• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : سورة البقرةفي الخطوط العامة وحيثيات النزول‏ .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

سورة البقرةفي الخطوط العامة وحيثيات النزول‏

 

 


سورة البقرة:
في الخطوط العامة وحيثيات النزول‏


الشيخ سمير رحّال

سورة البقرة، أو السورة التي يذكر فيها البقرة، من السور المدنية ومن أوائل السور النازلة بعد الهجرة باستثناء قوله تعالى: }واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون{(281) وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم ولم ير بعدها سيد المرسلين مسروراً حتى توفي P.
وهذه السورة أطول سورة في القرآن الكريم تليها بقية السبع الطوال بتقديم المدني على المكي لا الطولى فالطولى ثم مزج المدني بالمكي في سائر السور.
كما أن المعتمد في ترتيب السور بحسب النزول هو ابتداؤها في النزول قبل غيرها ولا يشترط اكتمال آياتها قبل نزول أخرى، ونلاحظ أن النبي P كان يجعل آيات نزلت لاحقاً في سور متقدمة من حيث النزول ومن ذلك آية }واتقوا يوماً...{ وآيات أخرى.
في تسمية السور عموماً وسورة البقرة بالخصوص:
هناك بحث لدى المفسرين حول توقيفية أسماء السور وعدمه، أي هل أنّ هذه التسميات المشهورة والمعروفة للسور موضوعة من الله تعالى ومن نبيّه P أم أن المسلمين الأوائل هم من اصطلحوا على ذلك.
قال السيوطي: «وقد ثبتت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار...»  من ذلك ما رووه عن النبيP: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة».
وكذا ما في الصحيحين في قصة الرجل الذي أراد أن يتزوج امرأة وليس معه شي‏ء من المال فقال له النبيP ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا عدّها، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن». وغير ذلك من روايات تدل على اشتهار السور بأسمائها في عهد النبوة.
أما الزركشي الشافعي فقال: خاتمة في اختصاص كل سورة بما سميت:
ينبغي النظر في وجه اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعي في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشي‏ء... ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر ما فيها وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز...» .
ويظهر أنه ليس هناك جزم بتوقيفية أسماء السور وليس هناك إجماع على ذلك.
وقد جرى الأئمة الأطهارR على تسمية السور أو إطلاق التسمية المعروفة للسور على تلك السور وهذا ما يلاحظ بوضوح في الروايات التفسيرية الواردة عن الأئمةR وتلك الواردة في ذكر فضائل تلك السور منها على سبيل المثال ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللهQ قال: من قرأ سورة البقرة وآل عمران جاءتا يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل العباءتين».
في تسمية سورة البقرة:
لا شك أن إطلاق هذا الاسم على هذه السورة بمناسبة ورود قصة بقرة بني إسرائيل التي أمروا بذبحها على عهد موسىQ حيث وقعت حادثة قتل فاختلفوا في القاتل فأمرهم النبي موسىQ أن يذبحوا بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيحيا بإذن الله ويخبر بقاتله، وقد انفردت هذه السورة بذكر تلك القصة في الآيات (67 - 73) فسميت لأجل ذلك بسورة البقرة. وقد ذكر العديد من المفسرين أن الغرض من هذه التسمية هو لأخذ العبر وعدم سلوك مسلك اليهود في اللجاج والمجادلة والعناد في تنفيذ الأوامر حتى لا نصاب بمثل ما أصابهم ولنكون على النقيض من ذلك من حسن الطاعة والانقياد وليكون دأبنا وقولنا على الدوام «سمعنا وأعطنا» لا سمعنا وعصينا كما قال اليهود.
ولكن اشتمال هذه السورة على قصة البقرة واشتهارها بها لا يجعلها اسماً لها. ويقول آية الله جوادي آملي ما مضمونه: من البعيد أن تكون هذه السورة المشتملة على المعارف والحكمة والكثير من الأحكام مسماة باسم حيوان، كذلك سورة الأنعام، المشتملة على أربعين احتجاج وبرهان على التوحيد، وكذلك سورة النمل الحاوية على المعارف العميقة وقصص الأنبياء، والمائدة المشتملة على آية الولاية باسم سفرة بني إسرائيل، ولذا فإن بعض المفسرين بسبب هذا احترزوا عن تسميتها وعنونتها بالبقرة وذكروا بدلاً من ذلك عنوان: السورة التي يذكر فيها البقرة. كالطبري في جامع البيان والسيد الرضي في المجازات النبوية . وعلى هذا فذكرها بهذا الاسم هو للمجاراة وليس من باب التسمية.
فضائل هذه السورة:
سئل النبيP أي سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة . قيل أي آية البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي.
وعن الإمام الصادقQ: إن لكل شي‏ء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي .  فهي من أهم السور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل كنوزها، ومن لباب المعارف الإلهية أسرارها ورموزها وفيها أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي) وأجمع آية للكمالات الإنسانية (أية البر 177) وآخر آية نزلت على صاحب النبّوة وفيها شرعت جملة من أركان الدين... فحق أن تسمى سنام القرآن وسنام كل شي‏ء ذروته وأعلاه .
وورد عن رسول اللهP قوله: من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئاً يكرهه ولا يقربه الشيطان ولا ينسى القرآن» .
كما ورد في خصوص آية الكرسي في السنّة الشريفة ما يدل على فضلها والتوصية بقراءتها وحفظها لما فيها من الآثار العجيبة، وورد استحباب قراءتها في مواضع عديدة منها عند السفر وبعد الصلاة، وبعد الوضوء، وعند المريض وحال النزع وسكرات الموت وغير ذلك.
وينبغي التذكير هنا بأنه قد ورد عن المعصومينQ: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» و«ليس القرآن بالتلاوة ولا العلم بالرواية ولكن القرآن بالهداية والعلم بالدراية» ولذا فإن ما ورد في فضيلة قراءة القرآن أو سوره وآياته ليس المقصود فيه صرف القراءة والتلاوة بل حق التلاوة كما ورد في هذه السورة }الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون{ (البقرة: 121).
زمان ومكان نزول السورة:
هي أول سورة مدنية نزلت بعد هجرة النبيP إلى المدينة المنورة، وهي نزلت في أغلبها في مقطع زمني قليل من بدايات الهجرة وحتى معركة بدر في فترة بين اثني عشر وثمانية عشر شهراً، باستثناء بعض الآيات التي نزلت بعد معركة بدر وإلى آخر حياة النبي الأكرم P مثل الآيات 196 إلى 203 النازلة في حجة الوداع والآية 281 «واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله...» التي كانت آخر ما نزل على النبيP وكذلك آيات الربا التي نزلت بعد سورة آل عمران.
وهذه الآيات المتأخرة نزولاً ألحقت بسورة البقرة بأمر من النبيP.
كما أن من خصائص هذه السورة أن فيها حديثاً عن تعليم أسماء وحقائق الأشياء للإنسان الكامل دون غيرها من السور.
كما أن فيها أطول آية في القرآن وهي آية الدَين (آية 283).
تأثير فضاء نزول السورة (مكان - زمان - الجماعات...) على محتوى ومضمون السورة:
مثل: التركيب الخاص للمجتمع المدني فنزلت الآيات:
3 - 20 للحديث عن المتقين والكافرين والمنافقين.
40 - 152 للحديث عن اليهود وهم أهم الجماعات المخالفة للإسلام والموجودة في المدينة وهذا ما يفسر كون ثلث السورة للحديث عن تاريخهم وصفاتهم وأخلاقهم وعن نِعَم الله الكثيرة عليهم والعهود والمواثيق التي أخذت عليهم فنقضوها واستحقوا أن يستبدل الله بهم غيرهم.
- ملاحظة: خلال هذه الآيات المتقدمة كان يتم التعرض لموضوعات أخرى مثل قصة نبي الله إبراهيمQ (124 - 143) والتي هي بحسب تعبير العلامة الطباطبائي بمثابة مقدمة وتأسيس للكلام عن تغيير القبلة وأحكام الحج.
- لأن فئة المنافقين وجماعتهم لم تكن مشهورة وواضحة المعالم في زمن نزول السورة وما سبقها من المرحلة المكية والذين عبرت السورة عنهم بتعبير (من الناس) وليس بعنوان المنافقين، فلم يتم التطرق لهم إلا في آيات محدودة مثل آيات (8 - 20) و(206) و(204).
- وكانت وضعية المسلمين وفقرهم حيث هاجروا وتركوا أموالهم وما يملكون في مكة وفي المقابل ما كان يتعامل به اليهود من الربا وظلمهم الناس في هذا، كانت الأجواء تستدعي نزول آيات تحث على الإنفاق والقرض الحسن لتحصين المجتمع ورفع حاجات أفراده فنزلت الآيات (195) (215) (245) (261 - 274).
- كما أن نتيجة المخاطر التي كانت تتهدد مجتمع المسلمين وكيان الإسلام كان لا بد من التوجيه لإعداد العدة والتجهز لمواجهة حروب مقبلة للدفاع عن الوجود والكيان فكان نزول لآيات الجهاد والشهادة مثل الآيات (153 - 157) (190 - 195) و (224 - 252).
وقد قال تعالى في تسويغ هذه الحروب «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين» البقرة 251 فالقتال والجهاد إنما هو للإصلاح ودفع الفساد ورفع الطغيان وليأمن المظلومون من العباد ولتسود العدالة بين بني الإنسان.
الخطوط العامة للسورة:
هذه السورة ذات مقدمة وقسمين أساسيين وخاتمة.
أما في المقدمة فقد مهدت السورة للدخول في القسمين بعدها بالحديث عن أمور ثلاثة:
الأول: بيان طوائف وأصناف الناس إزاء هداية القرآن الذي وصفته الآيات بأنه لا ريب فيه وقد استغرق ذلك عشرين آية من بداية السورة إلى قوله تعالى (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شي‏ء قدير) (آية 20).
فكان حديث عن صفات المتقين في الآيات (1 - 5).
(الإيمان بالغيب، إقامة الصلاة، الإنفاق في سبيل الله، الإيمان بما أنزل على النبيين جميعاً واليقين بالآخرة) وقد تكررت مادة التقوى خلال السورة بضعاً وثلاثين مرة دون غيرها من السور.
- وصفات الكافرين في الآيات (6 - 7) (لا ينتفعون بالنذر، ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة).
- وصفات المنافقين: (8 - 20) ويلاحظ التعبير عنهم ب «من الناس» وليس بالمنافقين حيث لم تظهر جماعتهم بشكل جلّي بحيث تميزوا كجماعة إلا بعد معركة بدر واشتداد شوكة المسلمين.
ومن صفاتهم أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، في قلوبهم مرض، ادعاء الإصلاح، الخداع، الاستهزاء...
الثاني: الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وعبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده وتحدي المرتابين بأن يأتوا بمثله وقد استغرق ذلك تسع آيات (21 - 29).
وهذه الدعوة إلى الإيمان مقرونة بالدلائل الجلية على وحدانية الله وربوبيته المطلقة وبيان جميل نعمه المقتضي للتوجه إليه وحده بالعبادة.
الثالث: قصة استخلاف آدم وتعليمه الأسماء وقد استغرق ذلك عشر آيات (30 - 39).
محوران أساسيان لسورة البقرة:
ثم كان حديث ضمن محورين أساسيين أحدهما عن بني إسرائيل وذلك بدءاً من الآية الأربعين من السورة واستغرق الحديث مساحة كبيرة من السورة ختمت بمسألة تحويل القبلة.
والآخر تناول مختلف ما له علاقة بتنظيم شؤون جماعة المسلمين المتكونة حديثاً وما يلزمها من تشريعات وتوجيهات تنأى  بمجتمع المسلمين من أن يصيبهم ما أصاب اليهود من قبل، ولذلك كان الحديث في المحور الأول بمثابة إعطاء نموذج حيّ لتجربة أمة فشلت في أداء دورها المنوط بها وليس على هذه الأمة المتكوّنة حديثاً إلا الاستفادة من العبر والالتزام بمقتضيات الاستخلاف والالتزام بالتشريعات والتوجيهات الصادرة عن المولى عز وجل.
القسم الأول: بنو إسرائيل - تاريخهم - صفاتهم.
لقد كان من الطبيعي أن تتصدى هذه السورة المباركة لعرض تاريخ بني إسرائيل وتبيان صفاتهم كونها أول سورة نزلت بالمدينة حيث كان لليهود وجود بارز وفاعل والذين سيكون للمسلمين مخالطة واسعة معهم.
فهم من جهة يشتركون مع المسلمين في كونهم أمة نزل فيهم كتاب الله (التوراة) وجاءتهم رسل الله فدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين دون تفريق، بل كانوا ممن أخذ عليهم العهد والميثاق على الإيمان بمن سيأتي من رسول والمقصود به محمد P وكان ذلك هو الداعي لمجيئهم إلى المدينة انتظاراً لظهور هذا النبيP.
}ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به...{ (89).
لذلك كانت السورة تخاطبهم في بداية هذا المحور وتذكرهم بنعمه تعالى المتعددة، والميثاق الذي أخذ عليهم.
قال تعالى: }يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به...{ (البقرة: 40 - 41). وتصديق القرآن لما معهم هو تصديق إجمالي لمبادى‏ء الإيمان المشتركة في الديانات ولا يعم هذا التصديق ما أحدثوه من باطل وافتراءات على الله ورسله.
- فهم افتروا على الله تعالى فوصفوه بما لا يليق به وجعلوه إلهاً خاصاً بهم وليس كما هو رب العالمين، وجعلوا الجنة حكراً عليهم }وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى...{ (111) }وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة{ (80) وعادوا الملك جبرائيل قال تعالى: }من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله...{ (97).
وحرفوا كتاب الله واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً }... وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون{ (75) وغيرها من الآيات.
وافتروا على أنبياء الله تعالى وقتلوهم }... أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون{ (87).
- ذكرت الآيات العديد من النعم التي أنعمها الله عليهم:
الانجاء من آل فرعون }وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب{ (49). التفضيل على العالمين بإنزال الكتب وبعث الرسل فيهم، إنزال المن والسلوى...
- ذكرت الآيات بعض صفاتهم وهي:
- الجدل الشديد وقصة البقرة خير شاهد على لجاجهم وعنادهم حيث كان المطلوب منهم أن يذبحوا بقرة أياً كانت أوصافها ولكنهم ضيقوا على أنفسهم وشددوا فضيق الله عليهم وانحصر أمر البقرة في بقرة عزّ وجودها اشتروها بمل‏ء جلدها ذهباً فذبحوها وما كادوا يفعلون.
- التحايل على شرع الله تعالى كما يظهر في قضية يوم السبت حيث منعوا من الصيد فاحتالوا لذلك فكان عقابهم (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (65).
- العناد الشديد وعدم الخضوع للحق على رغم كل البينات والدلائل والنعم.
- كما أنهم ماديون لا يخضعون إلا للمادة والحسّ فتارة يقولون لموسى Q: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)(50)، وأخرى يقولون: }لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض.... قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير...{(61).
فالآيات (42 - 123) تلخص تاريخ بني إسرائيل كله، حيث الكفر وتكذيب الأنبياء وقتلهم، كما تذكر خسيس صفاتهم مما تقدم ذكره.
كل ذلك لمعرفة حقيقتهم وكيفية التعاطي وتوخي الحذر معهم لأنه لا يؤمن جانبهم ولا يركن إلى عهودهم ومواثيقهم بل هم أشد عداوة للذين آمنوا حسداً من عند أنفسهم وتعصباً }وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين{ (111). وهم أمة ينطبق عليهم قوله تعالى: }وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم...{ (محمد: 38) وقد انتقلت هذه المهمة، مهمة الاستخلاف والشهادة إلى الأمة الإسلامية التي أسست أركانها في المدينة المنورة على يد النبي الكريمP. ولكن الله تعالى يقصّ علينا قبل ذلك تجربة نبي الله إبراهيمQ وهو وإن سبق نبي الله موسىQ في الزمن ولكن ذكره هنا وفي هذا الموضع (آية 124) وما بعدها وقبل الحديث عن المؤمنين وتنظيم شؤون حياتهم بمثابة وصلة بين الحديث عن بني إسرائيل من جهة وجماعة المؤمنين من جهة أخرى.
والوجه في ذلك:
إن إبراهيمQ كان مورد تكريم واحترام وقبول الجميع حيث ينسب اليهود أنفسهم إليه، وكانوا يعبدون الله في الكعبة على دين إبراهيم، كما أن المسلمين يؤمنون به بل هو أساس تسميتهم بالمسلمين كما قال تعالى: }ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين...{ كما أن الأمتين ينتهيان بالنسب إلى إبراهيمQ.
وقد بدأ سبحانه في ذكر قصة إبراهيم بذكر الابتلاء والامتحان الذي نجح فيه فجعله الله إماماً فسأله الإمامة لبعض ذريته (ومن ذريتي) الصالحين منهم وقد آتاه الله ذلك كما ورد في قوله تعالى }فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً{ ولكن هذه الإمامة لا تجتمع مع الظلم، وعهد الله لا يكون لظالم كما قال تعالى }لا ينال عهدي الظالمين{(124) ولا يكون السفيه إمام التقي (كما في رواية) ولقد دعا إبراهيمQ وإسماعيلQ الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولا منهم }ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك...{ (127 - 128).
وقد قال رسول اللهP: «أنا دعوة أبي إبراهيم... فاتخذني الله نبياً وعلياً وصياً». فالرسول الذي ظهر فيهم إنما هو من دعائه وملته هي ملة أبيهم إبراهيمQ. كما أن النبي يعقوبQ الذي يفخر اليهود بأنهم أبناؤه إنما أوصى كما أوصى من قبل إبراهيمQ نبيه أن لا يموتوا إلا مسلمين(132 - 133).
فهذا المقطع القرآني يذكر بنبي الله إبراهيم Q كصاحب تجربة ناجحة في الحفاظ على العهد الإلهي، فهو دعا إلى التوحيد وحارب الشرك والمشركين وصبر على الأذى وأوقدوا النار ليقتلوه وأمره ربّه بذبح ولده فوفّى (وإبراهيم الذي وفّي...) فقرّبه الله إليه واختاره واجتباه إماماً، والإمامة ليست قائمة على المحاباة وإنما على الطاعة وحسن الانقياد.
فاللازم هو اتباع ملة إبراهيم Q حنيفاً، الذي ما كان يهودياً ولا نصرانياً، ولكن حنيفاً مسلماً، فالهداية منحصرة في اتباع ملته، وقد اتبعه في ذلك موسىQ وعيسىQ ونبي الله محمدP الذي قال بعثت بالحنيفية السمحاء، وأنا على دين جدي إبراهيم. ولذلك لما كانت الحنيفية الإبراهيمية هي الجامع لكل الديانات التوحيدية والموافقة للفطرة السليمة وأنها دين الله تعالى على لسان الأنبياء وإن اختص كل منهم ببعض الأحكام والشرائع }لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً{ كانت الدعوة للجميع }قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون{ (139) وغير ذلك من الآيات التي تصرح بأن الإسلام هو دين الله الذي جاء به الأنبياء }إن الدين عند الله الإسلام{ وبالتالي }ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه{ وهو دين إبراهيم Q أيها اليهود المدّعون والمتعصبون }أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله...{ (141).
واليهودية والنصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم Q وأولاده يقرون فادعاؤهم بأنهم كانوا هوداً أو نصارى باطل قال تعالى: }يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون{ (آل عمران: 65).
فليس لأهل الكتاب، إلا أن يذعنوا ويؤمنوا بنبي الله P ودينه الحق }فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم{(137).
لكن ما هو حال السابقين والصالحين الأوائل من اتباع الرسل والأنبياء لا سيما موسىQ وعيسىQ والحال أنهم ما أدركوا الإسلام بصيغته الخاتمة يأتي الجواب الجامع في هذه السورة المباركة: }إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون{(62).
فالانتقال من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب الأمة المتكونة حديثاً، كان بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى Q وقوم محمد من نسب إبراهيمQ والاتفاق على فضله وهدايته.
تغيير القبلة اختبار للطاعة وأمر بالتميز:
ثم كانت مسألة تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة بعد أن صلّى النبيP طوال الفترة المكية وسبعة أشهر بعد مهاجرته إلى المدينة، وقد كان اليهود يعيّرون على رسول اللهP ويقولون له أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا فكان يغتم الرسول لذلك حتى كان الأمر له بالتوجه إلى المسجد الحرام }قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام{(144) فقالت اليهود والسفهاء }ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها{ والكعبة هي قبلة إبراهيمQ وهي أقدم القبلتين.
وقد أنكر اليهود على المسلمين واعترضوا على حكم تغيير القبلة سفهاً منهم وجهلاً بحقائق الأمور وتعصباً لأنفسهم وزعماً منهم أن الحكم النوعي إذاحصل من الله تعالى لا بد أن لا يتغير وأن نسخه يستلزم الجهل، ولكن الله تعالى يردّ عليهم بأن بيده تعالى أزمّة التكوين والتشريع يفعل ما يشاء وفق ما يقتضيه علمه وحكمته، ووفق ما تقتضيه مصالح العباد }قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم{(142) وما كان اعتراضهم على ذلك إلا تعصباً لأنفسهم، واعتقاداً منهم بأحقية ما هم عليه من التوجّه إلى قبلتهم (جهلاً وسفهاً)، ورغبة في أن يكونوا متبوعين لا تابعين.
وقد بيّن تعالى بعض وجوه الحكمة في جعل القبلة، وذلك للتمييز بين متابعي الرسولP والثابتين على الإيمان ممن ينقلب ويرتد. }وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه...{(143). ولئن عظم أمر تحويل القبلة على أهل الكتاب والمنافقين ولكن المؤمنين لم يفرقوا بين القبلتين المحول عنها والمحوّل إليها لأن ذلك كلّه من أمر الله.
فكانت مسألة تحويل القبلة بمثابة إختبار للطاعة ومدى انقياد المؤمنين لأوامر الله ورسوله، كما أن هذا التشريع بمثابة الخطوة الأولى لتميّز جماعة المؤمنين التي ستقود عملية الاستخلاف بدلاً من الأمم السابقة التي فشلت في ذلك ولا بد أن تكون متميزة وأحد موارد تميزها هو في مسألة القبلة والتوجه نحو المسجد الحرام والكعبة المشرفة وهي أول قبلة شرعت في الأديان السماوية وإن كان الأمر }أينما توليتم فثم وجه الله{.
تبصرة: كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء الله تعالى، كذلك التوجه إلى جهة معينة ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: }ولكل وجهة هو موليها{ (148) ولا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة وإن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلا أن ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب والروح والمعبود...» .
القسم الثاني: وضع الأسس التي تقوم عليها حياة جماعة المسلمين وقد تمثل ذلك في وضع التشريعات والأحكام الفقهية التي تساهم في استقرار وانتظام مجتمع المسلمين وذلك على مختلف المستويات العبادية والاجتماعية والاقتصادية نذكرها تباعاً:
على المستوى العبادي والمحرمات:
إقامة الصلاة في الآيات (110، 117، ...).
الصيام وأحكامه في الآيات (183 - 187).
الحج والعمرة في الآيات (196 - 203).
الجهاد والدفاع (190 - 194) و(216 - 218).
حرمة القتال في الأشهر الحرم إلا دفاعاً ولا عند المسجد الحرام إلا كذلك للدفاع }يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله...{(217).
}ولا تقاتلوهم في المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه...{(191).
الأيمان والإيلاء (224 - 227).
المحيض وحرمة إتيان النساء فيه (222).
حرمة شرب الخمر والقمار (219).
الوصية وأحكامها (180 - 182).
ما حرمه الله من طعام (173) }إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير...{.
حرمة أكل المال بالباطل }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...{(188).
- الأحكام الأسرية: من الزواج والطلاق والعدة وخطبة المعتدة ونفقتها ومتعة المطلقة (223 - 242).
ويلاحظ في هذه الآيات التي تقارب العشرين آية تركيز على ضرورة حضور التقوى والإيمان والأخلاق في التعاطي الأسري سواء أنثاء البناء الأسري أو بعد انفكاك عراه. وهناك استعمال لألفاظ تحمل كل معاني التعاطي الإيجابي من هذا القبيل:
كلمة المعروف: قال تعالى }فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف...{(231).
قال تعالى: }فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن (بعد انقضاء المتوفى عنها زوجها) بالمعروف{ (243).
قال تعالى: }ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين{(236).
قال تعالى: }وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين{ (241) وغير ذلك من آيات.
}ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف...{ (228).
التقوى: }واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير{(233).
العفو }وإن تعفوا أقرب للتقوى...{ (237).
الإحسان: }الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان...{(229).
الفضل: }ولا تنسوا الفضل بينكم...{(237).
كما أن كلمة حدود الله تكررت ست مرات في آيتين من آيات الطلاق (229 - 230).
}... تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون{(229).
}وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون{(230).
ولو التزم المسلمون وأفراد الأسر بهده التوجيهات الإلهية لصلح أمر الناس ولكن أكثر الناس استبدلوا الخلق والإيمان والتقوى في إدارة بيوتهم ومشاكلها بالاعتداء والإيذاء وحب الانتقام والتجاوز لكل الحدود والأحكام الإلهية العادلة.
والأحكام المذكورة في هذاالمجال:
- تحريم نكاح المؤمنين المشركات وإنكاح المشركين المؤمنات (221).
- حكم الإيلاء من النساء (226 - 227).
- أحكام الزوجية من الطلاق والرضاعة والعدة والنفقة للمعتدة (228 - 237، 241).
- تحريم إتيان النساء في المحيض (222 - 223).
التشريع الجنائي:
أحكام القصاص في القتلى: }يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ...{ (178).
}ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب{ (179).
أحكام اقتصادية: كالإنفاق بشكل عام (آية 254) والإنفاق في سبيل الله كالاستعداد للقتال واكتساب القوة لردع العدوان }وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...{ (195).
النفقات والمستحقون لها من الناس: }... وما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى...{ (215).
}ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو...{(219) وأيضاً (273).
حرمة الربا ووجوب انظار المعسر }... وأحل الله البيع وحرم الربا...{(275 - 280).
أحكام الدين وما يقارب العشرين حكماً في الأمور المالية والرهن والاستيثاق في الآيتين (282 - 283).
موضوعات أخرى عامة تناولتها السورة:
- النبوة العامة، تحريف الكتب السماوية السابقة، إعجاز وعظمة القرآن.
- تاريخ بعض الأنبياء مثل النبي إبراهيم - النبي موسى - واستخلاف آدم Q.
توجيهات عامة في السورة:
- إن السعادة في اتباع دين الله والشقاء في الإعراض عنه: }قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون...{ (38 - 39).
- ضرورة إيثار وترجيح الخير على الشر والأعلى على الأدنى قال تعالى في مقام الإنكار على اليهود }أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير...{(61).
}ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه...{(130).
- أن الجزاء تابع للإيمان والعمل }وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى... بل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون...{(111 - 112).
- أهمية الصبر والصلاة والاستعانة بهما في تحقيق المرادات }يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين {(153).
وكان النبيP إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة، وقيل أن ابن سينا كان إذا عرضته مشكلة قام إلى الصلاة فأدى ركعتين فيلهمه الله حلّها. وكذا هو الحال في عظائم الأمور.
- بطلان تقليد الآباء والأجداد وأن الحق هو الأحق بالاتباع وقد فرّق العلماء بين جانبين الجانب العقيدي فلم يجيزوا التقليد بل لا بد من الاعتقاد المبتني على دليل وبين الجانب الشرعي والأحكام الفرعية وهذا ما لا إشكال في التقليد فيه.
قال تعالى: }وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون{(170).
- عدم التعرض لموارد الهلكة }ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة{(195)، وذلك باجتناب أسباب التهلكة سلبية أم إيجابية، بفعل ما يؤدي إلى التهلكة أو بترك ما يؤدي تركه إلى الهلكة.
- ضرورة تحصيل وتحقيق الأهداف والمرادات من طرقها الشرعية قال تعالى: }ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها{(189).
ولكل شي‏ء أسبابه، ولكل غاية وهدف أبواب، فالعلم يطلب من أصحابه والفقه يطلب من كتاب الله وسنة نبيه وآله P وتحصيل الرزق له أسبابه الطبيعية والمشروعة، ولا يطلب النصر بالدعاء فقط بل بالإعداد والاستعداد ولا يطلب الرزق بالكسل والاسترخاء، ولا يطلب بالوسائل المحرمة بل بما أحله الله من طرق...
- الجزاء لمن عمل فلا يجزى إلا به ولا يجزى سواه، فلا ينفعه عمل غيره ولا يضره كما قال تعالى: }وأن ليس للإنسان إلا ما سعى{(النجم: 39)، }واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون{(281)، }لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت{ وغير ذلك من التوصيات.
وقفات تفسيرية: آية البرّ.
قال تعالى: }ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون{(177).
وهذه الآية تشتمل على أصول المعارف الإيمانية من الاعتقاد بالمبدأ والمعاد والكتب والرسل وأصول الأعمال الصالحة وهي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وأصول مكارم الأخلاق والمعاشرة بين الناس من الوفاء بالعهد والصبر فهي آية جامعة للاعتقادات والأعمال والأخلاق لذلك ورد عن نبينا محمد P: «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».
وقد قيل أن كثر الجدال والخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وطالت المشاجرة فنزلت الآية، وسياق الآية يدل على ارتباطها بمسألة القبلة والله تعالى قال لا تجعلوا أمر الاتجاه إلى الكعبة هو كل البرّ وإنما البرّ مفهوم أوسع يشمل الإيمان والتقوى والصدق والطاعة وكل وجوه الخير.
وقد عدل تعالى عن تعريف البرّ (بالكسر) إلى تعريف البرّ (بالفتح) أي المتصف بوصف البر، (بياناً وتعريفاً للرجال مع تضمنه لشرح وضعهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي من المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبيّن المقامات ويشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب»   فالآية إذن تعريف للأبرار وبيان لحقيقتهم.
فعلى مستوى الإيمان: فهم المؤمنون الإيمان التام الشامل للإيمان بالله الواحد واليوم الآخر، والكتب والنبيين. والمراد بالكتب كل الكتب المنزلة على الأنبياء ذات المصدر الواحد وهو الله، والقرآن أتمها وأكملها وخاتمها والمهيمن عليها والمصدق لما قبله وهو المشتمل على التوجيهات الربانية والأحكام والتشريعات الإلهية، والموسوم من الحق تعالى بأنه حق (لا ريب فيه) ولو كان هناك اختلاف فهو في بعض الأحكام ومراعاة لمصالح العباد وسيرهم التكاملي.
وكذلك الإيمان بالنبيينQ هو إيمان بهم جميعاً (لا نفرق بين أحد من رسله) ولا ينافي ذلك التفضيل لبعضهم ولا سيما لخاتمهم رسول الله محمدP وقد قال تعالى: }ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ... ورفع بعضهم درجات{.
أما على مستوى العمل الصالح: فذكر تعالى من أوصافهم: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، وإيتاء المال.
وإقام الصلاة هو أداؤها كاملة بحدودها، والمواظبة عليها والمحافظة على أوقاتها وأداء حقها والاستفادة من آثارها: }إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{(العنكبوت: 45) وبها تهذيب النفوس.
وإيتاء الزكاة هو صرف المال المفروض  إعطاؤه على الوجه المطلوب شرعاً وهي من فروع الدين وقرن الله تعالى بينها وبين الصلاة في العديد من الآيات }ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة{ (التوبة: 71) فصرف المال في وجوه الخير قد يكون واجباً ومفروضاً كما في الزكاة وقد يكون مندوباً ومستحباً وهو المستفاد من قوله تعالى: }وآتى المال على حبه...{ في أول الآية فهذا المقطع ناظر إلى وجوه البر المندوبة كإعانة المحتاجين.
وهذه الأوصاف المذكورة للأبرار على مستوى الإيمان والعمل هي إعادة لما سبق ذكره من وصف المتقين في بداية  السورة: }ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون...{ (البقرة: 2 - 5) ولذلك وصفتهم الآية في آخرها }وأولئك هم المتقون{.
أما على مستوى أخلاقهم فقد ذكرت الآية وصفين: الوفاء بالعهد ويشمل الوعود والعقود والعهود مع الخلق ومع الخالق. قال تعالى: }أوفوا بالعقود...{.
}وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم...{.
}قد أفلح المؤمنون الذين... والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون....{ (المؤمنون: 8)، وغير ذلك من الآيات التي تبين أهمية حفظ العهد.
والصبر وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وكل شي‏ء يحتاج إلى صبر، والصبر ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية وصبر عند المصيبة.
وذكر الله تعالى ثلاثة موارد للصبر في هذه الآية:
في البأساء وهو البؤس والفقر.
والضراء وهي الألم والوجع والمرض وهي تصيب الجسد.
وحين البأس أي حين الحرب ومواجهة العدو.
والصبر في هذه المواطن يمكّن الإنسان على الصبر في غيرها من المواطن بطريق أولى.
«وهذان الخلقان وإن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما» .
الأبرار هم الصادقون والمتقون:
ومن التزم بمفردات البر المذكورة بالآية، فأولئك صدقوا في إعلان إيمانهم، حيث انسجمت ما نفوسهم وما يصدر عنهم مع مقتضيات هذا الأيمان }أولئك الذين صدقوا{ لمطابقة كلامهم لواقع حالهم، «والصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة والشجاعة والحكمة والعدالة وفروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد والقول والعمل وإذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يعتقد) .
ونتيجة صدقهم }وأولئك هم المتقون{.
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة هي أجمع أية للفضائل والكمالات الإنسانية ومن هنا صح القول في من عمل بها ما قاله رسول اللهP: «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».
آية الكرسي (255)
}الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم... ولا يؤوده حفظهما هو العلي العظيم{ وتسمية هذه الآية بآية الكرسي قد اشتهرت في صدر الإسلام وفي زمن النبي P وآله R وعلى ألسنتهم كما تفيده الروايات المنقولة عنهم.
وهي أعظم آية في القرآن الكريم، وسيدة آي القرآن والأخبار في فضلها كثيرة وتشتمل على جملة من المعارف الإلهية لا سيما المتعلقة بالتوحيد وبيان بعض الصفات الجمالية كالحياة والقيومية، والمالكية والربوبية، والعلم، كما تنزهه عما لا يليق به «لا إله إلا هو» }لا تأخذه سنة ولا نوم{ كما تثبت قانون الأسباب والمسببات وما يعبّر عنه بالشفاعة التكوينية وهي لا تنافي السلطان الإلهي لأنها بإذنه «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: فما من سبب من الأسباب ولا علة من العلل إلا وتأثيره بالله وتصرفه بإذن الله. وهنا وقفات قصيرة تفسيرية وكلامية.
ـ من أسماء الله ما له مقابل من قبيل «المحيي» يقابله «المميت» «والمعز» يقابله «المذل» لأنها صفات يظهر أثرها في غيره فهو مميت لغيره ومعزّ لغيره ومذل لغيره، ولكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات. فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير، لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها (كالعلم، والقدرة، والحياة و...).
ـ حياته تعالى «الحي» حياة حقيقية لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال قال تعالى: }وتوكل على الحي الذي لا يموت{ (الفرقان: 58) وغيره تعالى في معرض الزوال.
ـ قيوميته تعالى: «القيوم» والقيوم صفة مبالغة في قائم، وهي من أسمائه الحسنى ومعناه القائم بالأمر المتعهد بالحفظ والتدبير والمراقبة، والله سبحانه قائم بذاته وقائم على غيره }أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت{ (الرعد: 33) وتستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات الفعلية الإضافية كالخلق والرزق والاحياء والإماتة، والرحمة والغفران وغيرها.
ومن قيوميته أنه }لا تأخذه سنة ولا نوم{ فهو القائم على أمر السماوات والأرض ولو كانت تأخذه سنة (وهي أول ما يأتي من النعاس أو النوم الخفيف) لتحطمت الدنيا ولتعطلت شؤون الملك.
ـ }يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء{. تأكيد لسعة علمه وكمال إحاطته بالموجودات، وفي المقابل هناك نفي علم ما سواه به تعالى وبما يعلمه إلا إذا شاء، وما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى وبمشيئته وإرادته. ولا تقع منهم (الملائكة ـ الأنبياء...) ما لا يريده ولا يبلّغون إلا ما يشاء.
}وسع كرسيه السماوات والأرض{
والكرسي في اللغة من الكِرس وهو التجميع واستعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يبنى عليه الشيء، وتطلق أيضاً على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث.
«وكرسيه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتساباً اشراقياً وهو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود فيعمّ جميع الممكنات فكما أن في أسماء الله المقدسة اسماً جامعاً لجميعها (الله) فكذا لكرسيه جلت عظمته لحاظ إجمالي وهو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت وستوجد إلى الأبد .
وقد كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي الملك ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته.
والمراد بالكرسي في الآية اقتداره التام وسعة سلطانه وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس تقريباً للأفهام بما اعتادت من صفات الملوك والعظماء فشبّه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبّر لشؤونها.
معاني الكرسي الواردة في الروايات الشريفة:
1 ـ العلم فعن حفص بن غياث قال سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجلّ «وسع كرسيه السماوات والأرض» قال Q: علمه، فالكرسي من مراتب علمه تعالى.
2 ـ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب:
عن أبي عبد الله Q: «... ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيب، وهما جميعاً غيبان وهم في الغيب مقرونان لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب... والعرش هو الباب الباطن...
3 ـ شيء أوسع من السموات والأرض:
عن أبي عبد الله Q: «إن كل شيء في الكرسي».
وعنه Q: ما السموات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة .
ومحصل الكلام في العرش والكرسي أنهما إما معنويان روحانيان، أو جسمانيان أي عالم الأجسام ولا بد وأن نميز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة لئلا يختلط بعضها ببعض والقرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمل فيها .
خلاصة: هذه الآية الكريمة مترتبة، فكل سابق بمنزلة العلة اللاحقة، فالحياة المطلقة الذاتية علّة للقيومية كذلك، والقيومية المطلقة الذاتية علة تامة لعدم تحقق السِّنة والنوم والغفلة والفتور، والجميع علة تامة لسعة إحاطته وقدرته لجميع السماوات والأرض وما فيهما، والكل معلول إرادته التامة حدوثاً وبقاءً ذاتاً وصفة ومثل ذلك منحصر في الفرد وهو الله تعالى فهو العلي العظيم المنزه عن الند والشرك لا يجانسه أحد من مخلوقاته .


مصادر ومراجع البحث:
- القرآن الكريم
- تفسير مواهب الرحمن في تفسير القرآن - آية الله السبزواري {.
- تفسير تسنيم آية الله جوادي آملي.
- تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب.
- مجلة رسالة الإسلام.
- التفسير الموضوعي للقرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=246
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28