في رحاب سورة يونس
إعداد الشيخ سمير رحال
هي السورة العاشرة في المصحف نزلت بعد سورة الاسراء (بني اسرائيل) وقبل سورة هود.
والسُّورة مكّيّة، وعليه جمهور المفسّرين من السور النازلة في أوائل البعثة . واستثنى البعض آيات قالوا انها مدنية.
والسورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تهتم بإثبات وحدانية اللّه، وبإثبات صدق النبي صلى اللّه عليه وآله سلم و بإثبات أن هذا القرآن من عند اللّه، و أن البعث حق، ودحض ما أورده المشركون من شبهات في ذلك كله.
تسمية السورة
سُمّيت السورة في كتب التفسير والمصاحف بسورة «يونس» (عليه السلام) مع أنّها احتوت على آية واحدة في شأن قومه (عليه السلام)، بينما جاءت قصة يونس مع قومه في عشر آيات من سورة الصافات، والسبب ـ كما قيل ـ أنّها انفردت بذكر خصوصية لقومه (عليه السلام)، وهي رفع عذاب الاستئصال عنهم حين آمنوا.
وقيل في وجه هذه التسمية: إنّ سائر السُّور الأربع (وهي: هود، ويوسف، وإبراهيم، والحِجر) التي شاركت هذه السُّورة في الافتتاح بقوله تعالى:(الرَ)قد سُمّيت كلّ واحدة منها باسم نبيّ أو باسم بلده، فصار ذلك سبباً لتسمية هذه السورة باسم النبيّ يونس(عليه السلام) تمييزاً لها عن أخواتها الأربع .
موضوع السورة
موضوعها هو الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد للّه بمراتبه وهدم الشرك، وإثبات النبوة والبعث والمعاد، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم، وهي موضوعات السور المكية عادة.
فجميع آيات هذه السورة هي في أصول عقائد الاسلام التي كان ينكرها مشركو العرب وما يناسبها ومحاجة مشركي مكة في ذلك كله، ولا سيما توحيد الربوبية والالوهية وهداية القرآن وإثبات الوحي والرسالة، والتحدي بالقرآن وبيانا اعجازه وحقيته وصدق وعده ووعيده.
فضل السورة
عن النبي محمد (ص): «قال من قرأها أعطي عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون» (مجمع البيان- ص- 87 ج 5)
عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة مرّة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من المقربين»
أغراض السورة
المراد من أغراض السورة هو الوقوف على المحور الذي يشكّل روح السُّورة، وسائر الأُمور، هي التي تدور عليه. وظاهر أنّ محور هذه السورة هو إثبات توحيده سبحانه في ربوبيته وفي عبادته وذلك من خلال من خلال عرض الآيات السماويّة والأرضية ومظاهر العلم والقدرة الباهرة ، غير أنّ القول بذلك لمّا ورد عن طريق الوحي والمشركون يرفضونه عناداً ومكابرة، بدأت السورة بالتحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووظيفته، وعن القرآن المُنزَل عليه، مؤكّدةً على ذلك حتى يتأتّى تحقيق الغرض.
محتوى السورة وموضوعاتها
هذه السورة كما هو حال السور المكية تتناول موضوعات عقدية متنوعة واهمها الاصول الثلاث التوحيد بمراتبه والمعاد والنبوة حيث يراد اثبات هذه الاصول والرد على شبهات المشركين.
كما قصّ لنا سبحانه بعضا من قصص مواكب الرسل، من نوح عليه السّلام، ثم فصّل قليلا فى قصة موسى وهارون عليهما السّلام، ثم يأتى بقصة يونس عليه السّلام.
ويمكن الحديث عن جملة من الموضوعات في السورة :
1 إثبات انفراد اللّه تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره
انَّ مسألة التَّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق، وأنَّ الإِنحراف كان في مسألة التدبير أوّلا، والعبادة ثانياً. فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين في الربوبية ثم في العبادة.
وكان الشّرك في العبادة عاماً، بخلاف الشّرك في التدبير فلم يكن مثله في السعة والشمول.
قال سبحانه: (وَلَئِنْ سأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ لَيَقولُنَّ الله). لقمان: 25
وفي زعم المشركين أنَّ مقام الخلق غير التدبير وأنَّ الذي يرتبط بالله إنما هو الخلق والإِيجاد وأمَّا التدبير فيتعلق بموجودات أُخرى غير الله سبحانه وتعالى. فهي المتصرفات فيه وقد فوّض إليها تدبير عالم الطبيعة، وليست لله تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون وإدارته وتنظيم شؤونه والتصرف فيه. ونرى ذلك الشّرك في كلام (عمر بن لُحَىّ) وهو أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها فقد رأى في سفره إلى بعض أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عن شؤونها قالوا هذه أصنام نَعْبُدُها فَنَسْتَمْطِرُها فَتُمْطِرُنا، ونَسْتَنْصِرُها فَتَنْصُرُنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه». فاسْتَصْحَب معه صنماً كبيراً باسم «هُبَلْ» ووضعه على سطح الكعبة المشَرَّفة ودعا الناس إلى عبادته. سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79
فالعرب الجاهليون كانوا واقعين في حبائل الشرك لأجل اعتقاد الألوهية والربوبية في حق الأصنام والأوثان ، واعتقادهم باستقلالهم بالنفع ونفوذ المشيئة.
ولما كان التوحيد في الربوبية هو المدخل للتوحيد في الالوهية ويصرّح القرآن بأن الغاية والهدف الأسنى من بعث الأنبياء ع هو الدعوة إلى التوحيد في العبادة قال سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النّحل: 36
والذي تكرر على لسان الانبياء عليهم السلام (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرُهُ) أي الّذي يستحق العبادة هو من كان إِلهاً، وليس هو إِلاَّ الله.
لما كان التوحيد في الربوبية شأنه ذلك تحدثت الآيات عن إثبات ربوبية الله في الكون من خلال بيان مظاهر تدبيره ليحتج بها على توحيد الالوهية كما قال تعالى (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).
واستدل على توحيد الربوبية بالآيات والدلائل الكونية.
والآيات جمع آية ، والآية العلامة الدالَّة والكون كلُّه آياتٌ تدلّ على عظمة الله وربوبيته
قال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...) فصلت 37
وقال تعالى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) ...(33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
فالكون والسماوات والارض كلها من تدبير الله الخالق المدبر وحده فلم لا يعترفون بوحدة الألوهية، ويشركون مع اللّه إلها آخر؟!.
فاستحقاق العبادة من شؤون الربوبية، فمن كان ربّاً فهو مستحق للعبادة، وإذ لا ربّ سواه فلا معبود سواه. والله سبحانه اذ يأمرهم بعبادة نفسه يعلل ذلك بأنه هو ربّهم الّذي خلقهم دون سواه، إذ يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) مريم: 93
كما انه تعالى مالك كل شيء ويرزق خلقه جميعا بمن فيهم الإِنسان وأنه تعالى هو الّذي يميته ويحييه وبيده سائر تقلباته (اللهُ الذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الروم: 40
والشفاعة والمغفرة بيده وحده (قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) الزُّمر: 44 (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ) آل عمران: 135 والله لم يفوّض حقّ الشفاعة والمغفرة ـ إلى أصنامهم ومعبوداتهم خلاف ما يقوله هؤلاء أنها «مستقلة» في التصرف في هذه الشؤون، وهي شفعاؤهم عند الله، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها، كما يقول تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) يونس: 18
ولكن الوصول الى الايمان والاهتداء الى الحق مع كل هذه الدلائل والآيات البيّنات يحتاج الى عين بصيرة واذن سميعة وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ الذاريات (20
على ان آيات ودلائل الربوبية غير محصورة بعالم التكوين فكتاب الله سبحانه وتعالى في آياته التدوينية آياتٌ دالّةٌ على عظمته ، وعلى حكمته ، وعلى قدرته ، وعلى رحمته ، وعلى علمه ، وعلى تشريعه ، وعلى الحلال والحرام ، والحق والباطل ، والخير والشر. وفيه الدلائل على حقانيته من اعجاز بياني ومضموني إضافة الى الدلائل الخارجية لذا كانت السورة في صدد اثبات ان القرآن كتاب الله تعالى وانه دليل النبوة ولا تقوم لشبههم قائمة في مقابل وضوح انتسابه الى الله تعالى.
2 بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها
وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي ( ص) كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين ثم إنهم ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب.
وقد بيّن اللَّه سبحانه وتعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون. كما إنّ مشركي مكّة كان يأخذهم العجب من نزول الوحي على رجل منهم، ويتصوّرون أنّ كونه بشراً، يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، يمنع اتّصاله بالسّماء وتكليفه بالرّسالة، فكيف يدّعي نزول الوحي عليه؟! قالوا : أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولاً
كما أنّ مشركي مكّة كانوا يرون أنّ ملاك السموّ ينحصر فقط في المال والوجاهة وأنّ الوليد بن المغيرة هو الأَولى بأن ينزل عليه الوحي وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم الزخرف:31.
فأنزل الله عزّ وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ هذا التعجب في غير محله، لأن كل الرسل من البشر، من جنس المرسل إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول دعوتهم والتفاهم معهم لأن كل جنس يأنس لجنسه، وينفر من غيره.
قال تعالى : وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) الانعام
فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن يضطرهم إلى قبول الدعوة .
ثمّ إنّه سبحانه بيّن الوجه الذي لأجله بُعث النبيّ، فقد أُوحي إليه أمران:
الأوّل: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) من عذاب الله تعالى وخوِّفهم به). الثاني: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا.
3 في إثبات دليل النبوة : القرآن
وادعى المشركون ان هذا القرآن مفترى من دون اللّه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)38 فأثبتت الآيات أن القرآن كلام اللّه ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وأقامت الدليل على كونه من عند اللّه بتحدي المشركين ارباب الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ .
واقترحوا عليه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن الذي أعجزهم أمره أو ان يبدله.
ورده عليهم بانه لا يملك من أمره فيه الا اتباع ما يوحى اليه وما بلغهم هذا القرآن إلا بمشيئة اللّه تعالى وتسخيره وأيد هذا بالحجة العقلية القاطعة، وأقام برهاناً واضحاً على أنّ القرآن كلام الله سبحانه وليس من صنعي ولا صنع غيري، والشاهد على ذلك هذا الأمر: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ): أي قبل نزول القرآن (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) .فقد شاهدوا رسول الله (ص) من أوّل عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله قال تعالى (وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ). ثم جاءهم بهذا الكتاب العظيم الذي عجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكلّ من له عقل سليم فإنّه يعرف أنّ مثل هذا لا يحصل إلاّ بالوحي من الله تعالى.
كما طلب القرآن من هؤلاء المشككين أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال وليسألوهم عن ذلك، لأنّ كثيرا من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء وهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك.
ثم عادوا إلى الطعن بالقرآن بوجه آخر، وهو أنّه لو كان صادقاً في دعوته ورسالته فليأت بآية حسِّيّة مثل ما أُوتيَ سائر الأنبياء، كموسى (عليه السلام)، وعيسى(عليه السلام) وقد أجيبوا عن هذا الاقتراح بقوله سبحانه: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لله) وهي بيد الله سبحانه. (وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (20)
وذكر انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي (ص)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) .......(44)
ثم أبان صفات القرآن ومقاصده الأربعة. فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
4 في البعث والجزاء
اقرت الآيات رجوع الناس جميعا الى اللّه ربهم ليجزي المؤمنين الصالحين بالقسط، والكافرين بما ذكره إجمالا إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ..(4)
أى: قل يا محمد لهؤلاء الغافلين عن الحق: هل من شركائكم الذين عبدتموهم من دون اللّه ، أو أشركتموهم مع اللّه كالأوثان والأحجار والأناسى ،من له القدرة على أن يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته؟ وإذا كان الأمر كذلك من الوضوح والظهور فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والإفك الصرف والقلب عن الشيء. أي فكيف ساغ لكم أن تصرفوا عقولكم عن عبادة الإله الحق، إلى عبادة أصنام لا تنفع و لا تضر؟!.وكيف تتحولون عن التوحيد الى الشرك؟
وذكرت الآيات الغرض من البعث والمعاد : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ )وهذا أحد الأدلّة على لزوم الإعادة، فإنّها لأجل جزاء المحسنين بالقسط وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وأمّا جزاء الكافرين فيشير إليه بقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيم
كما تبيّن الآيات الأربع(7_ 10) حال منكري البعث والمؤمنين به، فالآيتان الأُوليان نازلتان في بيان حال المنكرين، والأخيرتان تبيّنان حال المؤمنين
(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ...مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *...
وتحدثت الآيات عن حشر الخلائق وتبرؤ الشركاء من المشركين ومن عبادتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) وغير ذلك
5_ قصص بعض الانبياء عليهم السلام
ذكر الله تعالى في السورة بعض قصص الأنبياء وكانت العبرة من إيراد هذه القصص الثلاث (قصة نوح، وقصة موسى، وقصة يونس) الرّد على شبهات الكفار التي منها أن النبي صلى اللّه عليه وآله كان يهددهم بنزول العذاب عليهم، ولم ينزل، فأبان اللّه تعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، بدليل أن اللّه أخّر العذاب عن قوم نوح، وفرعون، وقوم يونس، ثم أوقعه في الأولين ولم يوقعه في قوم يونس عليه السلام بسبب إيمانهم.
قد أرسل اللّه تعالى يونس ع إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فوعدهم بالعذاب بعد مدة، وذهب عنهم مغاضبا، وظهرت بوادره فآمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. قال تعالى : فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
ومن العناوين المطروحة في السورة
الايمان ومشيئة اللّه:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ99
والآية المباركة لا صلة لها بمسألة الجبر، وإنّما هي بصدد بيان نفي تعلّق مشيئته سبحانه بنوع خاص من الإيمان، أعني الإيمان الاضطراريّ الّذي لا يعدّ كمالاً، ولا موصلاً للسعادة.
انّ الإنسان فاعل مختار في أفعاله مخيّر في رسم مصيره وليس مسيّراً
وقد تعلّقت إرادته التشريعية على هداية الناس جميعاً فالدعوة إلى الهداية عامّة وقد شاء من الناس ان يهتدوا باختيارهم قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف:29
وقال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان:3
وأمّا الهداية التكوينية بمعنى إلجاء النّاس إلى الهداية وقهرهم عليها فغير موجودة، لأنّ مثل تلك الهداية لا تُعدّ كمالاً وعلى ضوء هذه الأُمور نفهم الآية. فالمعنى(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) إيمانا جبريا إلجائيا ومن دون اختيار بحيث يخلق الإيمان في قلوبهم شاءوا أو لم يشاءوا لكن هذا النوع من الإيمان والتصديق لم تتعلق مشيئة الله به والدليل هو ذيل الآية أي قوله تعالى:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
كما انه ليس لهذا الايمان قيمة، ولذلك نرى أنّه سبحانه لم يرفع العذاب عمن آمنوا عند نزوله.
وفي الرواية عن الامام الرضا(عليه السلام) انّ المسلمين قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنت لألقى الله عزّ وجلّ ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئاً (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص:86 فأنزل الله تعالى: يا محمد (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثواباً ولا مدحاً، لكنّي أُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين ليستحقّوا منّي الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنّة الخلد (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
_ضرب مثل الحياة الدنيا في سرعة زوالها وفنائها وأن الآخرة هي دار السلام.
_ بيان لبعض شؤون البشر وغرائزهم قال تعالى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، .. (12) وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ. كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
_ الإنكار على المشركين بالتحليل والتحريم للأنعام
59 قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (60
ذكر أولياء اللّه- أوصافهم وجزاؤهم [الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى..
_ الدعوة الى النظر والتفكير وإنذار المهملين [الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) ..(103)
فالنظر في ذلك يرشد إلى وجود الخالق ووحدانيه في الخلقية والربوبية ومن ثم يترتب على ذلك التوجه اليه وحده بالعبادة ، ويدعو إلى التصديق بالرسل، والإيمان بالقرآن والوحي.
إخلاص العبادة للّه تعالى ونبذ الشرك [الآيات 105 الى 107]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) ...(107)
_ وجوب اتباع الإسلام دين الحق [الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
هذا الكتاب السماوي، وهذا الدين، وهذا النّبي كلها حق، والأدلّة على كونها حقّا واضحة
ولست مأمورا بإجباركم على قبول الحق، لأن الإجبار على قبول الإيمان لا معنى له.
هذه الآية إضافة إلى أنّها توكّد مرّة أخرى مسألة الإختيار وحرية الإرادة، فإنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإنسان نفسه بالدرجة الأولى، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.
|