• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : تفسير آيات الحج من سورة الحج .

تفسير آيات الحج من سورة الحج

  تفسير آيات الحج من سورة الحج

 

من تفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية (ره)

[سورة الحج (22): الآيات 26 الى 29]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

اللغة:

بوأنا هنا بمعنى هيأنا و وطأنا لأنها تعدّت باللام. و الطواف الدوران. و الضامر الهزيل. و الفج الطريق. و العميق البعيد. و بهيمة الأنعام الإبل و البقر و الضان.

و البائس هو الذي أصابته شدة. و التفث الوسخ، يقال: قضى تفثه إذا أزال وسخه.

المعنى:

(وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ). المراد بالقائمين المقيمون في مكة و ضواحيها، و بالركع السجود المصلون .. كانت قريش تعبد الأصنام، و تقوم على أمر الكعبة، و بعد أن بعث اللّه محمدا (ص) نصبت العداء له و لمن آمن به، و منعت المسلمين من الطواف و الصلاة في بيت اللّه، كما جاء في الآية السابقة، و مع هذا كانت‏ تزعم قريش انها على دين ابراهيم (ع) .. فأبطل اللّه هذا الزعم بأنه هو صاحب البيت، و قد أوحى الى ابراهيم ان يبنيه و يجعله خاصا بعبادة الموحدين المقيمين منهم في مكة و العابرين، و ان يبعد عنه المشركين و أوثانهم، و هذا هو معنى‏ (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ) .. و لكن قريشا عكست الآية، فملأت بيت اللّه بالأصنام، و أباحته لأهل الشرك و الفساد و صدت عنه أهل التوحيد و الصلاح.

(وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). أمر اللّه خليله ان يدعو الناس الى حج المسجد الحرام بعد ان يقيم قواعده، و يتم بناءه، و وعده أن يستجيب الناس الى دعوته. و يأتوه مشاة و ركبانا على ضوامر من الخيل و الإبل من كل طريق بعيد، و بالأولى من الطريق القريب.

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ). الحج هو العبادة الوحيدة التي تجمع بين المنافع الدينية و الدنيوية، أما الدينية فطاعة اللّه بأداء الفريضة، و التوبة من الخطايا و الذنوب و استشعار الهيبة و الجلال، قال ابن عربي في الفتوحات المكية: «كنت في ذات يوم أطوف بالكعبة، فرأيتها فيما خيل الي انها ارتفعت عن الأرض، و توعدتني بكلام و اللّه سمعته، و هي تقول: تقدم حتى ترى ما أصنع بك، كم تضع من قدري، و ترفع من قدر بني آدم».

و نقول عن يقين: ما من أحد يسعى أو يطوف في بيت اللّه بإخلاص إلا و يستشعر شيئا من هذا النوع.

(وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) و هي الإبل و البقر و الغنم، و ذكر اسمه تعالى على الانعام كناية عن ذبحها و نحرها لأن التسمية تجب عند نحر الإبل و ذبح البقر و الغنم، و المراد بآيات معلومات ايام النحر و الذبح في الحج كما يدل عليه سياق الآية. و قد اختلف الفقهاء في عدد هذه الأيام، قال الشيعة: هي أربعة، أولها يوم عيد الأضحى و آخرها اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، و قال غيرهم من فقهاء المذاهب: هي ثلاثة تنتهي بالثاني عشر منه. و التفصيل في كتابنا «الفقه على المذاهب الخمسة».

و قال الرازي: أكثر العلماء يفرقون بين الأيام المعلومات في هذه الآية، و الأيام المعدودات في الآية 203 من سورة البقرة، و يرون ان الأيام المعلومات هي عشرة ذي الحجة، و المعدودات ايام الذبح و النحر على الخلاف الذي أشرنا اليه في انها أربعة أو ثلاثة.

(فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ). اتفق الفقهاء على وجوب اطعام الفقير من أضحية الحج، و اختلفوا في وجوب أكل صاحبها منها، و نحن مع القائلين بعدم الوجوب عليه، و ان الأمر متروك الى ارادته، ان شاء أكل منها، و ان شاء تصدق بأجمعها، أما قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْها) فقد جاء لرفع توهم تحريم الأكل منها، حيث كان أهل الجاهلية لا يأكلون من أضاحيهم زاعمين ان ذلك محرم عليهم، فنبه سبحانه بقوله: فكلوا منها، الى خطئهم.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) لا يجوز للحاج ايام إحرامه أن يحلق رأسه أو يقلم أظافره أو يتطيب، بل قال الفقهاء أو أكثرهم: ان قتل هو ام الجسد كالقمل حرام، فإذا انتهت أيام الإحرام حل له ما كان محرما عليه، فيحلق و يقلم أظافره و غير ذلك، و الى هذا أشار سبحانه بقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ). (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ان كانوا قد نذروا شيئا من أعمال البر أيام الحج أو قبلها، فان كثيرا من الناس ينذرون الصدقات و غيرها من أعمال الخير ان رزقهم اللّه الحج‏ (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي القديم لأنه أول بيت وضع للناس، و ذكر سبحانه الطواف في صيغة المبالغة حيث يستحب الإكثار منه، كما يستحب الإكثار من الصلاة، فلقد اشتهر عن نبي الرحمة (ص) انه قال: الطواف بالبيت صلاة.

[سورة الحج (22): الآيات 30 الى 35]

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)  الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى‏ ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

 

اللغة:

حرمات جمع حرمة، و هي ما لا يحل انتهاكه. و حنفاء جمع حنيف، و هو من استقام على دين الحق مائلا عن الأديان الباطلة. و السحيق البعيد. و شعائر جمع شعيرة، و هي العلامة مأخوذة من الإشعار بمعنى الاعلام. و المنسك موضع العبادة، و النسك العبادة. و المخبتين الخاشعين بدليل قوله تعالى: الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم .. أي خافت.

المعنى:

(ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ). للتعظيم مظاهر شتى، تتفاوت على قدر المعظّم، و ما يليق به من التعظيم و الاحترام، و لا شي‏ء لدى المخلوق يليق بتعظيم خالقه إلا الطاعة و الانقياد له في كل شي‏ء، فمن أطاع اللّه و امتثل أوامره و نواهيه فقد عظمه و عظّم حرماته و شعائره، و هذا التعظيم أو هذه الطاعة ترفع من شأن المطيع عند خالقه، لا من شأن الخالق المطاع لأن اللّه غني عن العالمين، و لذا قال تعالى: (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي تعظيم أحكام اللّه باطاعتها خير للمطيع عند خالقه و بارئه.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ). حرم اللّه على الحاج الصيد أيام إحرامه، و ربما توهم هذا الحاج المحرم انه إذا حرم عليه الصيد فقد حرم عليه أيضا الأكل من لحوم الانعام، فبين سبحانه عدم التلازم بين التحريمين، و ان المحرم من الأنعام ما نص عليه القرآن كالميتة و ما ذبح على النصب. انظر تفسير الآية 3 من سورة المائدة ج 3 ص 10 (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

ابتعدوا عنها و عن عبادتها كما تبتعدون عن الأوساخ و الاقذار، و الأوثان كلها رجس، و لذا قال علماء العربية: ان من هنا للتبيين لا للتبعيض، مثلها مثل (من) في قولك: خاتم من حديد (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). و قول الزور يشمل كل محرم كذبا كان أو غيبة أو شتما أو فحشا، و أشد أنواع الزور الشهادة الكاذبة لأن فيها هدرا لحقوق اللّه و الناس، قال رسول اللّه (ص): عدلت شهادة الزور بالشرك باللّه. ثم تلا هذه الآية.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). الحنفاء هم المستقيمون على دين الحق المائلون عن الأديان الباطلة، و غير مشركين تأكيد للحنفاء. و تكلمنا عن الحنفاء عند تفسير الآية 107 من سورة الإسراء (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ). هذا كناية عن ان اثم الشرك لا يعادله اثم، و ان عذاب المشرك ليس وراءه عذاب .. و من تتبع الآيات القرآنية و السنة النبوية يلاحظ ان المشرك أكبر إثما من الملحد عند اللّه، و قد يكون السر في ذلك ان الملحد لا يثبت النقص «للخالق» لأنه لا يعترف بوجوده من‏ الأساس، و هذا اثم عظيم ما في ذلك ريب .. و لكن اثم المشرك أعظم لأن الاشراك انكار للخالق الواحد من جهة، و اثبات النقص للموجود من جهة ثانية.

(ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). شعائر اللّه و حرماته بمعنى واحد، و تكلمنا عنها في تفسير الآية السابقة، و ليس من شك انه لا يطيع احكام اللّه الا المتقون المخلصون، و من تعظيم شعائر اللّه و اطاعة أحكامه ان تذبح السمين السليم من الانعام أيام الحج، قال رسول اللّه (ص): لا تضح بالعرجاء و لا العجفاء، و لا الخرقاء، و لا الجذاء، و لا العضباء. و العجفاء الهزيلة، و الخرقاء هي التي لا اذن لها. أو مخرومة الاذن، و الجذاء مقطوعتها، و العضباء مكسورة القرن.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى). ضمير فيها يعود الى ذبائح الحج، و الى أجل مسمى أي وقت نحرها أو ذبحها، و المعنى ان للحاج ان ينتفع بلبن أضحيته و ظهرها الى حين النحر و الذبح. و في تفسير الرازي ان رسول اللّه مر برجل يسوق بدنة، و هو في جهد، فقال له: اركبها. قال الرجل: انها هدي يا رسول اللّه، فقال له: اركبها ويلك، ثم قال الرازي: و أبو حنيفة لا يجيز ذلك، و احتج بأنه لا يجوز أن يؤجرها، فإذن، لا يجوز أن يركبها، ورد الرازي على أبي حنيفة بأن هذا ضعيف لأن أم الولد من الإماء لا تباع، و مع ذلك يجوز الانتفاع بها. (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اي ان مكان ذبح الانعام هو بيت اللّه الحرام، و المراد به الحرم كله، و منه منى، و في الحديث منى كلها منحر.

(وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً). المراد بالمنسك هنا النسك بذبح الأنعام بدليل قوله تعالى بلا فاصل: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

و المعنى لا بدع في الأضحية فلقد كانت مشروعة في الأديان السابقة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فلا تذكروا اسم غيره على ذبائحكم‏ (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا لأمره و أخلصوا له في القول و الفعل.

(وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى‏ ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). بشّر يا محمد بالجنة من تواضع للّه، و خاف منه، و ثبت على دينه في السراء و الضراء، و تعبّد له من غير نفاق و رياء، و أنفق ماله في طاعة اللّه و مرضاته. و ليس من شك ان هذه الصفات إذا اجتمعت في انسان سمت به الى أعلى الدرجات عند اللّه و الناس.

[سورة الحج (22): الآيات 36 الى 37]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

اللغة:

البدن بضم الباء جمع بدنة، و هي الناقة السمينة من بدن بدنا إذا كثر لحمه.

و صوافّ أي ان البدن قائمات قد صففن أيديهن و أرجلهن. و وجبت جنوبها سقطت جنوبها على الأرض و هو كناية عن خروج أرواحها بالنحر. و القانع الراضي بما يعطى له من غير مسألة. و المعتر الذي يتعرض لك لتعطيه.

المعنى:

(وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ). البدن هي الإبل خاصة كما في كثير من التفاسير، منها تفسير الرازي و البيضاوي، و ياحق بها البقر في الحكم، لا في الاسم .. و على أية حال فان الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة، منها البيئة التي يعيش فيها، و قد عاش العرب و غيرهم في الجاهلية و بعدها بقرون، عاشوا مع الإبل، و كانت جزءا من حياتهم، يأكلون من لحومها، و يشربون من ألبانها، و يلبسون من أوبارها، و تحمل أثقالهم من بلد الى بلد .. أنظر تفسير الآية 6 من سورة النحل ج 4 ص 497. و من أجل هذا ذكرها اللّه سبحانه في العديد من آياته بلفظ عام كالانعام، أو بلفظ خاص كما في الآية 17 من سورة الغاشية و الآية التي نحن بصددها، فلقد امتن سبحانه فيها على عباده بالبدن، و جعل لها منافع كثيرة، منها أن يتقرب العبد الى اللّه بنحرها في بيته الحرام، و التعبير عن هذا النحر بشعائر اللّه يشعر بأنه من أفضل الطاعات و العبادات.

(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ). من شروط الذبح و النحر التسمية و الاتجاه بالمذبوح و المنحور الى القبلة و النحر للإبل، و الذبح لغيرها، و لا تحل الإبل بالذبح، كما لا يحل غيرها بالنحر، و الذبح معلوم، أما النحر فهو ان يدخل الذابح سكينا أو ما إليها من الآلات الحادة في لبة البعير، و هو قائم أو بارك أو مضطجع على جنبه شريطة أن يكون متجها بنحره و جميع مقاديم بدنه الى القبلة، و أفضل صور النحر ما جاء في بعض الروايات، و هو ان يقام البعير واقفا اتجاه القبلة، و ان تعقل احدى يديه، و يقف الناحر متجها الى القبلة أيضا، ثم يضرب في لبته، و هذه الرواية تصلح تفسيرا لكلمة صواف.

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض و خرجت الروح منها (فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ). القانع الراضي بما تعطيه من غير سؤال، و المعتر من يتعرض لك بالعطية (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سخرها لنا سبحانه في كل ما نريده منها حتى الذبح، فوجب له الشكر على هذا التسخير (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها) لأن اللّه غني عن العالمين فضلا عن لحوم الاضاحي و دمائها، بل لا غنى لشي‏ء إلا به و منه سبحانه و تعالى، و قيل: ان هذا رد على المشركين الذين كانوا يلطخون أصنامهم بدم الأضاحي، و يلوثون به حيطان الكعبة.

(وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ). و تسأل: ان معنى التقوى ان تتقي اللّه فيما حرمه عليك، و هذا يعود ثوابه و نفعه عليك وحدك، أما اللّه سبحانه فلا تنفعه طاعة من أطاع، و لا تضره معصية من عصى، اذن، فما معنى قوله تعالى: (وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ)؟

الجواب: المراد بالتقوى هنا رضا اللّه لأن تقوى العبد، و رضا اللّه عن المتقي متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، و عليه يكون المعنى ان الذي يصل الى اللّه من أضاحيكم هو ان يرضى عنكم و لا يغضب عليكم .. فهو أشبه بقولك لولدك: ان نجاحك في الدراسة يجعلني راضيا عنك محبا لك، و هذا كل ما أناله من دراستك و نجاحك.

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ). سخر اللّه البدن لعباده و هداهم الى التقرب بنحرها اليه تعالى ليسبحوا بحمده، و يعظموه في علمه و قدرته و يخافوا من عقابه، و يطمعوا في ثوابه‏ (وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) كل المحسنين، سواء أ أحسنوا في التقرب الى اللّه بالأضاحي أم بغيرها، فان أنواع الإحسان لا يبلغها الإحصاء، و أفضلها جهاد أهل البغي و الضلال، و لو بكلمة الحق و العدل.[1]

من التفسير الكاشف    ج‏5   _ 330 321



[1] مغنيه، محمدجواد، التفسير الكاشف، 7جلد، دار الكتاب الإسلامي - ايران - قم، چاپ: 1، 1424 ه.ق.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=754
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 09 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29