• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : سورة الحجرات «سورة الأخلاق و الآداب» .
                          • رقم العدد : العدد الواحد والعشرون .

سورة الحجرات «سورة الأخلاق و الآداب»

الشيخ سمير رحال

1_ مدخل في بيان المضمون الاجمالي للسورة:
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة و الشريعة      ومن حقائق الوجود و الإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية و آمادا بعيدة و تثير في النفس و الذهن خواطر عميقة و معاني كبيرة و تشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية و التهذيب، و مبادئ التشريع و التوجيه، ما يتجاوز حجمها و عدد آياتها مئات المرات!    ) في ظلال القرآن، ج‏6، ص: 3335(
اما تسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» فلورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها و«الحجرات»: جمع «حجرة»       وهي هنا إشارة إلى البيوت « بيوت جمع بيت و هذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] و هو مشتقّ من المبيت ليلا ...» المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد ... وكان للنبي (ص) تسع زوجات لكل واحدة منهن حجرة من جريد النخل، وعلى بابها ستار من الشعر.
وأصل الكلمة مأخوذ من «الحجر» أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان ...      والتعبير ب «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان!  
قال المفسرون: انطلق ناس من العرب الى المدينة، و وقفوا وراء حجرات النبي و نادوا يا محمد اخرج إلينا، فتربص النبي قليلا ثم خرج اليهم، و وصفهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعقلون لما في فعلهم ذاك من البداوة و الجفاء (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) .
لماذا سورة الأخلاق و الآداب؟
لانها اشتملت على جملة من الآداب الفاضلة، والأخلاق العالية الرفيعة، بها ينتظم الاجتماع المدني  ويستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع وتتم الحياة السعيدة للفرد  ولو أهملت تكون سببا للشقاء و النفاق و التفرّق و عدم الأمن ...كما نهت عن جملة من الرذائل والأخلاق المذمومة التي لها الآثار المعاكسة:
 * من الآداب التي تناولتها السورة : منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله (تعالى)، ومع رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة
  * من الأخلاق الإيجابية التي تناولتها السورة : التقوى, الصدق، التواضع ,الصبر، الحياء، التثبت، النصرة والنجدة، الإصلاح بين الناس، العدل، التآخي في الله، احترام الناس وتوقيرهم، حسن الظن، ستر المسلم على أخيه، البذل والسخاء، التعارف والتآلف, القول الحسن .
* من الأخلاق السلبية التي نهت عنها السورة: الرياء، الكذب، البغي، السخرية والاستهزاء، اللمز، التنابز بالألقاب، الغيبة، سوء الظن، التجسس، الكبر والعجب، المن .
وقد اجمل الرازي في التفسير الكبير مضمون السورة وقسم مكارم الاخلاق الواردة فيها الى خمسة اقسام صدّر كل قسم منها بنداء : ( يا ايها الذين آمنوا ) فقال:
 هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق
 و هي إما مع اللّه تعالى أو مع الرسول صلى اللّه عليه وآله  وسلم أو مع غيرهم من أبناء الجنس، و هم على صنفين، لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين و داخلين في رتبة الطاعة أو خارجا عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام :
أحدها: يتعلق بجانب اللّه و ثانيها: بجانب الرسول و ثالثها: بجانب الفساق و رابعها: بالمؤمن الحاضر و خامسها: بالمؤمن الغائب فذكرهم اللّه تعالى في هذه السورة خمس مرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و أرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة
فقال أولًا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ [الحجرات: 1] و ذكر الرسول كان لبيان طاعة اللّه لأنها لا تعلم إلا بقول رسول اللّه
 وقال ثانياً: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] لبيان وجوب احترام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
و قال ثالثاً: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة/ بينكم
و قال رابعاً: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] و قال: وَ لا تَنابَزُوا [الحجرات: 11] لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم و الازدراء بحالهم و منصبهم
 و قال خامساً: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] و قال: وَ لا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] و قال: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً   لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، و ذكر ما لو كان حاضرا لتأذى، و هو في غاية الحسن من الترتيب(مفاتيح الغيب، ج‏28، ص: 98)
يضاف الى ما تقدم جملة من المطالب والتشريعات :
_ الأوامر الإرشادية المتعلّقة بكيفية مواجهة الاختلافات و التنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين  ...
_ بيان معيار قيمة الإنسان عند اللّه و أهمية التقوى! ...
_ يعالج قضية الإيمان ليس بالقول فحسب بل لا بدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان و الجهاد بالمال و النفس- إضافة إلى الإعتقاد في القلب.
2_ في بيان القسم الاول من السورة (الآيات 1  الى 5)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‏ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب طاعة اللَّه تعالى و رسوله صلّى اللَّه عليه وآله سلّم، و تقديم حكم القرآن وقول النبي صلّى اللَّه عليه وآله سلّم على ما سواهما.
2- تعليم العرب و غيرهم مكارم الأخلاق و فضائل الآداب، إذ كان في العرب جفاء و سوء أدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم و تلقيب الناس.
5- وجوب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلّى اللَّه عليه  وآله وسلّم و الامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته، و إلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب  .
6- على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم بقولهم: يا محمد، و يا أحمد، و لكن: يا نبي اللَّه، و يا رسول اللَّه، توقيرا له.
و الآيات هذه على نحوين من التعليمات.
الأول: عدم التقدّم على اللّه ورسوله و عدم رفع الصوت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم . حيث يدل التقدم عليهما على خضوع الإنسان لهواه أو لفكره الشخصي أو لمزاجه الذاتي، بعيدا عن خط الإيمان  .
فمن الواجب على المؤمن أن يبقى مشدودا إلى أوامر اللّه و نواهيه، و إلى شرع الرسول و نهجه في قضايا السلوك       و الحياة، فلا يسبق بكلامه كلام اللّه، و بسلوكه شرع رسول اللّه، ليكون الخاضع للّه و لرسوله في كل شي‏ء، و على قاعدة الإحساس الدائم بحضور اللّه و رقابته.
 فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، و لا يقترح عليه في قضاء أو حكم ولا يتجاوز ما يأمر به و ما ينهى عنه     ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه .. تقوى منه و خشية، وحياء منه وأدبا ..
بل يجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: «وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ»: الإنسان: 30، و قال: «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ»: آل عمران: 68، و قال: «وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ»: الجاثية: 19.
وهذا هو الدخول في ولاية الله و الوقوف في موقف العبودية .
 و أدنى شي‏ء يتقي به الإنسان خالقه أن يكف عن قول: لو أحل اللّه هذا الشي‏ء الذي حرم، أو حرم ذاك الذي أحل،    ويا ليت النبي فعل كذا، أو لم يفعل الذي فعل، و ما الى ذلك من الجرأة و الجهل. و ترك الاقتراح و الاستعجال و الاندفاع  وإن الإنسان ليعجل، وهو لا يدري ما وراء خطوته. وإن الإنسان ليقترح لنفسه و لغيره، و هو لا يعرف ما الخير و ما الشر فيما يقترح. «وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا».
وإنه لمن البديهيات والمسلمات انه ما من شأن إلّا و للّه فيه حكم لا يجوز تجاوزه، و المتقون يبحثون أولا عن حكم اللّه قبل أن يبادروا بالعمل في أي حقل. و من هنا وجب التفقه في الدين و تعلم أحكامه تمهيدا للعمل بها
عن الامام الصادق (عليه السّلام) في تفسير قول اللّه سبحانه قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ قال: «إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالما؟ فان قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت، و إن قال: كنت جاهلا قال له: أ فلا تعلمت حتى تعمل فيخصم بتلك الحجة البالغة» « بحار الأنوار/ ج 2/ ص 29».
وروىسماعة عن الامام أبي الحسن عليه السّلام أنه قال: قلت له كل شي‏ء تقول به في كتاب اللّه و سنته أو تقولون برأيكم؟ قال: «بل كل شي‏ء نقوله في كتاب اللّه و سنته»
الأمر الثّاني تشير إليه الآية الثانية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
 و الجملة الأولى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، و النّبي له مكانته.
فرفع أصواتهم عند مخاطبته و تكليمه (ص) أرفع من صوته و أجهر لا يخلو من احد امرين: إما نوع استخفاف به و هو الكفر، و إما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه و هو خلاف التعظيم و التوقير المأمور به.
 
واذا كان رفع الصوت بلا ضرورة غير مستحسن، قال سبحانه: «وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»- 19 لقمان ج 6 ص 163 فكيف إذا ارتفع في محضر العظماء و مجلسهم؟ و الرسول الأعظم (ص) سيد النبيين و أشرف الخلق أجمعين.
أمّا جملة: لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ  ترك مخاطبة النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالنداء «يا محمّد» و العدول عنه بالقول: «يا رسول اللّه»! ...
وفي سورة النور الآية (63) منها: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً و قد فسّرها جماعة من المفسّرين بأنّه «عند ما تنادون النّبي فنادوه بأدب و احترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضا»
وهذا لون من ألوان الأدب الإسلامي في مخاطبة المسلمين للنبي، تقضي بمراعاة الإخفات في الكلام، أو الهدوء في الخطاب، بحيث تكون أصوات المسلمين أخفض من صوته، لتتميَّز طريقتهم في الحديث معه عن طريقتهم في الحديث العادي مع بعضهم البعض.
وقال جماعة من العلماء و المفسّرين أنّ الآية كما تمنع رفع الصوت عند النّبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته.
ونقل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: إنّ اللّه حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء « أصول الكافي- طبقا لما نقل في نور الثقلين، ج 5، ص 80.
نماذج لتصرفات في عصر النبوة منافية لتوجيهات الآيات
ففي حياة النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم موارد كثيرة يتقدّم فيها بعض الأفراد على أمر النّبي صلى اللّه عليه و آله    وسلّم أو يتخلّفون و يلوون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة و التوبيخ الشديد ... و من ذلك ما يلي ...
1_ حين تحرّك النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان و كان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان و منهم المشاة، و لمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول و أفطر ثمّ أفطر من كان معه، إلّا أنّ العجيب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النبي) و لم يوافقوا على الإفطار و بقوا صائمين فسمّاهم النّبي صلى اللّه عليه و آله     وسلّم بالعصاة « نقل هذا الحديث كثير من المؤرخين و المحدّثين و منها ما ورد في الجزء السابع من وسائل الشيعة، الصفحة 125، باب من يصح منه الصوم مع شي‏ء من التلخيص.»!
 2- و مثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن ينادي المنادي: «من لم يسق منكم هديا فليحلّ و ليجعلها عمرة، و من ساق منكم هديا فليقم على إحرامه» ثمّ يؤدّي مناسك الحج و أنّ من جاء بالهدي (و حجّه حجّ  إفراد ) فعليه أن يبقى على إحرامه ... ثمّ‏ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم «لولا أنّي سقت الهدي لأحللت، و جعلتها عمرة، فمن لم يسق هديا فليحلّ».إلّا أنّ جماعة أبوا و قالوا كيف يمكننا أن نحل و ما يزال النّبي محرما أليس قبيحا أن نمضي للحج بعد أداء العمرة و يسيل منّا ماء الغسل «من الجنابة» فساء النّبي ما قالوا     ووبّخهم و لامهم « بحار الأنوار، ج 21، ص 386 (بشي‏ء من التصرّف و الاختصار). ».
3- قصة التخلّف عن جيش أسامة حيث أمر صلى اللّه عليه و آله و سلّم  في مرض وفاته المسلمين أن ينفّذوا جيش أسامة بن زيد و يتحرّكوا إلى حرب الروم و أمر المهاجرين و الأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش ... حتى أنّه لعن المتخلّفين عن جيش أسامة و مع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النّبي في مثل هذه الظروف « ذكر هذه القصة مؤرّخون كثر في كتب التاريخ الإسلامي و هي من الحوادث المهمّة في تاريخ الإسلام «لمزيد الاطلاع يراجع كتاب المراجعات- المراجعة 90- منه »!! ...
4- قصة «القلم و الدواة» معروفة أيضا و هي في الساعات الأخيرة من عمر النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما أنّها مثيرة و الأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم بعينها هنا: «لمّا حضر رسول اللّه و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي: هلمّ اكتب لكم كتابا لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع، و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه كتابا لن تضلّوا بعده و منهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف عند رسول اللّه قال رسول اللّه قوموا» « صحيح مسلم، ج 3، كتاب الوصية، الحديث 22.»! ...
.... أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
حذرا من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ، مما قد يؤدي إلى الاستهانة به  و بأمره   ونهيه، فيقودكم ذلك إلى الابتعاد عن خط الإيمان بطريقة تلقائية لا شعورية، تبعا لما تتركه بعض الأوضاع من تأثير على بعضها الآخر، فالناحية السلوكية قد تترك تأثيرها على الناحية النفسية، و تؤدي بالتالي إلى لون معيّن من الانحراف.
كلام في حبط الاعمال وعلاقته بالآية
الإحباط في اللغة بمعنى الإبطال، يقال: أحبط عمل الكافر أي أبطله.
والمراد من الحبط في اصطلاح المتكلمين هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخرة .
و المشهور بين المتكلّمين الإماميّة كما يقول العلّامة المجلسي هو بطلان الإحباط و التكفير، غاية الأمر إنهم يرون أنّ تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى النهاية، و العقاب مشروط كذلك بأن يرحل من هذه الدنيا بدون توبة، و لكنّ العلماء المعتزلة يعتقدون بصحّة الإحباط و التكفير بالنّظر إلى ظواهر بعض الآيات و الروايات  بحار الأنوار: ج 5 ص 332  
 و يرى الخواجة نصير الدين الطوسي في كتاب (تجريد العقائد) بطلان القول بالإحباط، و استدلّ على ذلك بالدليل العقلي و النقلي، أما الدليل العقلي فهو أنّ الإحباط نوع من الظلم (لأنّ الشخص الّذي قلّت حسناته و كثرت ذنوبه سيكون بعد الإحباط بمنزلة من لم يأت بعمل حسن إطلاقا و هذا نوع من الظلم بحقّه)، و أمّا الدليل النقلي فالقرآن يصرّح فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ  (الزلزلة: 7 و 8 )
تجريد الاعتقاد: ص 327
فإن قلت: لو كان الإحباط باطلا فما هو المخلص فيما يدل على حبط العمل في غير مورد من الآيات التي ورد فيها أن الكفر والارتداد والشرك والإساءة إلى النبي  كما في هذه الآية أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَوغيرها مما يحبط الحسنات؟
الجواب :  إن القائلين ببطلان الإحباط يفسرون الآيات بأن الاستحقاق في مواردها كان مشروطا بعدم لحوق العصيان بالطاعات.  او ان الاستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن مشروطا بعدم لحوق العصيان، بل كان استقراره وبقاؤه هو المشروط بعدم لحوق المعصية.
قال الطبرسي في تفسير قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).( المائدة: 5)               وفي قوله: (فقد حبط عمله) هنا دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب، فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب، وإنما يكون له عمل في الظاهر لولا كفره لكان يستحق الثواب عليه، فعبر سبحانه عن هذا العمل بأنه حبط، فهو حقيقة معناه ".( مجمع البيان: 3 - 4 / 163، لاحظ أيضا ص 207، تفسير الآية 50 / المائدة) 
والإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلة التامة، فهكذا يصدقان مع وجود المقتضي الذي هو جزء العلة.
اما بخصوص الآية مورد البحث :
فرفع الصوت فوق صوت النبي (ص) وأمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة و الإهانة لشخص النّبي و مقامه الكريم فذلك موجب للكفر تتّضح علة الحبط و زوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل و يكون سببا في زوال ثواب العمل الصالح ...، و إلّا فهو إيذاء له و فيه إثم أيضا    ولا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السي‏ء باعثا على زوال ثواب الكثير من الأعمال.
  فإنه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة، كما   زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة   ... وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى و رغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات  والسيئات، إلّا أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات و السيئات المهمّة و لا يوجد دليل عقلي مخالف لها!  .   الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏16، ص: 513_ 514 (بتصرف)
قال في الميزان : وظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي ص و الجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط. وقد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر...
وقد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي ص و الجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث أدائهما أحيانا إلى إيذائه (ص)  و إيذاؤه كفر و الكفر محبط للعمل. (الميزان في تفسير القرآن، ج‏18، ص: 309) بتصرف
وقال بعضهم : لعل السبب يتلخص في أمرين:
أولا: إن أغلب الفرائض تروّض النفس و تطهّرها من الكبر. فاذا طغت النفس و تكبرت على القيادة الشرعية فقد تبين ان هدف الفرائض لم يتحقق، إنّها جميعا عرضة للاحباط لأنها لم تحقق أهدافها.
ثانيا: إن الولاية عمد الدين، فاذا سقط العمد ماذا يبقى من الدين؟ أليس الدين نظام اجتماعي متكامل يدور حول محور القيادة الشرعية؟ فاذا ذهبت انهار كل شي‏ء. (من هدى القرآن، ج‏13، ص: 369)
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ : تنبيه لمخاطر الغفلة عن بعض الاعمال     
إن أعظم الأمراض خطرا ذلك المرض الذي لا يحس به المبتلى، لأنه لا يبادر لمعالجته و قد لا يقتنع بالمعالجة، كذلك أخطر الذنوب الذنب الذي لا يشعر به المتورط فيه لأنه يسير به في طريق جهنم و هو يزعم أنه من أهل الجنة، و مخالفة النبي (ص) وحجج الله في أرضه  من هذه الذنوب.
وإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية الخوف فإذا ارتكبه مرارا يقل الخوف و الندامة و يصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن.
فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي‏ صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر. لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توقير الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من النفس وتتولى من سيّى‏ء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه و ذلك كفر. وهذا معنى وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لأن المنتقل من سيّى‏ء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشي‏ء قليلا قليلا حتى تغمره المعاصي و ربّما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك.
وبتعبير آخر فإن الآية تحذر من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ، مما قد يؤدي إلى الاستهانة به  و بأمره و نهيه، فيقودكم ذلك إلى الابتعاد عن خط الإيمان بطريقة تلقائية لا شعورية، تبعا لما تتركه بعض الأوضاع من تأثير على بعضها الآخر، فالناحية السلوكية قد تترك تأثيرها على الناحية النفسية، و تؤدي بالتالي إلى لون معيّن من الانحراف.        ( يتبع .... )
 
مصادر البحث :
1_ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي
2_ تفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية
3_ تفسير من وحي القرآن للسيد مجمد حسين فضل الله
4_ من هدى القرآن للسيد محمد تقي المدرسي
5_ الميزان في تفسير القرآن
6_ التفسير المنير في العقيدة و الشريعة و المنهج للشيخ الزحيلي
 7_ مفاتيح الغيب للفخر الرازي
8_ التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور
9_ الفرقان في تفسير القرآن للشيخ محمد الصادقي
10_ في ظلال القرآن  لسيد قطب
11_ محاضرات في الإلهيات للشيخ علي الرباني الگلپايگاني
 

  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=390
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16