• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : الكيان اللبناني: «مشروع دولة» في ادراج سايكس ـ بيكو .
                          • رقم العدد : الثالث عشر / الرابع عشر .

الكيان اللبناني: «مشروع دولة» في ادراج سايكس ـ بيكو

 

 

 

 

 

الكيان اللبناني:

«مشروع دولة» في ادراج سايكس ـ بيكو!

 

 

إعداد: الشيخ علي سليم سليم

 

تقوم المواطنية على عقد وطني، لا شخصي، تتوافق عليه جماعة أو شعب أو أمة ما على أساس روابط قومية ـ وجودية، فالإنسان لا يختار وجوده ـ فوجوده سابق على اختياره ـ ولكنه يختار في حالة الوعي والرشد شكل وجوده وانتمائه وولائه.

هل يعقل أن يتشكل وطن من كيانات طائفية محمية من قوانين الوطن نفسه؟! فهذه أعجوبة، لا يمكن أن تتحقق اليوم ولا غداً، وإلا بقينا في الدوامة إياها، الطائفة الأقوى تفرض على الأضعف سطوتها وسلطتها حتى إذا ما سنحت الفرصة للأضعف الاستقواء عبر الاستفادة من دعم خارجي أو غيره عاد وارتد على ما اتفق عليه في صيغة أو معادلة، ليس فيها من صمام أمان يكبح جنوح الطوائف نحو اقتتال دموي مدمر.

أي وطن بنينا أو نريد أن نبني؟ وطن على صغر حجمه يعيش فيه بدل الشعب الواحد شعوب متعددة وطوائف متنافرة وقبائل متناحرة، لا يجمعها ولاء ولا انتماء، لكل منها لبنانه الخاص، فما هو عدو له محل نظر عند قسم منهم، وما هو شقيق ربما هو عدو الآن أو في المستقبل عند القسم الآخر!

المشكلة الأساس:

الطائفية ـ السياسية في لبنان هي في جوهرها فذلكة سياسية تقوم على وصل السياسة بالطائفية والطائفة بالدولة، على أساس مبدأ «الحق الطائفي» في اللغة والسياسة والقرار والسلوك والإرادة والإدارة، وهو خطاب فوق التطور ـ أي لا يخضع لمنطق التطور ـ ويحول اللعبة السياسية إلى لعبة استوائية تستوي فيه السلطة والمعارضة والفرد والجماعة واليسار واليمين.

ومع أن السلطة تقوم على التناوب والتداول فلا يمكننا اعتبار الحرية في لبنان دالة على الديموقراطية بمعنى الكلمة، بل على نظام طوائفي، تعاقبي، دوري يقوم على مبدأ العقد الطوائفي لا الطبيعي.

والأيديولوجيات الطائفية في لبنان، مترسخة في التربية والاجتماع، فضلاً عن السياسة والاقتصاد كما لو كانت ايديولوجيات تكوينية قدرية، بينما الفرد لا حضور له ولا وجود له إلا في اطار الجماعة الطائفية.

 

تعايش أم شراكة؟!

ثمة خلاف جوهري حول هذه المسألة التأسيسية، فهل لبنان هو مجموعات طائفية تتعايش، أم تتشارك في الوجود ومستلزماته. لبنان فدرالية طوائف كان وسيبقى. وما يحتاج إليه هو تهذيب الصراع بين هذه الطوائف وقوننته، وهذا ما سيحدث مع الوقت وبمزيد من المآسي والدماء. فلنتفق على هذه المسألة أولاً ونعترف بعدم وجود إقرار بهذه الحقيقة التأسيسية وغياب الاتفاق على شكل الفدرالية أو الكونفدرالية التي نريد، بعد التسليم باستحالة التقسيم الجغرافي. ثمة حاجة إذن إلى عقد اجتماعي جديد بين الطوائف يزيل التباسات هذه المسألة ويضع الحدود السياسية ويقترح الحلول العقلانية.

ثمة اقرار بأن لب المسألة  والخلاف والصراع ليس هنا بل في الخارج والعلاقة الملتبسة بين الداخل والخارج، لقد شكل دستور الطائف نقلة على هذا الصعيد كما يعترف الجميع ولكن الطائف غير ممكن التطبيق بالكامل بالإضافة لوجود ثغرات والتباسات عديدة فيه، ما يعني الحاجة إلى طائف ثان لجمهورية ثالثة يكون لرجال الاختصاص والتشريع دور فيها يعادل دور القيادات السياسية والزعامات الطائفية[1].

اتفاق الطائف قام بالأساس على فكرة إلغاء الهيمنة الطائفية على السلطة لمصلحة الشراكة والوحدة الوطنية.

بعد التطورات السياسية والديموغرافية والاقتصادية خلال العقود الأربعة الماضية لم يعد النظام الطائفي قادراً على إدارة الحياة الوطنية في ظل الاستقرار. كانت الهيمنة المارونية المجسدة في محور للسلطة قائمة على معطيات موضوعية تتمثل في الاسبقيات الاجتماعية على كل صعيد فلا هيمنة بدون غلبة حقيقية. مع صعود الطوائف الأخرى وتبلورها كمؤسسات سياسية تشبه قرينها الماروني زالت احتمالات الهيمنة.

غير أن هذا النظام بصيغته القائمة ولاّد أزمات لا تنقطع، تخبو أحياناً وتطل أحياناً أخرى تبعاً للمتغيرات الخارجية التي تنعكس على الداخل. وغالباً ما تكون لمصلحة فريق على آخر. تلك الصيغة المفروضة على الجميع هي صيغة الضرورة مؤقتاً إلى أن تهيأ ظروف دولية واقليمية مؤاتية لينقض عليها...

أية صيغة مثلى بمستطاعها ايجاد الحل الأمثل الذي يرضي الجميع ويوحد اللبنانيين، ولا تكون ولاّدة أزمات...؟!

 

الصيغة الداء:

الطائفية بطبيعتها مناهضة لمفهوم الديموقراطية، والتمثيل الديموقراطي السليم، ومفتتة للنسيج الاجتماعي عبر الغاء الآخر حيث أن ربح البعض يعني خسارة محتمة للآخر وإلغاء له، ومن ثم تقضي على أية امكانية لنشوء خطاب سياسي جامع، وهي أيضاً مرتبطة بالفساد بكل أنواعه... وهي أيضاً وأيضاً تحمل في مكوناتها العضوية التبعية للقوى الخارجية، إذ أنها تاريخياً تكونت في حضن التدخل الخارجي في القرن التاسع عشر عندما أعربت القوى الأوروبية العظمى في ذلك الوقت عن حمايتها لهذه الطائفة أو تلك. وهو أمر معروف على كل حال. لقد تلازم وجود النظام الطائفي مع الانكشاف تجاه الخارج. ونستطيع أن نشبه تحركات السفير الأميركي والفرنسي خلال الأزمة الأخيرة بتحركات القناصل في القرن التاسع عشر قبيل انفجار الحرب الأهلية اللبنانية الأولى بين الدروز والموارنة 0481 ـ 0681.

إنه لمن الصعب بناء الوحدة الوطنية بفعل التدخل الخارجي، وهذا يعني أن لا حل سياسي دائم يعيد الاستقرار إلى الوطن، بل هناك تسويات مرحلية ما تلبث أن تعود التوترات. فبسبب النظام الطائفي لم يتفق على هوية الدولة وطبيعتها ودورها ـ مع أن أمر الهوية حسم في اتفاق الطائف ـ ولكن الأمر يعود من حين إلى آخر لعدم التزام بعض الأطراف بذلك الاتفاق، مهدداً الوحدة الوطنية. كما أن الدولة اللبنانية المستقلة منذ العام 3491، نشأت ضعيفة بشكل متعمد كي تكون للطوائف الكلمة العليا في كل آن. وقد وقفت البيوتات المذهبية المارونية بوجه محاولات الرئيس فؤاد شهاب (وهو العهد الوحيد الذي مر على لبنان فيه استقرار) لإقامة دولة حديثة بحجة تدخل المكتب الثاني في الجيش بالشؤون السياسية. وعاد الأمر بالظهور من جديد باختراع اسم آخر هو «النظام الأمني السوري ـ اللبناني» مع أن مطلقيه كانوا هم المستفيدين الكبار من فترة الوصاية السورية[2].

لبنان الراهن هو ـ إذا شئنا بعض المجازفة ـ اقطاعات ودويلات طائفية غير معلنة، وإن كانت مسوّرة. وما يمنع إعلانها ليس بقية من حس وطني أبداً، ما يمنع الاعلان الرسمي عنها هو تعذر تسويقها واستحالة ديمومتها[3].

ومن ضمن التداعيات التي يسببها ضعف الدولة المتعمد، غيابها عن كثير من المناطق وغياب تقديماتها الأساسية عن المواطن. واقتصر دور الفئات السياسية على التنازع على المكتسبات السلطوية. والمسألة أساساً هي الصراع على السلطة وتقاسم مغانمها ولذلك فقد اللبناني الثقة بأقوال زعمائه الطائفيين الاقطاعيين وأمراء الحرب والمال، الذين أوصلوا الدين العام إلى مستويات يعجز بلد صغير مثل لبنان عن الايفاء بالتزاماتها.

والمؤسف في الأمر موقف البعض من المشكلة الطائفية، فهم يتعجبون من قدرة النظام اللبناني على الصمود بل وعلى التجدد، كما يعتبرون وجوده ضرورة حتمية. كما هنالك من يعتبر وجوب ضمان الصيغة الفريدة التي يمتاز بها لبنان مختبر التنوع والأديان والثقافات، وحفظ الحضور المسيحي في الشرق من السقوط نهائياً في دائرة القنوط والاضمحلال[4].

والطائفية هي بالأساس نتاج التمازج والتلاؤم بين النظام الكولونيالي الذى رعى مشكلة الطائفية والقبلية والأقليات القومية بهدف تأجيج التناقضات والنزاعات وفق ما تقتضيه مصلحة الدولة المستعمرة أو الطامعة وبين الطبقات البرجوازية والاقطاعية الحاكمة التي تستخدم وجود هذه الأقليات الدينية والطائفية والقبلية لخدمة مصالحها الطبقية وديمومة سلطتها ونظامها.

النظام الطائفي قائم منذ سنة 1681 في عهد المتصرفية. وقد اتخذت اتفاقات الامتيازات الأجنبية سبباً ومظلة للتدخلات.. فنشرت فرنسا حمايتها على الموارنة والأرثوذكس في عهدة قيصر روسية والكاثوليك في عهدة النمسا، أما الدروز فانضووا تحت لواء التاج البريطاني. بينما بقي السنة في رعاية السلطان. ولا يوجد أي ذكر للشيعة!

وفي ميثاق 3491 الشفوي الذي حصل بين بشارة الخوري ورياض الصلح كرس ما كان قائماً من ذي قبل. وجاء اتفاق الطائف سنة 9891 ليكرس الطائفية من جديد نصوصاً في الدستور الجديد الذي يود تغييره كثيرون.

إن استمرار البنية الطوائفية منذ أكثر من مائة وخمسين سنة يدل على أنها تلاقي استجابة وقبولاً لدى اللبنانيين وقلما حاولوا الخلاص منها والتمرد عليها. ولعل ما يدفع بعضهم إلى قبول هذا الواقع اقتناع هؤلاء بضرورة هذا النظام وإن كان شراً لا بد منه.

منذ قيام الكيان اللبناني، فشل النظام الطائفي في تحقيق وحدة مجتمعية تنقل لبنان من صيغة فيدرالية الطوائف إلى صيغة الوطن الواحد. ظل كياناً معوقاً، وحدته معلقة يحكمه قانون الانقسام الأهلي الذي يخفي تحته حرباً أهلية مستترة.

لقد عجز هذا النظام الجائر عن تحصين الكيان اللبناني والمحافظة على استقلاله ولم تظهر الطوائف وحدة وطنية تغلب المصلحة العامة، إذ كشفت التطورات منذ قيام الكيان أن لا طائفة عصية على الخارج وعلى استدعائه لدعمها في صراعها مع الطوائف الأخرى.

في بلد يفتقر أهله إلى وحدة الانتماء والهوية، ليس من غرابة إذ ذاك الاختلاف من هو العدو للوطن ومن هو الصديق!! فبالرغم من كل ما فعلته «إسرائيل» فهي ليست عدواً عند البعض وجاراً عند البعض الآخر!!

ما زال لبنان حتى هذه اللحظة رسمياً وقانونياً إن لم نُضِفْ شعبياً ـ في حالة عداء مع «إسرائيل» ولا يمكن لأحد أن يخفي هذه الحقيقة التي عادت «إسرائيل» فأكدتها بحربها على لبنان قبل سبعة عشر شهراً، وما تزال آثار التدمير التي ألحقتها بالإنسان وأسباب العمران ماثلة للعيان.

لقد علمتنا التجارب أننا نحمي وحدتنا الوطنية بأنفسنا وليس بالخارج... بل إن الخارج، على تعدد تلاوينه، كان في الغالب الأعم يستفيد من انقسامنا لتأمين مصالحه، ولو أدى ذلك إلى انتحارنا جماعياً بالاندفاع إلى الاقتتال[5].

ولكن بعد كل ما تقدم كيف يمكن لهذا البلد تأمين الحد الأدنى من الأمن والاستقرار وهو البلد الذي أريد له أن يكون «بارومتر» لتوازنات القوى الاقليمية والدولية وساحة تصفية الحسابات ومركز اختبار تجارب مقدمة لانطلاق مشاريع هذه القوى للنفوذ والسيطرة.

إن النافذين في هذا البلد والمنفذين سياسات لا تخدم مصالح «مشروع الوطن» الذي لم يكتب له الحظ من النجاح في إقامة دولة أسوة بغيره... وهم ما فتئوا يراهنون على الخارج ويستقدمون تدخلاته خدمة لمصالحهم.

لقد أدت الحرب (الأهلية) في لبنان إلى تقلص المواقع السياسية للموارنة والدروز، بخلاف الشيعة التي جعلت تقلبات التاريخ منهم أقلية من المستبعدين. لكن المتغيرات الحاصلة دفعت بهم إلى إثبات هوية الطائفة، والسعي لأن يعترف بهم سياسياً بنسبة حجمهم الديموغرافي الآخذ بالتنامي منذ مطلع القرن الماضي. غير أن هذا الحراك الذي بدأ في مرحلة اعلان دولة «لبنان الكبير»، عبر جهود كبيرة بذلت من قبل مجموعة من العلماء أبرزها السيد عبد الحسين شرف الدين، لم يخرج الشيعة من وضعهم كطائفة من الدرجة الثانية، إلى أن انطلقت في فترة الستينات ظاهرة انبعاث شيعية قادها الإمام موسى الصدر، لتثبيت هوية الطائفة كأحد مكونات لبنان الحتمية المؤسسة على نظام سياسي تركيبته طائفية، وكان الإمام الصدر أمام خيارين إما الانخراط في تلك التركيبة بكل ما فيها من علات، وإما الابقاء على وضع الطائفة، الهامشي وخارج المعادلة السياسية.

لقد وعى الشيعة خصوصيتهم من خلال التطورات الكبرى، فالقرن العشرون كان بالنسبة إليهم عصر وعي الذات الجماعية. وقد عززت الصراعات السياسية في تلك المرحلة شعور الخصوصية لدى مختلف الجماعات الشيعية، وكثيرون استفاقوا من سباتهم الاجتماعي والسياسي ورفضوا وضع مواطني الدرجة الثانية التي خصتهم به بعض البلدان.

هنالك نقطة أساسية ينبغي أخذها بنظر الاعتبار: لقد أصبحت الشيعية الآن جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الدولي والعالم الإسلامي. ومدعوة لمواصلة العمل في الميدان السياسي الذي تعتبره كتنظيم للمجتمع ولإدارته. وهذه النقطة لم يكن لها من وجود قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران. وما حصل في العام 9791 سيبقى مهماً في التاريخ وستدوم آثاره طويلاً، في داخل إيران وخارجها[6].

العصبية السياسية للشيعة في لبنان بدت اليوم كما لو أنها دخيلة أو طارئة على أسلوب تعاملهم مع الطوائف الأخرى، باعتبار أنهم كانوا في المراحل السابقة على تخوم الفعل السياسي، متأثرين بالمشاريع السياسية للطوائف، وليسوا مقررين فيها، حتى أن البعض بالغ في إبراز صورتهم العددية كجيش بشري جاهز للتجييش ومن ثم الاستثمار السياسي، فلم ينظر إليهم لا في الجمهورية الأولى ولا الثانية ككيان بشري، قد يشكل خطراً في حال الاستمرار بتهميش دوره ضمن لعبة سياسية تقتضي مشاركة الجميع من دون امتياز أو أفضلية، لهذا على ذاك. لقد واجهت الطائفة الشيعية إقصاءها، عبر الالتفاف العفوي والصريح حول زعامة الإمام موسى الصدر منذ أكثر من أربعة عقود، عندما أطلق حركة سياسية لبنانية، عبرت عن واقع حال السواد الأعظم من الشيعة المحرومين في ريفيتهم من الامتيازات المدنية للطوائف الأخرى. وهم اليوم لا يرغبون بعودة الدولة تلك التي اقترن وجودها بحرمانهم من الحقوق التي حصلوا عليها في غيابها[7].

لم تعد الطائفة المارونية ولا السنية صاحبتي الحق في احتكار شعارات السيادة والاستقلال. وأصبح للطائفة الشيعية أحقية في هذا الادعاء تعادل أحقية الطوائف. المشكلة فقط في كون التعبير عن هذه السيادة وهذا الاستقلال يأخذ أبعاداً وطنية واقليمية ودولية تنسف هذه الادعاءات لدى كل الطوائف[8].

هذه التحولات كان لها الانعكاسات الطبيعية على الوضع في لبنان. وكان لهذا التحرك على صعيد الديموغرافيا والهوية، لم يتأخر في ايجاد تعبيره السياسي. هدف الشيعة اللبنانيين هو لبنان وحسب، فهم لا يريدون أن يكونوا إحدى الطوائف الرئيسية في لبنان، بل أن يشاركوا في السلطة على أساس ما كفله اتفاق الطائف من العمل وفق مقتضيات الوفاق الوطني لبناء كافة مؤسسات الدولة.

 

الدولة المتزلزلة

على امتداد عقود من التسويات الطائفية المتتالية، فشلت صيغة النظام الطائفي إلى حد كبير في تكوين دولة حديثة. وشكل العائق الأكبر أمام تكوّن المواطنية دون أن يكون الولاء للوطن ممره الطائفة كما هو الشكل القائم اليوم الذي يحتكم إليه اللبنانيون طوعاً أو كرهاً. وأصبح هذا النظام الذي أعاق لبنان دون مزيد من التقدم، وسبب للبلاد الكثير من الكوارث والمآسي أصبح من الثوابت في حياتنا السياسية وجزءاً من النشاط الفكري والاجتماعي في لبنان. ومع هذا التجذر والتمسك كيف يتراءى الحل المنشود؟

ربما يكون في الحوار المتجدد القائم على ثقافة لا طائفية وتربية وطنية سليمة. وهذا ما يستلزم لانجاحه وقتاً طويلاً. وتكون هذه الطريقة هي الأقرب منالاً وأكثر واقعية والقادرة على معالجة هذه المشكلة بروح علمية من شأنها أن تبدد المخاوف من المجهول الذي ينشأ من جراء زواله، وتحمل الاطمئنان للمحافظة على التوازن التاريخي الدقيق القائم في لبنان منذ أجيال. ويجب الاقرار في هذا المجال إن المشكلة الطائفية في لبنان ليست مشكلة أديان ومذاهب، إذ لا يضير لبنان في شيء أن يكثر عدد مذاهبه أو يقل. هناك حاجة إلى التمييز الواضح بين الدين والطائفة، لأن الدمج الحاصل بينهما هو أساس الخلافات المندلعة. فالدين يمثل مجموعة عقائد ومفاهيم وتعاليم ورؤى فكرية وروحية تهدف إلى الارتقاء بالإنسان وتغليب عناصر الخير والسمو في ذاته. ودعوة إلى المحبة والرحمة والأخوة بين البشر. وهو بهذه القيم السامية اغناء للمجتمع.

الوهم الأخطر في لبنان أن يحكم فريق بمفرده بدعم هذا أو ذاك من قوى الخارج، وما يحصل دليل على أن الفرقاء السياسيين قد أسلسوا قيادهم للخارج. والوهم الآخر كأن يعتقد فريق أنه قادر على حسم مسألة السلطة بقوة السلاح. كل غلبة في لبنان سائرة إلى توفير مقومات نقيضها ربما أمكن لفئة أن تفرض تعديلاً في توازنات السلطة. هذا ما حصل مع اتفاق الطائف.

هناك خلل أكيد في بنية السياسة اللبنانية، الزعيم السياسي هو الذي يقتطع لجمهوره حصص خدمات الدولة ويؤمن لها الحماية بوجه السلطة ويوفر الحماية الخارجية لجماعته. هذه المعادلة الموروثة منذ عهد الدولة العثمانية ومداخلات الدول في حماية المجموعات الدينية والطائفية ما زالت تترسخ وتقوى في الممارسة السياسية. لن تنكسر هذه الحلقة المفرغة من تجديد الولاء والتبعية والاستزلام للزعماء الطائفيين إلا من خلال توسيع حقوق المواطنة وحمايتها من دولة قوية[9].

إنها أزمة غياب الدولة وبالتالي ضرورة تأسيسها أو إعادة بنائها... وهي أزمة تواطؤ أطراف داخليين نافذين وأطراف خارجيين أقوياء على ابقاء ساحة مشكلتنا الأساسية في لبنان هي اختلاف وليس تنوعها في ما يخدم الثوابت الوطنية التي هي في الحقيقة معيار الانتماء. فثقافة تقاوم وتقدم التضحيات الجسام وتبذل الداء وتحرر وتقف في وجه مشاريع دولية كبرى في حدها الأدنى تتبنى الأمن الإسرائيلي... وثقافة انهزامية تركن إلى الدعة والاستسلام حتى على الثوابت الوطنية. رغم أن النماذج التي صالحت في المنطقة لم تحقق أمنها الذاتي حيث تنخر الاستخبارات الإسرائيلية والدولية في بنيتها، ولم تبنِ اقتصاداً ولم تنجز استقلالاً. فتعدد الثقافة وتنوعها لا ضير فيه ما دام يرتكز إلى ثوابت تخدم قضيته. وهو رافد غنى وتصويب وتقويم أي اعوجاج في المسار الاستقلالي والسيادي. فقضية لبنان قدر في دفاعه عن وحشية.

هناك عملية تزوير في حرف وجهة الصراع ليس في لبنان وحسب بل وفي المنطقة تحت عنوان «السلام» أين مؤتمر مدريد... وأوسلو.. ومصير قيام دولة فلسطين التي وعدت بها السلطة الفلسطينية ومن ورائهم عرب الاعتدال. حتى لكأنه باتت «إسرائيل» كحمل وديع ينشد السلام مع جيرانه، فيما أضحى العدو في مكان آخر...

ففي ظل هذا الوضع الذي صار فيه التفريط بالحقوق والتعامي عن الخطر الوجودي السمة والذهنية التي يراد تعميمها ثقافة ثومية وعصرية متجددة على الرغم من أننا لا نلحظ وجوداً لمثل هذا التفريط في المعسكر الآخر الآتي من وراء المحيطات الذي ينهب المقدرات ويفتعل المشكلات ويوقد نيران الفتن.. وملعباً لتصفية حسابات اقليمية ولتعزيز مصالح ضالعة واجراء صفقات مشبوهة وإدارة عصابات فساد وإفساد[10].

 



[1] فؤاد سلامة، السفير: 57601.

 

[2] سمير التنير، السفير: 17601.

 

[3] نجيب نصر الله، الأخبار: 302.

 

[4] جورج علم، السفير: 09701.

 

[5] طلال سلمان، السفير: 45801.

 

[6] فرنسوا تويال: الشيعة في العالم، صحوة المستبعدين واستراتيجيتهم، ص451.

 

[7] نديم نجدي، السفير: 57601.

 

[8] فؤاد سلامة، من التعايش إلى الشراكة: الجمهورية الثالثة، السفير: 57601.

 

[9] سليمان تقي الدين، السفير: 45801.

 

[10] الوزير السابق عصام نعمان، الأخبار، 973.

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=93
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 01 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29