هي بأيدينا. اما الذي ليس بأيدينا ولا في حدود ادراكنا فقد احاله الى الإطار الذي يجمع كل الضوابط وهو  (من يشاء)  و  (كيف يشاء)


[1] - سورة الروم : اية 4 - 5

 [2] - سورة البقرة : اية269

 [3] - سورة فصلت : اية53

 [4] - سورة البقرة : اية247

 [5] - سورة البقرة : اية 142

 [6] - سورة المائدة : اية 64

 

[7] - سورة الروم : اية 48

 [8] - سورة الاحزاب : اية 24

 [9] - سورة الروم : اية 7

 [10] - سورة الانعام : اية 18

 [11] - او الى فلان

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=901
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 01 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29