• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : مع سورة الكهف في خطوطها العامة .
                          • رقم العدد : العدد السادس والثلاثون .

مع سورة الكهف في خطوطها العامة

مع سورة الكهف في خطوطها العامة

إعداد الشيخ سمير رحال

هذه السورة هي إحدى سور القرآن العظيم، وهي سورة مكية  باتفاق إلا آية او آيتين منها اختلف فيهما.

وهي السورة الثالثة من سور خمس في القرآن الكريم  بدئت ب « الحمد لله » قبلها سورتان هما الفاتحة، والأنعام ، وبعدها سورتان هما سبأ  وفاطر .

استهلت السورة ببيان وصف القرآن  بانه قيّم لا عوج فيه وأنه جاء للتبشير والإنذار. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)

قَيِّماً أي مستقيما لا ميل فيه و لا زيغ.

او أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمن عليها.

او أنه قيم بمصالح الخلق الدينية و الدنيوية.

ولا اعوجاج فيه ، لا من جهة الألفاظ، و لا من جهة المعاني. أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه؛ لأن قوله «عوجا» نكرة في سياق النفي؛ فهي تعم نفي جميع أنواع العوج.

ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة اللّه تعالى.

كما عنيت بعدة قضايا، ومن أجلّها  : موضوع العقيدة، وهذا شأن السور المكية كلها.

وقد أورد المفسّرون قصّة لسبب نزول الآيات خلاصتها أنّ سادة قريش اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وقرروا إرسال اثنين منهم إلى أحبار اليهود في المدينة، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط. قال زعماء قريش لهؤلاء: سلوا أحبار اليهود عن محمّد (ص)وصفا له صفته وخبراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا.

فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا أحبار اليهود عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله وسلّم وقالا لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل.

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو.

وفي رواية أخرى قالوا: فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصة. فجاءوا إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله وسلّم فسألوه.

ثمّ جاءه جبرائيل عليه السّلام عن اللّه بسورة الكهف، وقد تضمنت الجواب على سؤالين من الأسئلة الثلاثة. إلّا أنّ الآية التي تتحدث عن الروح جاءت في سورة الإسراء).

فضل السورة :

عن الامام الحسين (ع) قال: «من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلا شهيدا، ويبعثه اللّه من الشهداء،ووقف يوم القيامة مع الشهداء» نور الثقلين، ص 245، ج 3

سبب تسميتها بسورة الكهف

سميت بسورة الكهف؛ لذكر اسم الكهف فيها، لكنها تعرضت لجملة من القضايا غير قصة أصحاب الكهف والسورة  تسمى بالقضية الأشهر فيها.

والله جل وعلا يتعرض لقصة أصحاب الكهف في هذه السورة فقط.

وتحتوي سورة الكهف على أربع قصص تستغرق احدى وسبعين آية من آي السورة المائة وعشر، وما يتبقّى منها تعقيبات على قصصها وبعض مشاهد القيامة وسائر الحياة

وفي السورة تأكيد على عقيدة التوحيد القائمة على نفي الولد، ومواجهة التصور المنحرف الذي يريد أن يسبغ خصوصيات البشر على اللَّه , وتوجيه مباشر الى أن يكون العمل الصالح قرين الإيمان .

فالقصة الأولى: قصة أصحاب الكهف الآيات[9- 26]

ساقت السورة ما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف

هي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة : « انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ». ابتلاهم الله عز وجل فكانوا أمام خيار صعب ، إما أن يقعوا في الشرك فيسلموا ، وإما أن يؤمنوا فيهلكوا ، آمنوا وفروا بدينهم ،فحفظهم الله عز وجل. من عدوهم في الكهف. 

وحادثة أهل الكهف تبيّن للناس صدق وعد اللّه وترفع كل ريب حول قضية الساعة والمبعث. فالذي حفظ هؤلاء ثلاثمائة عام ثم بعثهم من مرقدهم_والموت أخو النوم - قادر على أن يبعث من في القبور كما قال الله: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى فصلت:39

قصة أهل الكهف تسلية  للمؤمنين الأوائل وتخفيف عنهم

وقد نزلت السورة في مكة وقد كان المسلمون يواجهون فيها الأوضاع نفسها التي واجهها الفتية من اضطهادهم وتنكيل وتعذيب وتهديد وتخويف.

فكأنَّ قصة أصحاب أهل الكهف جاءت لتخفف الأعباء عن المؤمنين الأوائل ولتسليهم  فان لهم اسوة بمن تقدمهم من المؤمنين كأصحاب الكهف الذين واجهوا المصاعب والتحديات فانتصروا لدينهم .

الحكمة من إبهام العدد الحقيقي للفتية

القرآن كتاب عظة وهدى وليس كتاب تاريخ  فما قصّ القرآن علينا من قصص فللاعتبار. فهدف القرآن من قص القصص الاعتبار والتأسي بالنماذج الايمانية وبناء المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري الملي‏ء بالحوادث والمواقف.

ففي القصة مغزى ، وفي القصة جزئيات لا جدوى من سردها

والعبرة من القصة الاعتبار والإيمان لا الأحداث والجزئيات.

- من الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف‏

أ: ان الهجرة من الأوساط المنحرفة  قد تكون ضرورة لحفظ الايمان فهم قد تركوا حياتهم المرفّهة ومناصبهم، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان لكي يحفظوا إيمانهم.

وفي الآية المباركة إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً   النساء(97)

تسأل الملائكة ظالمى أنفسهم بترك الهجرة في نصرة الدين ، وإقامتهم في أرض لم يستطيعوا أن يباشروا تعاليم دينهم فيها، «فِيمَ كُنْتُمْ» والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أى فى أي شى‏ء كنتم من أمر دينكم؟ أى لماذا ظلمتم أنفسكم؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم فتهاجروا «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها» فهذه الأرض ليست لأحد دون أحد، فمن ضاق به مكان فليذهب إلى مكان آخر.

قال الامام علي (ع): ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك.

قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ‏: وهو اعتذار لم تقبله منهم الملائكة بل ردت عليهم بما حكاه اللّه تعالى في قوله: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ عذركم مردود عليكم

وقد وعد الله عزّ وجلّ المهاجر في سبيل اللّه ان يجد في الأرض مخلصا ونجاة : ومن يهاجر في سبيل الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً  النساء 100

ب: ان الإمدادات الإلهية هي ما ينتظر من اخلص لله

يقول تعالى في شأن النبي يوسف عليه السلام : كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏. مثل هذه الامدادات الغيبية، في لحظات الشدّة والازمة التي تدرك الأنبياء كيوسف مثلا غير مخصوصة بهم، فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد اللّه الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب ايضا.

واللّه سبحانه لا يترك عباده المخلصين في اللحظات المتأزّمة وحدهم .. ولا يقطع عنهم امداداته المعنويّة .. بل يحفظ عباده بألطافه الخفيّة.

وهكذا كان امر هؤلاء الفتية فقد حفظهم الله تعالى من ان ينالهم عدوهم بسوء. كما حفظ أجسادهم خلال هذه المدّة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة

ج: ضرورة الاعتماد على مشيئة اللّه وطلب العون منه تعالى (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدا)

هيئ من التهيئة بمعنى تيسير الأمر وتقريبه حتى لا يخالطه عسر أو مشقة.

فهؤلاء الفتية قد هربوا والتجئوا إلى كهف وهم لا يدرون ماذا سيجري عليهم .

لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا:" رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً" والمراد بالرحمة المسؤولة التأييد الإلهي إذ لا مؤيد غيره. (وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) توفيقا للرشاد. قيل مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا.

وقد أعد اللّه لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرفُ أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة اللّه وعلى البعث.

القصة الثانية: قصة صاحب الجنتين (32 _ 44)

 وهي جاءت بصيغة ضرب المثل لرجل أنعم الله عليه ، فنسي واهب النعمة ، فطغى وتجرأ على ثوابت الإيمان ،بالطعن والشك ، ولم يحسن شكر النعمة، رغم تذكرة صاحبه له  قال الله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) الكهف (32)

وصورت السورة بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة :

بين صاحب الجنتين الغنى المغرور المتكبر القائل:  أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا 

المنسجم مع المنطق القاروني ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ القصص : 78

حيث يظن الإنسان أنه استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه بذكائه وخبرته ، ودهائه، وحكمته ، وعلمه ، وبراعته ، وكياسته وينسى الله تعالى المنعم المفضل.

(وَدَخَلَ جَنَّتَه وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِه) حينما أشرك الأسباب مع الله عز وجل ، فجعل الأخذ بالأسباب استغناءً عن رب الأرباب.

وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور القائل (لكنّا هو الله ربي) وهو الناصح لصاحبه المذكّر له بأصله وفقره وضعفه  ﴿ اكفرت بالذي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ فلو عرفت او تذكّرت أصلَك ما تكبَّرتَ.

وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد حيث عاقبه الله تعالى على كفره وطغيانه وجحوده بهلاك الزرع والثمر.

مغزى القصة

1 إن الله هو الرزاق  فلا تعتمد على الأسباب وتغفل عن مسبب الاسباب فكل شيء تتمتع فيه هو من فضل الله عز وجل ، وبالشكر تدوم النعم.

2 ليس من صفات المؤمن الافتخار والتكبر على الآخرين.

3 وجوب شكر الله وحمده على نعمه

أما القصة الثالثة: فهي قصة نبي الله موسى عليه السلام والخضر(60 _ 82)

في أكثر من عشرين آية  وهي قصة التواضع الذي لا يعرف التكبر ولا الغرور :

فان موسى (ع) مع علو شأنه لم يمنعه ذلك من تحمل المشاق في سبيل العلم دون نظر الى مكانة من يريد التعلم منه  (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) الكهف (66).

كما تظهر القصة  اهمية خلقين لا بد منهما لبلوغ الاهداف وهما : العزم الواثق والاحتمال الطويل  تقول الآية : «وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا »  أي لن يهدأ لي نشاط حتى أصل إلى  الخضر ولو طالت دونه أحقاب .

والعزم صفة سادة النبيين والمرسلين المعروفين بأولي العزم وهم خمسة عزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى» والعزم مصدر بمعنى: الجزم والإلزام. والعزيمة: الإرادة التي لا تردد فيها. وأصل العزم الحزم، وثمرته الظفر ومَن قَلَّ حَزمُهُ ضَعُفَ عَزمُه  لا خَيرَ في عَزمٍ بلا حَزمٍ كما عن الامام علي (عليه السلام).

وقد جرت في هذه الرحلة جملة من الاحداث كخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار وقد أنكر النبي موسی (ع) على الخضر خرق السفينة  ثم قتل الغلام .

وقد بيّن العبد الصالح لموسى(ع) سر الأحداث التي فعلها وأنكرها عليه موسى (ع) ثم قال لموسى (ع) آخر الأمر: « وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا »

وهي تبيّن ان ظاهر الاحداث قد لا يكون فهمها ميسورا وقد تغيب حكمتها أحياناً، ولكن تخفي في باطنها حكَما .وهذا يرشد الى ان على الانسان ان لا يسيء الظن بالله وبافعاله حيث لا يفهم حكمة الله في الامور بل عليه ان يعترف بجهله وبقصور علمه . وحسبنا قوله تعالى: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون » البقرة : ۲۱۹

ولا تخلو حياة المؤمن من عقبات وأزمات , والله سبحانه وتعالى لا يقضي إلا بالخير ، قد يكون الخير ظاهراً ، وقد يكون غير ظاهر  وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾لقمان : 20

النعم الظاهرة ؛ هي النعم الظاهرة ، والنعم الباطنة ؛ قد تكون مصائب في ظاهرها ، لكن كم من مصيبة غيّرت مجرى حياة الإنسان ، من الضياع إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى النعيم ، ومن المعصية إلى الطاعة .

إنها مشكلات في ظاهرها ، ومعالجات في باطنها ، وإكرام إلهي في حقيقتها .

ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]

ففعل الله عز وجل لا ينطوي إلا على الرحمة ، والعدل، واللطف ، والخير. ولكن القلة والصفوة من يدركون عمق الامور ويعاينونها كما هو حال السيدة زينب عليها السلام التي تقول :ما رأيت الا جميلا. على رغم المصائب العظيمة التي المّت بها .

أما القصة الرابعة: وهي قصة ذي القرنين( 83_ 98)

انها قصة ذلك الملك العظيم الذي جمع بين العلم والقوة  وبين العدل واغاثة الضعيف الذي انصف بعدله وقضى بقوته على المفسدين والذي طاف جوانب الأرض، وأخذ يساعد الناس، وينشر الخير في ربوعها.

هذا العبد الصالح الذي مكّن الله له في الارض فأدى الحقوق واقام العدل

﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً *وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾

جعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يعتذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله ويلتزم بتعاليم شريعة الله.

وكان في السورة وبين طيّات هذه  القصص :

 

1_ حديث عن عدو الانسان المحرك للفتن إبليس الرجيم. وهنا حذرت الآيات ابناء آدم ان يتخذوه واعوانه اولياء من دون الله وبيّنت لهم انه وذريته أعداء لهم من اول النشأة ، يدفعونهم الى الشر ويكيدون لهم عن طريق الاغواء . فقال الله تعالى:(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الكهف 50 

 

2_ بيان اهمية اختيار الصحبة الصالحة من المؤمنين: قال الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) الكهف (28)

وفي المقابل يجب الابتعاد عمن زاغ عن الحق واتبع هواه ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)

ولكل فريق مصيره العدل عند قيام الساعة (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها)

أما أهل الايمان فلهم جزاء آخر « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لانضيع أجر من أحسن عملا »

3_ بيان حقيقة الدنيا : من خلال قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) الكهف (45)

فهي متاع وآيلة الى زوال لذا فهي كما في الرواية الشريفة دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له.والانسان العاقل لا يضحي بالدائم وهي الآخرة في سبيل الزائل كما قال تعالى: (اتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير).

وتبين الآيات أن ما على الأرض من زينة ونعم مادية انما كان طريقا لاختبار الناس أيشكرون أم يكفرون « إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا.

كما بيّنت الآيات جملة من المفاهيم والفضائل منها:

التواضع : ويتبين ذلك من خلال إجابة سيدنا موسى (ع) للخضر ، قال الله تعالى على لسانه: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) الكهف (69)

الإخلاص: وذلك من خلال قوله الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف (110)

ومن علامات الإخلاص ، أن يكون الله وحده ، أو أن يكون وجه الله هو مبتغاك

وعلامة أهل الحق : كثرة الذكر والإخلاص

يكثرون ذكر الله ﴿ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ آل عمران : 191

ويبتغون وجه الله ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾الإنسان : 9

 آيات تذكّر بيوم المعاد وضرورة الاستعداد للقاء الله تعالى

وفي سياق هذا القصص القرآني تسوق السورة الكريمة آيات تذكّر الناس بأهوال يوم القيامة، لعلهم يتوبون ويتذكرون يذكر اللّه تعالى وتذكر النفخ في الصور حيث يقوم الناس من قبورهم، ثم يجمعون في صعيد واحد للحساب.

« ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا . وعرضوا على ربك صفا » « ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ، ويقولون : ياويلتنا ! ماهذا الكتاب لایغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ماعملوا حاضرا ولايظلم ربك أحدا

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً ﴾

وختمت السورة بأمور:

أولها- بيان عذاب الكفار الذين انقطع الطريق بينهم وبين الحق وهو ذكر الله.

هؤلاء (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي‏ وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) جعلوا بينهم وبين رؤية الذكر غطاء من كبريائهم وغفلتهم وعنادهم.

وفي خلال ذلك حديث عن الاخسرين اعمالا وابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار ووقر الأذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة.

ويتلخص المعنى بأن أخسر الناس صفقة، وأخيبهم سعيا هو الجاهل المركب الذي يرى جهله علما، وشره خيرا، و إساءته إحسانا ..

وهذا الامر يشمل الكفار من المشركين والوثنيين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى‏ وما أهل النهر منهم ببعيد يعني الخوارج (كما في الرواية) يجمعهم في ذلك عنوان الضلال مع حسبانهم انهم على حق. هؤلاء «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ» أي بطل عملهم واجتهادهم‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» أي يظنون أنهم بفعلهم محسنون  وأن أفعالهم طاعة وقربة . وفي هذا المعنى قوله تعالى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» فاطر 8

هذا الذي يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها. واثق من أنه لا يخطئ! متأكد أنه دائما على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات التي تلقي الحجب‏ على عقل الإنسان وفكره «وكم من عقل أسير، تحت هوى‏ أمير؟! فتصوّر له القبيح حسنا.

وثانيها- تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [107- 108] جزاء وفاقا على إنابتهم إليه وإخباتهم له وبما يرغّب المؤمنين فى العمل الصالح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً 107

مقابل قوله: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار.

وثالثها- أن علم اللّه تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [109]

حيث الحديث عن كلمات اللّه التي لا تنفد، وهي المعارف والهدى والتوجيهات التي هي انعكاس عن سنن اللّه في خلقه للطبيعة والإنسان.

ثم كانت الآية خاتمة السورة وتلخص غرض البيان فيها وقد جمعت أصول الدين الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد . قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

فالتوحيد ما في قوله: «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ»

والنبوة ما في قوله «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَ‏»

والمعاد ما في قوله «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ‏».

مع بيان أن الرسول بشر أوحى اللّه إليه بما شاء إبلاغه عباده من التوحيد والشريعة، ولا علم له إلّا ما علّمه ربّه كما قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى‏ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي‏ الأعراف: 203.

ثم بيان أن العمل لا يتقبّل إلا إذا صاحبه أمران: أن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرأ من الشرك الخفىّ والجلىّ.

والخلاصة: أن سورة الكهف قد ساقت بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة- ألوانا من التوجيهات السامية، التي من شأنها أنها تهدى إلى العقيدة الصحيحة، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم، وإلى التفكير السليم الذي يهدى إلى الرشد، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

  • المصدر : مجموعة من التفاسير

  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=968
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 02 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28