• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : من التاريخ .
                    • الموضوع : الطوائف اللبنانية شعوب متعددة في التاريخ والجغرافيا الموارنة نموذجاً.. (4) .
                          • رقم العدد : العدد الثالث والعشرون .

الطوائف اللبنانية شعوب متعددة في التاريخ والجغرافيا الموارنة نموذجاً.. (4)

 الطوائف اللبنانية شعوب متعددة في التاريخ والجغرافيا   الموارنة نموذجاً.. (4)

الشيخ علي سليم سليم

لماذا لا يتصالح اللبنانيون مع تاريخهم ويقبلونه كما هو، وكما حصل بالفعل؟ لماذا يكون لكل طائفة تاريخ خاص ومستقل؟ لماذا لا نرتضي تاريخنا كما هو؟ هل الأهداف كانت منذ أن بدأت مرحلة الكتابة والتدوين هي الانتقاء حسب الأهواء والمصالح والتأسيس عليها بعدئذٍ لتغدو بعد ذاك مخزوناً من الجهد والإسهامات على تنوعها في هذه البقعة الجغرافية، كي يتسنى احتكارها حصرياً لجهة ما أو طائفة ما؟ أوليس هذا العبث الأثيم خيانة للتاريخ وللأمانة العلمية وللأجيال؟ّ! لماذا لا يملك أحد الجرأة على قول الحقيقة، وعلى كتابة الأحداث كما وقعت؟.. أسئلة كثيرة تطرح فهل يمكننا أن نحصل على إجابات شافية وافية تقنعنا وتزيل عنا أحجية الحيرة والتشكيك في أغلب ما يكتب أو يقال؟

ليس جديداً القول أن كلاَ يريد لبنان على شاكلته وعلى قياس مصالحه، ثمة من يريده جزيرة منفصلة عما يحيط به، وثمة آخر من يريده "بوابة عبور"...

وثالث يريده قلعة حصينة عصية تتحطم على صخورها غطرسة الجبارين، قوته من عزمه وإرادته.

ورابع يريده قوياً تنبع قوته من ضعفه! وقديماً قال جبران خليل جبران: "لكم لبنانكم ولي لبناني". فلبنان اليوم الذي نحب أرضه وسماءه وسهله وجبله وشطآنه ومياهه وأنهاره.. لكل أبنائه وأجياله، هو أمانة يجب حفظها وعدم التفريط بها، لا بالشعارات ولا بالخطب، بل بالعلم الجاد الدؤوب، ومعيار التفاضل وميزانه الإسهامات والانجازات التي تقدم لحفظ الوطن وحمايته والدفاع عنه واعماره وصونه، أن نعطي بلدنا دون منة عليه أو على الآخرين، دون أن ننفي نسبة الفخر في ذلك. فالوطن انتماء وليس فندقا نغادره اذا ساءت  الخدمات ..

المقاومون الذين قدموا التضحيات  في طريق تحرير الأرض والسيادة لم يطلبوا شيئا مقابل ذلك .. بل يساوى في هذا البلد العجيب بينهم وبين من انتهك السيادة  خدمة للعدو الإسرائيلي ...لا ندري إن كان هؤلاء الأبطال  سيدرجون في كتاب التاريخ ؟!..

 فهل هذا حلم يمكن لنا تحقيقه في غد..  بلدا قويا منيعا لا يجرؤ احد العدوان عليه  ، فإن أخفقنا في تحقيق ذلك، فعلى أبنائنا والأجيال أن لا تيأس في تحقيقه.. وأنى يكون ذلك إن لم نحصن بكل أسباب القوة ووسائل العلم والمعرفة ما دام هذا العدو الغادر جاثماً على حدودنا في فلسطين المغتصبة .

ويبقى لبنان على ما فيه من الانقسام والتشرذم والاختلاف على أغلب قضاياه، الأقوى في معادلة المنطقة، فيما العرب كالمعتاد ضائعون في أتون التوازنات الإقليمية والدولية، فاقدو الوزن، ولا اعتبار لهم إلا في ميزان التنافس بين الدول الكبار على منابع النفط وشركاته وفتح الأسواق أمام مختلف شركاتهم وسائر منتجاتهم بما فيها السلاح.

 

الطائفة المارونية:

الطائفة المارونية من الطوائف الأساسية في لبنان، ومن كبريات الطوائف الثلاث، وهي غنية عن التعريف إلا أن الجانب الذي أود الإضاءة عليه هو نقطة تحول مفصلي في تاريخها.

عند الحديث عن الطائفة المارونية في لبنان، من غير الجائز بحال عدم الوقوف عند مقررات "مجمع اللويزة الشهير" لما له من أهمية في مسيرة الطائفة المارونية وتبلور الوجهة السياسية لديها بدعم صريح من حاضرة الفاتيكان.

عقد هذا المجمع في دير اللويزة سنة 1736م وشكل محطة هامة في تاريخ الكنيسة المارونية، ولم يسبق أن رعت البابوية مجمعاً حظي بنفس الأهمية والخطورة باعتباره أول مجمع ماروني يقرر شرعية تحويل الكنيسة المارونية إلى كنيسة لاتينية تمارس الطقس اللاتيني... التي قررها البابا "إينوسنت" الثالث في رسالته إلى البطريرك أرميا العمشيتي كما ثبت هذا المجمع سيادة البابا على الهيئة الكهنوتية المارونية، بما فيها البطريرك الماروني الذي لم يعد فيما بعد أكثر من مطران..

وقرر المجمع تطوير الكنيسة ، ورفع المستوى الثقافي للقيّمين عليها، كي تتمكن من لعب دور سياسي قيادي ضمن الطائفة في إطار خطة استهدفت تأهيلها لتبني مشروع قومي سياسي يسعى إلى استقلال الكيان الماروني في جبل لبنان ضمن إطار المشاريع الغربية ولاسيما الفرنسية الطامحة إلى تفتيت السلطنة العثمانية واقتطاع قسم من أملاكها. "كانت صلة الموارنة بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذات فائدة لهم. ذلك أنها زودتهم بتأييد سياسي خارجي لم تعرف الطوائف اللبنانية الأخرى مثله. على أن الوجه الثقافي من هذه الصلة لم يكن أقل أهمية من الوجه السياسي، فكثير من الذين تخرجوا من المعهد الماروني في رومية عادوا إلى لبنان كرهبان، وراحوا ينشئون المدارس في القرى لنشر التعليم بين أبنائها...

وإلى جانب ذلك كله، كان للكنيسة الكاثوليكية الرومانية نفوذها السياسي المباشر في لبنان، ومسموعة الكلمة في الشؤون اللبنانية"([1]).

لقد أصبح الأكليروس الماروني بفضل مقررات مجمع اللويزة قوياً منظماً نشيطاً متعلماً متحرراً من النفوذ الإقطاعي المسيحي.. ومتمتعاً بالتالي بإمكانيات كنسية ومالية وسياسية أكثر شمولاً، لقد تحول الموارنة بذلك من ملة إلى طائفة ذات بنية اجتماعية متجددة، وقيادة سياسية متنورة، وأفق سياسي واسع يتمثل بشعار "الإمارة المارونية في جبل لبنان" .. وأصبحت ترمي إلى إقامة وطن ماروني  مميز عن محيطه يتمتع بالحماية التي منحها ملوك فرنسا وخصوصاً لويس الثالث عشر للأمة المارونية المتميزة عما يحيط بها من الأمم والطوائف...([2])

كما نمت ثروة الكنيسة، فقد ازداد عدد الكهنة، وأصبح لكل200 ماروني كاهن يرعى شؤونهم كما ازداد عدد الموارنة.. فيما اصدر قاضي طرابلس حكماً أو فتوى قضت بأن البطريركية المارونية هي عريقة في القدم وسلطتها شرعية مطلقة، وذلك رداً على الشكايات التي كان رؤساء الكنائس المسيحية الأخرى يتهمون بها الموارنة.

وعندما جاء وقت مشروع التهجير.. بدأت القيادات المارونية تتهم الشيعة الحماديين بالتعسف الشديد وتسعى إلى محاربة نفوذهم بدعم مباشر من الفرنسيين بدءاً من سنة 1702م. على الرغم من وجود حياة مشتركة لعدة قرون بين الشيعة والموارنة وانتشار المؤسسات الدينية المارونية ودور العبادة .. التي عاش فيها أو قريباً منها جيرانها الشيعة عبر أجيال متعاقبة من حسن الجوار مع الموارنة والتأثير المتبادل بينهم.([3])

 في لبنان، وعلى مر التاريخ القديم منه والحديث، مناطق ذات أكثرية من لون طائفي أو مذهبي واحد، وعندما جمعوا في إطار جغرافي سياسي واحد تحت شعارات من مثل: التعايش والعيش الواحد وما إلى ذلك من عناوين سرعان ما كانت  تنهار عند أول اختبار يواجهها.. وهناك محطات كثيرة شاهدة على ذلك معروفة لدى الجميع لا حاجة لذكرها. وهي باقية كذلك إلى اليوم وبشكل محموم لا نظير له، خصوصاً بعد دخول الأحزاب على خط التوظيف السياسي الداخلي مع الارتباط الأكيد لكل منها مع الخارج دعماً ومؤازرة، كل في محوره ومشروعه المستقل عن المحور والمشروع الآخر بحيث لا يلتقيان كخطين متوازيين يسيران معاً إلى لا نهاية..

والمعادلات تتراوح باختلافها وتبدلها تبعاً لما تكون عليه الصورة من ميزان التوازنات، وطبقاً لمجريات الأحداث السياسية في المنطقة التي تنعكس بسلبياتها وإيجابياتها على مجمل هذا البلد الصغير حجماً الكبير بدوره المرسوم له وتأثيره وتأثره بكل الطوارئ والمتغيرات.. ومن هذا الباب ندخل إلى دور الطائفة المارونية.

ومع ذلك فإن "الدور الذي لعبه لبنان على مسرح السياسة الدولية أكبر بكثير من مساحته الجغرافية"..([4]) ويبدو أنه اليوم يقوم بنفس الدور كل من موقعه، وانطلاقاً من مشروعه المنخرط فيه، ومن المحور الدولي أو الإقليمي الذي ينتمي إليه، هذا هو حال لبنان اليوم من دون مواربة وهذه الحال أضحت من المسائل البديهية لدى فئات الناس جميعها وإن لم يصرح عنها بشكل علني..

 

كيف يقرأ الحدث؟!

سؤال وجيه يطرح نفسه تلقائياً، من الذي يقرأ الحدث أو ينقله عن طريق الحس والمشاهدة أو بالنقل المعنعن، مجرداً عن العواطف والميول المتنوعة؟ أقول: إن غالب ما هو موجود لدينا وفي نقولاتنا التاريخية على وجه التحديد، هي بأكثريتها وجهات نظر قابلة للجدل والأخذ والرفض ويعود السبب للعوامل المذكورة، لذا فلا يدّعين أحد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وهذا لا يعني عدم وجود موضوعية ونزاهة وأصول وقواعد، لكنها تبقى أموراً نسبية، ووجهات نظر.

إن الأحداث الكبرى والمروية في التاريخ، كتأسيس الدول ونشوؤها وما لاقته في مسيرتها من حروب ومعاهدات وكوارث وهزائم وانتصارات ونزاعات على النفوذ داخلياً وخارجياً هي من الأمور التي تعلن عن نفسها وتظهر بارزة في كل محطات التاريخ ومفاصله، فليس على الباحث المهتم غير تتبعها والتعمق في خلفياتها، دراسة وتحليلاً ومقارنة حتى  يصل إلى رأي فيها يستقر عليه، ومنهاجاً سوياً لفهمها، يعتمده ويقتنع بصوابه وفعاليته وجدواه، وهذا أمر يتأرجح بين الخطأ والصواب النسبي باختلاف المشارب والمدارس والآراء..

إن الدقة والمشقة والمغامرة هي أيسر المعاناة التي تفرض قواعدها على الباحث في حدث تاريخي خطير بمظهره ونتائجه وانعكاساته، ولكن كل ما يقف خلفه من جهود ونوايا وقرارات ومشاورات وخطوات تمهيدية لإيجاد الجو المناسب لنقله إلى مرحلة التطبيق العملي، تختفي تحت حجب كثيفة من التجاذبات والصفقات والمناورات، التي من طبيعتها وخصائصها أن لا تظهر أبداً، وتتوارى إلى الأبد في أرشيفات الدول والمنظمات والهيئات التي شاركت في تحقيقه، أو وقفت حائلاً دون ذلك.

إن العوامل الشخصية والنفسية كالمساومات والأهداف المستقرة لا تظهر في أحداث التاريخ إلا إذا قيض لها أن تثير اهتماماً ما يستقدمها من زوايا الظلمة ويسلط الأضواء الكاشفة عليها فتنتقل بعد تمنع ومقاومة وعجز عن التشبث الأبدي بمواقعها إلى حيث تصبح في مجال الرؤية والأهلية للنقاش.([5])

المقاطعات قبل فرزها:

في القرون السابقة كانت المناطق اللبنانية على تداخلها الحالي، أكثر اختلاطاً من حيث التنوع الطائفي والمذهبي الذي يتشكل منه النسيج اللبناني الحالي، إلا أنه عمل على مشروع الفرز المناطقي اتجاهات دولية، كانت تهدف من ورائه تثبيت نفوذها بكل المستويات الثقافية والاقتصادية والعسكرية وغير ذلك.

كانت كسروان على امتداد قرون عديدة الخزان البشري الشيعي الذي يرفد سائر المناطق اللبنانية.. وذكرنا ذلك أكثر من مرة، وأكده أكثر من مصدر محايد منها: "الدفتر نامة" العثماني العائد لسنة 1516 وجود العديد من القرى الشيعية الصرفة، لا سيما بين إهدن وزغرتا ونواحي المنيطرة والعاقورة والبترون وجبيل وحتى في عكار والضنية الأكثر شهرة في هذا الاطار .. وأكد كذلك بعض الرحالة الأوروبيين وجود هذا التنوع الطائفي في قرى الجبة.

وتؤكد الاحصائيات الموثقة أن جبل لبنان كان متعدد الطوائف والمذاهب عند دخول العثمانيين ، وإذا كان السنة هم غالبية سكان المدن الساحلية فإن الشيعة والنصارى ومنهم الموارنة كانوا يتقاسمون العيش في معظم قراه ومزارعه.

وتشاركت هاتان الطائفتان في مختلف النشاطات السياسية والاقتصادية وحتى المذهبية منذ ما قبل العهد العثماني وأثناءه، في الفترة التي اتسمت بصراع مذهبي حاد بين الموارنة وغيرهم من النصارى، والتي لم يكن من النادر فيها أن يكون الشيعة إلى جانب أحد الفريقين.

وإذا كانت جبة بشري مهد الموارنة ومركز تجمع للقادمين منهم من نواحي حمص ، فليس معنى ذلك أن هذه الطائفة قد وجدت قبل غيرها زمنياً في هذه البقعة. فالمعتقد أن طوائف نصرانية أخرى كالروم واليعاقبة والسريان عاشوا في أنحاء متفرقة من جبل لبنان بما فيها جبة بشري في عهود قديمة، كما أن الوجود الإسلامي فيها كما في سائر أنحاء  جبيل والبترون وجونية وغيرها من المدن والقرى ،وقد ظهر في هذه النواحي الكثير من العلماء المسلمين البارزين، ومنذ ما قبل الفتح العثماني بدأ الحضور الشيعي البارز على مسرح الأحداث التاريخية يظهر في الجبة في مناسبات متعددة تدل على أهمية دورهم وأولويته السياسية والقيادية..([6])

إلا أن هذا التعايش والتعاون فيما بينهما لم يدم طويلاً .. حيث عمدت فيما بعد السلطات التركية وألبّت على الشيعة من أجل القضاء عليهم وترحيلهم من كل مناطق الجبل والشمال التي كانوا يقطنون فيها.. فتعاون الموارنة والدروز ضدهم بتشجيع ودعم من الأتراك الذين كانوا لا يتركون وسيلة إلا واستخدموها لكي يكسروا شوكة الشيعة فاستخدموا الأمير حيدر ويوسف الشهابي في ذلك وكان هذا الأخير دموياً فكانوا الأداة الضاربة للعثمانيين في كل منطقة، بالإضافة إلى الفتاوى التي تدعو إلى الفتك بالشيعة وقد صدرت مثل هذه الفتوى في عاصمة السلطنة تعتبر شيعة جبل لبنان كفاراً أرفاضاً و"قزلباش" توجب على ولي الأمر قتالهم واستئصالهم وتطهير الأرض منهم، وليس من المعلوم صدور مثل هذه الفتاوى بحق الذميين طيلة القرون الأربعة التي استمر فيها الحكم العثماني.([7])

ورغم كل ذلك كانت فرنسا والفاتيكان تعتبران أن الشعب الماروني مسكين ومظلوم ومطرود تدريجياً من جباله بفعل الاستبداد والتعديات التركية، ووجوب العمل على إنقاذهم من بحر المعاناة التي يعانون منها منذ وقت طويل تحت وطأة التسلط الثقيل للأتراك الحاكمين في جبل لبنان ، وأن ممارستهم ستقضي على المسيحية في هذا الجبل المقدس، وسيتركه الموارنة إذا لم نجد الوسائل الكفيلة لإنهاء هذا الوضع الشاذ.([8])

كل ذلك كان بعد زمن من حصول الانقلاب الشامل على الصعد السياسية والديموغرافية والعقارية، الذي حصل في الشمال بعد تولي الشهابي مكان الحماديين وتغير الطابع السكاني بسرعة.

وكانت الجهود الرهبانية، بخبراتها وأموالها ومساندة الوالي العثماني والقنصل الفرنسي ومن يقف خلفه، تسهل كل الأمور الصعبة وتؤمن الغطاء السياسي والقانوني لكل عمل مهما كان متناقضاً مع الشرع والأصول والأعراف والمبادئ الإنسانية.([9])

وبقي اهتمام الموارنة منصباً نحو إنشاء وطن مستقل لهم "وحاولت الأكثرية المسيحية في جبل لبنان بين 1840 و 1860 ، أن تجعل من ذلك القطر وطناً قومياً مسيحياً، بمساعدة غيرها من الدول الكاثوليكية، فأثارت هذه المحاولة ردة فعل عنيفة عند الدروز أدت، آخر الأمر، إلى مذابح 1860 واستمر الموارنة في شمال لبنان في عهد المتصرفية، في اعتبار لبنان وطناً مسيحياً قبل كل شيء، وفي المطالبة بتوسيع رقعة هذا الوطن المسيحي حتى يصبح صالحاً للبقاء".([10])

إلا أنه لم يتسن لهم ذلك، فعملوا على أن يكون هناك تعاون وثيق بينهم وبين المسلمين وإمكانية التعايش فيما بينهم، وبمعاونة الفرنسيين تم تكريس امتيازات خاصة للموارنة وبقي المسلمون مهمشين في الكيان العتيد أي الجمهورية اللبنانية، واستمر الوضع كذلك وإن بتعديلات طفيفة إلى أن تم توقيع وثيقة التفاهم الوطني "الطائف" برعاية أميركية ـ سعودية ـ سورية ـ والذي عزز دور السنة في المعادلة اللبنانية على حساب الشيعة والموارنة، وربما لن يبقى إذا ما حدثت متغيرات في المنطقة قد تؤدي إلى تبديل في موازين القوى القائمة، وإن كان لهذا الاتفاق من إيجاب يذكر فهو إيقاف الاقتتال الأهلي في الداخل اللبناني.

على مدى التاريخ كان لبنان ـ ونقصد في كل هذه الحقبات بلبنان ـ جبل لبنان ـ مسرحاً للتدخل بشؤونه من كل الدول المحيطة به، وكان تابعاً لولاية أو لمقاطعة معينة للدولة الحاكمة، وربما تخلل في تلك الفترات إعطاءه على فترة حكماً ذاتياً محلياً لتصريف بعض الشؤون الداخلية أو عبر تلزيمه لأحد الولاة على شكل إقطاعي أو ملتزم جباية ليس أكثر من ذلك. وهذا ما يؤكده جملة من الباحثين أمثال  المؤرخ الراحل كمال الصليبي.

وبالعودة إلى الحديث عن الموارنة نجد الاهتمام المميز بهم ـ ففي القرن الخامس عشر بدا الموارنة في نظر روما نموذجاً نادراً بين مسيحيي الشرق متعلقاً بالبابوية، خاضعاً لإرشاداتها، مع استعداد تام لتقبل توجيهاتها بكل حماس واندفاع.

وقبل أن يصبح لبنان إقليماً عثمانياً.. قال البابا "ليون" العاشر في سنة 1510م كلمته الشهيرة عن الموارنة إنهم "سوسنة بين الأشواك" في إشارة إلى امتيازهم عن مواطنيهم وجيرانهم.

بدأت الطائفة المارونية بفعل هذه التطورات تتخلص من عزلتها التاريخية التي لزمتها مئات السنين وتتحول من جماعة صغيرة إلى تنظيم حي ونشيط يتمتع بشبكة من العلاقات الدولية الفاعلة، وينعم بمستوى متميز من الكفاءة والثقافة والمعرفة... وساعدت هذه المزايا على انتشار الموارنة في حيز جغرافي واسع، فتمددوا جنوباً نحو كسروان والشوف وجزين.. واستطاعوا أن يصبحوا أكثرية فيها، واستفادوا أيضاً من القمع العثماني فكان يعقب الحملات التأديبية العثمانية تقدم ماروني نحو الأملاك الشيعية خصوصاً بعد أن أصبح لفرنسا نائب قنصل ماروني في بيروت (1662م)، تولى بنفسه غالب الأحيان شراء الأراضي الشيعية بعد كل محنة يتسبب بها العثمانيون، فيضطر المقموعون الشيعة إلى استبدال حقولهم بأتفه مستلزمات المقاومة والصمود، قد لا يكون أحياناً أكثر من حفنة من الباره(*) ومن يد الدبلوماسي نفسه، الذي يكون عادة وراء هذه الحملات.([11])

هذه أهم الأسباب والعوامل التي أدت فيما بعد إلى حكم لبنان الوليد "من قبل الموارنة" بعد أن قسمت غنائم الحرب الأولى بين المنتصرين فيها، بعد أن ذهبت الوعود التي أعطيت للعرب أدراج الرياح ، وثبت الوعد الممنوح لليهود من بريطانيا إيفاء منهم بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ..

(*) اقل عملة تركية من حيث القيمة



[1] كمال الصليبي: تاريخ لبنان الحديث ص 42

[2] يتحدث د. فيليب حتى عن العلاقة الوثيقة بين الموارنة وفرنسا والبابا في تاريخ لبنان ص 391

[3] سعدون حمادة تاريخ الشيعة في لبنان ص 280م 2

[4] د.فيليب حتى تاريخ لبنان ص 608

[5] سعدون حمادة: تاريخ الشيعة في لبنان ص 196. م 2

[6] سعدون حمادة تاريخ الشيعة في لبنان ص 182 و 196 و 199 من المجلد الأول

[7] تاريخ الشيعة في جبل لبنان م . 2 / ص 305

[8] م . ن . ص 209

[9] م.ن/ ص 333

[10] د. كمال الصليبي: تاريخ لبنان الحديث ص 197

[11] سعدون حمادة: تاريخ الشيعة في لبنان ص 199


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=453
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 01 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28