• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : المراتب الوجودية للقرآن .

المراتب الوجودية للقرآن

  

المراتب الوجودية للقرآن

لم يستعمل القرآن الكريم أسلوباً واحداً في عرض حقائقه وقضاياه المعرفيّة، فبقدر ما كان يحمل في سمته العامّة طابعاً إيضاحيّاً ميسّراً قريباً من الذهن والفهم العامّ ـ ولذا كان هدى وتبياناً وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس جميعاً، كما عرفت ـ فإنّه مع ذلك، ضمّن عرْضه لذلك وجوهاً وملامح مختلفة من العمق وبمستويات متفاوتة للفهم، وهذا التفاوت المعرفي لا يلمحه إلاّ من وقف على أبعاده المعرفيّة المختلفة، وإن كان بالإمكان حتّى لمتوسّطي الثقافة والمعرفة أن يُدركوا شطراً من ذلك التفاوت المعرفي.
ولعلّ من أوضح النصوص الروائيّة بياناً لهذه الحقيقة القرآنيّة ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوامّ، والإشارة للخواصّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: كتاب القرآن، باب أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، الحديث 81 ، ج92 ص103.


إنّ هذه المراتب الأربع لا يُراد منها توزيع القرآن وتقسيمه على أربعة أقسام، قسم يمثِّل العبارة وآخر يمثِّل الإشارة، وهكذا. وإنّما المراد هو أنّ النصوص القرآنيّة جميعاً يمكن أن تقرأ بأربعة مستويات.
- أمّا المرتبة الأُولى فهي التي لا تتجاوز الظواهر ومعاني الألفاظ التي لا يتجاوز مداها المعرفي المصاديق في عالم الحسّ. وهذه المرتبة للعموم الذين لا يتجاوز إدراكهم المحسوسات، بمعنى أنّ إدراكهم محصور في هذه المرتبة.
ببيان آخر: إنّ هذه المرتبة تختصّ بهؤلاء بشرط عدم انضمام الإشارات إليها، وإلاّ فصاحبو المراتب الأُخر يشاركونهم في إدراك هذه المرتبة ويمتازون عنهم بإدراك المراتب الأُخر.
- وأمّا المرتبة الثانية: فإنّها تنظر إلى ما هو خافٍ بين سطور الظاهر فتتصيّده بذكاء حادّ ونظرة عقليّة ثاقبة، وهذه المرتبة هي التي يتمتّع بها طبقة قليلة ممّن توجّهوا إلى الآخرة واشتغلوا بإصلاح ذواتهم، حيث يحصل لديهم ومضات معرفيّة عميقة وإشراقات محدودة تمكّنهم من ذلك، ولكن دون أن يلجوا عالم الغيب ويُشاهدوا الحقائق الجمّة الماثلة وراء النصّ.
- وأمّا المرتبة الثالثة: فهي مرتبة خاصّة بمن غادروا القيود والحدود والعبوديّة والتبعيّة لعالم المادّة، فلم تعد أنفسهم محكومة للمادّة، فلطفت نفوسهم وخلت سرائرهم من التبعات، فصارت لهم الولاية والقدرة على الهداية، وهي رتبة العرفاء والأولياء.
وينبغي التنبيه إلى أنّ اللطائف منها ما هو نظريّ ومنها ما هو قلبيّ شهوديّ، وما نرمز إليه في المقام هو خصوص القلبيّة الشهوديّة منها. وأمّا اللطائف النظريّة العقليّة فإنّها وإن كانت تمثِّل مرتبة معرفيّة رفيعة إلاّ أنّها لا تخرج عن دائرة العلوم الحصوليّة، فتكون اللطائف تعبيراً عن الدقّة العقليّة، وهذه اللطائف العقليّة تمثِّل مستوىً عالياً من القراءة الظاهريّة البرهانيّة للنصّ القرآني.
وأمّا اللطائف القلبيّة ـ محلّ الكلام ـ فإنّها تمثِّل مستوىً عالياً ورفيعاً من الكشف الشهودي لمجموعة من الحقائق القرآنيّة في مراتبها المتوسّطة.
بعبارة أُخرى: إنّ اللطائف العقليّة تحدّد المصداق للنصّ القرآني ولكن في دائرة عالم المفاهيم لا الوجود الخارجي، وأمّا اللطائف القلبيّة فإنّها تحدّد مصداق النصّ خارجاً وتقف عليه، ولكن في ضمن دائرة محدودة أيضاً لا مطلقة، وهذا كاشف إنّي عن عدم اكتمال القراءة الغيبيّة عندهم بعدُ، أي إنّ القراءة التي يقدّمها العرفاء الذين بلغوا مقام الولاية ولم يكملوا سيرهم وسلوكهم المعرفي المتمثِّل في السفر الثاني من الأسفار الأربعة، هي قراءة محدودة في عالم الغيب، والحقائق التي ولجوها بقدم الولاية، وهذه المحدوديّة  ـ وإن تتفاوت مراتبها أيضاً ـ إلاّ أنّها بجميع مراتبها تعبّر عن عدم اكتمال القراءة عندهم.
- وأمّا المرتبة الرابعة للنصّ القرآني، وهي المعبّر عنها بالحقائق، فإنّها تعني تماميّة القراءة والوقوف على المصاديق الخارجيّة التامّة للنصّ، وهو مقام الأنبياء عليهم السلام وورثتهم.
والذي بلغ الغاية في هذه المرتبة هو خاتم الأنبياء والمرسلين (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: 8 و 9) وورثته الأولياء الكاملون
عليهم صلوات الله وسلامه، حيث يكون لهم من المكنة القلبيّة ما به يجمعون بين عالمي الوحدة (الخالق) والكثرة (المخلوق) فينظرون بعينين صحيحتين، فيرون الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة، بحسب اصطلاحات الحكمة المتعالية، وأمّا بحسب اصطلاحات المدرسة العرفانيّة فإنّه مصداق الوجود المتفرّد وشؤونه وتجلّياته.
وفي هذه المراتب الأربع توجد مراتب ومراتب تفصيليّة، بمعنى أنّ كلّ مرتبة من هذه المراتب الأربع (العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق) تحمل في طيّاتها مستويات عديدة.
أمّا الأولى والثانية فواضحة، لأنّ المعرفة النظريّة بحدّ ذاتها ذات مراتب ودرجات من الفهم مختلفة ومتنوّعة. وكذا الثالثة والرابعة، فاختلاف درجاتهما لعلّه الأكثر وضوحاً، لأنّ مراتبهما المعرفيّة وجوديّة خارجيّة لا وجوديّة ذهنيّة، هذا مضافاً إلى أوسعيّة الوجود الغيبي بمراتبه المتعدّدة من الوجود الحسّي المادّي.

ولعلّه لذلك جاء التعبير عن المرتبتين الأخيرتين بصيغة الجمع، بخلاف الأُولى والثانية.
ولا يخفى أنّ كلّ من انطوى على مرتبة عُليا فهو منطوٍ على المرتبة الدُّنيا ولا عكس، فصاحب الحقائق واقف على اللطائف والإشارة فضلاً عن العبارة، وصاحب اللطائف واقف على الإشارة فضلاً عن العبارة، وهكذا.

المصدر : اللباب في تفسير الكتاب للسيد كمال الحيدري


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=479
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 05 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29