• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فقه .
                    • الموضوع : أصالة الحلّية في الأطعمة وأكل الطيبات .
                          • رقم العدد : العدد الخامس عشر .

أصالة الحلّية في الأطعمة وأكل الطيبات

 

 


أصالة الحلّية في الأطعمة وأكل الطيبات


آية الله الشيخ محمد آصف محسني

قال الله تعالى: }يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً{ (البقرة: 168).
وقال تعالى: }قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أُهِلَّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم{ (الأنعام: 145).
وقال تعالى: }احلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم... يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحل لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلبين... اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم{ (المائدة: 1 ـ 5).
وقال تعالى: }قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة...{ (الأعراف: 32).
وقال تعالى: }ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث{ (الأعراف: 157).
وقال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم{ (البقرة: 172 ـ 173).
المستفاد من الآيات الكريمة أمور نذكر منها ما يناسب المقام:
1 ـ حلّية أكل كل طعام طيّب.
2 ـ حرمة أكل كلّ طعام خبيث، من جهة قصر الحلية على الطيبات ومن جهة اطلاق قوله تعالى: (ويحرّم عليهم الخبائث).
3 ـ حرمة كلّ خبيث حتّى الأفعال الخبيثة كاللواط وغيره؛ بناءاً على عدم الدليل على تقدير كلمة «أكل» في الآية، وأنّ المحرم فعل الخبائث وأكلها .
4 ـ حرمة أكل الميتة وشرب الدم المسفوح أو مطلق الدم وأكل لحم الخنزير وأكل ما تحقق به الفسق ـ وهو ما أُهِلَّ به لغير الله تعالى.
وفي المجمع في تفسير آية البقرة (173): قيل فيه قولان: أحدهما: أنّه ما ذكر غير اسم الله عليه... والآخر: أنّه ذبح لغير الله... والأوّل أجود.
وقال: الاهلال رفع الصوت بالتسمية وكان المشركون يسمّون الأوثان والمسلمون يسمّون الله.
5 ـ حلّية تلك الأمور الأربعة للمضطر الذي ليس بعادٍ ولا باغٍ.
وبتعبير آخر أنّه لا إثم على من اضطرّ إلى أحد تلك الأربعة إذا لم يكن باغياً ولا عادياً  إذا أكل بقدر الضرورة.
6 ـ حلّية أكل بهيمة الأنعام إلاّ ما ثبت تحريمها.
7 ـ حلّية أكل طعام أهل الكتاب. وحلّية طعامنا لأهل الكتاب.
8 ـ اختصاص حرمة أكل الأطعمة بالأشياء الأربعة المذكورة في البند الرابع، للآية الثانية والحصر في الآية الأخيرة.
فإن قلت: الأشياء التي يحرم أكلها من الأطعمة وغيرها ـ كالتراب ـ كثيرة فكيف التوفيق؟
قلت: أمّا الآية الثانية فيمكن حملها على عدم نزول تحريم طعام غير الأربعة إلى حين نزول الآية المذكورة، فنفى وجدان محرّم غيرها مقيّد بذاك الوقت. وإن شئت فقل: إنّ تحريم الأطعمة الممنوعة فعلاً نزل في المدينة أو في مكة بعد نزول الآية الثانية.
وأمّا الحصر في الآية الأخيرة فيرفع اليد عن اطلاقه بالأدلّة المعتبرة الدالّة على تحريم المحرّمات، ويؤيّده قوله تعالى في الآية الأخيرة: (إلا ما يتلى عليكم)، وهو نزل في المدينة. إلاّ أن يقال: إنّه من التخصيص الأكثر الممنوع، ولا سيما مع اتحاد هذه الآية المدنية مع الآية الثانية المكّية في نفي حرمة ما عدا الأربعة المذكورة، لكن لا مناص للفقيه سوى ما قلنا، فإنّ انكار حرمة غير الأربعة غير ممكن للفقيه أصلاً. والله أعلم بكلامه وأحكامه.
وعلى كلٍّ قد ثبتت أصالة الحلية في الأطعمة كما أنّه ثبتت أصالة البراءة في كلّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته، سواء أكانت بنحو الشبهة الحكمية أو الشبهة الموضوعية. وأنّه جائز ظاهراً، وفي مقام العمل وإن كان هو على حكمه الأولي في الواقع، لكنه غير منجز ولا عقاب على تركه.

ما معنى الطيّب والخبيث:
استفدنا من كرائم الآيات المتقدّمة حلّية الطيّبات وحرمة الخبائث، ولا بدّ من معرفة هذين المفهومين الموضوعين للحلّية والتحريم فنقول مستعينين بالله تعالى:
قال أمين الإسلام (رضي الله عنه) في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات): يحلّ لهم المستلذات الحسنة ويحرّم عليهم القبائح وما تعافه الأنفس.
وقيل: ويحلّ لهم ما اكتسبوه من وجه طيّب ويحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث.
وقيل: يحل لهم ما حرّمه رهابينهم وأحبارهم، وما كان يحرّمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها، ويحرم عليهم الميتة والدم ولحم الخنزير...
أقول: القولان الأخيران ضعيفان بإطلاق الآيات.
وقال في تفسير الآية الأُولى: والطيب هو الخالص من شائب ينغص، وهو على ثلاثة أقسام: الطيّب المستلذ، والطيّب الجائز، والطيّب الطاهر.
والأصل هو المستلذ، إلاّ أنّه وصف به الطاهر والجائز تشبيهاً؛ إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه، وما تدعو إليه بخلاف ذلك، والطيب الحلال والطيّب النظيف. وأصل الباب الطيب خلاف الخبيث .
فالمعنى الحقيقي للطيب هو ما تستلذ به النفس وتلائمه، والخبيث، ما يستنفر منه الطبع ويستقذره، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة.
ويظهر من صاحب جواهر الكلام (رضي الله عنه) أنّ الطيب قد يطلق على الحلال؛ لقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) ويقابله اطلاق الخبيث على الحرام كقوله تعالى: (ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون). وقد يطلق على الطاهر في قوله تعالى: (فتيمّموا صعيداً طيباً). وعلى ما لا أذى فيه في النفس والبدن كما يقال: زمان طيّب، أي لا أذى فيه من برد او حرّ.
ويقول في قوله تعالى: (ويسألونك ماذا أحلَّ لهم قل أحل لكم الطيبات): إنّ المراد بالطيب ليس هو الحلال والطاهر؛ ضرورة عدم الفائدة في الجواب منهما، بل وعلى الثاني الذي هو توقيفي من الشارع، بل في المسالك: ولا المعنى الثالث؛ لأنّ المأكول لا يوصف به، وإن كان فيه منع واضح. ثمّ قال (الشهيد الثاني رحمه الله): فتعيّن المراد ردّهم إلى ما يستطيبونه ولا يستخبثونه، فردّهم إلى عادتهم وما هو مغرز في طبائعهم، ولأنّ ذلك هو المتبادر عرفاً.
والمراد بالعرف الذي يرجع في الاستطابة عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار دون أهل البوادي وذوي الاضطرار من جفاة العرب...
بل ربّما نوقش أيضاً بأنّه إن أراد إحالة التنفّر والاشمئزاز إلى عرفهم فهو إنّما يتمّ لو علم أنّه معنى الخباثة، وهو بعد غير معلوم. وإن أراد إحالة الخباثة إلى غيرهم فلا عرف لها عند غير العرب؛ لأنّها ليست من لغتهم ولم يتعيّن مرادفها في لغتهم.
هذا مع أنّ طباع أكثر أهل المدن العظيمة أيضاً مختلفة في التنفّر وعدمه جدّاً، كسكّان بلاد الهند والترك والافرنج والعجم والعرب في مطاعمهم ومشاربهم؛ ولذا خصّ بعرف العرب، وهو أيضاً غير مفيد، لأنّ عرفهم في هذا الزمان غير معلوم...
ثمّ يقول صاحب جواهر الكلام بعد ذلك ردّاً على الشهيد:
إلاّ أنّه لا يخفى عليك ما في الجميع؛ ضرورة كون المراد من الخبيث الذي هو عنوان التحريم هو ما يستخبثه الإنسان بطبعه السليم من آفة من حيث ذاته وينفر منه ويشمئزّ منه، من غير فرق بين العرب والعجم وأهل المدن والبادية وزمان اليسار وغيره؛ إذ هو معنى قائم في المستخبث لا يختلف باختلاف الأزمنة  والأمكنة والناس، ويقابله الطيّب الذي هو كذلك .
أقول: ما ذكره  أخيراً من إنكار اختلاف الناس باختلاف الطبائع وبحسب الأمكنة والأزمنة ممنوع جدّاً، فإن الاستخباث والاستطابة الطبعيتين بحسب طبع نوع الإنسان إنّما نسلّمهما في الجملة وفي بعض الأشياء، وفي غيره الاختلاف في الطبائع مشهود لا يقبل الانكار، وربّما يصعب التمييز بين الاستخباث الطبعي والتلقيني.
وحينئذٍ هل الملاك في تشخيص الطيب والخبيث طبع كلّ فرد أو طبائع جميع الأفراد أو غالبهم في جميع الأعصار أو في كلّ عصر أو طبع أغلب العرب ـ كما قيل ـ أو غالب المسلمين وجوه.
أضعفها الأوّل؛ إذ يصعب الالتزام بحرمة أكل طعام واحد لأحد وحلّيته لآخر في زمان واحد ومكان واحد.
ومثله في الضعف الثاني؛ إذ لا يحرز أحد طبائع جميع الناس أو أغلبهم في جميع الأعصار المستقبلة في كثير من الموارد، فتقل الفائدة في الآيات المحلّلة للطيّبات والآية المحرّمة للخبائث.
ويضعف الوجه الرابع واعتبار طبائع العرب، بأن الله سبحانه كما أحلّ الطيّبات للمسلمين، أحلّها لأهل الكتاب أيضاً، كما في الآية الخامسة المتقدّمة.
والظاهر أنّ أحسن الوجوه اعتبار طبع غالب المسلمين في كلّ عصر، فإن تنفروا من شيء فهو الخبيث وإن استلذّوا بشيء فهو الطيّب ما لم يدلّ خاصّ على خلافه، فتأمّل فيه والله أعلم.
وأخيراً إليك ما ذكره بعض الباحثين من أهل السنّة:
وقد توسّع بعض الفقهاء فرأوا تحريم كثير من المواد الغذائية ذات الأصل الحيواني، استناداً إلى قول الله تبارك وتعالى في حقّ نبيّه P: (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث). فرأوا بناءاً عليها تحريم كلّ خبيث.
ولما كان الاستخباث أمراً يختلف بحسب أذواق البشر فما يستخبثه قوم قد يستطيبه قوم  آخرون، فرأى الفقهاء أنّ المرجع في ذلك أذواق العرب من أهل القرى والمدن، دون أهل البوادي والمواضع المنقطعة، فإنّهم لشظف عيشهم يأكلون كلّ ما دبّ ودرج واعتادوا على ذلك.
وجعل الحنابلة من ذلك أبوال الحيوانات المأكولة اللحم، فإنّها عندهم طاهرة، ولكن يحرم شربها للاستقذار... وعندنا في هذا النوع من المحرمات نظر؛ فإنّ فهم الآية بهذه الطريقة مخالف لأسلوب الحصر الذي استعملته آيات تحريم المحرّمات، كما سبق... ولكن معنى قوله تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث). أنّه جاءهم بتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به، وما سوى ذلك ممّا تقدّم بيانه كالخمر ونحوها، وهي الخبائث فلا يزاد عليها شيء آخر...

أسباب حرمة الأكل والشرب:
1 ـ النجاسة الذاتية.
2 ـ التنجّس الحاصل بملاقاة النجس العين مع الرطوبة المسرية.
3 ـ الضرر الشديد.
4 ـ الإسكار.
5 ـ الخبث.
6 ـ الغصب.
7 ـ أكل مال الغير من دون رضاه كما في بعض المعاملات الباطلة (فتأمّل).
8 ـ النهي الخاص كما في الحيوانات غير مأكولة اللحم، وأكل الطين والتراب وغيرها .
9 و10 و11 ـ النذر والعهد واليمين على تفصيل مذكور في الكتب الفقهية المفصّلة.
12 ـ الاحرام، فإنّه يحرم أكل بعض الأشياء على المحرم للعمرة أو للحج.
13 ـ الصوم الواجب، حيث يمنع من الأكل والشرب في النهار كلّه من طلوع الفجر.
14 ـ الصلاة التي يحرم قطعها، فلا يجوز الأكل والشرب المنافيين للصورة الصلاتية في أثنائها.
15 ـ وطء الحيوانات المأكول لحمها، فإنّه يوجب حرمة أكلها .
ثمّ لا اشكال في وجوب الاجتناب عن الأشياء التي يحرم أكلها أو شربها مطلقاً، أي سواء أخذت من يد مسلم أو كافر، وسواء استوردت من بلاد الكفّار أو صنعت في بلاد المسلمين، وهذا واضح.
وأمّا إذا أخذ من يد الكافر شيء أو استورد من بلاد الكفار شيء، شكّ في طهارته ونجاسته، أو في حرمته وحلّيته، فهذا الشكّ ينشأ من أمرين:
أحدهما: التذكية وعدمه، كما إذا شككنا في أنّ هذا اللحم ـ من حيوان مأكول لحمه ـ هل من حيوان مذبوح بيد مسلم، كان في بلد الكافرين أم لا؟ وهل هذا الجلد المصنوع المستورد من بلاد الكفار هل استورد ـ غير مصنوع ـ من بلاد المسلمين كما هو الرائج في هذه الأزمنة، أو أنّه أُخذ من حيوان مقتول بطريقتهم من دون تذكية شرعية.
ففي هذا النوع من الشكّ تجري أصالة عدم التذكية، فلا يبقى معها موضوع لأصالة الحلّية وأصالة البراءة وأصالة الطهارة ـ كما حقّق في أُصول الفقه ـ فيحكم بحرمة اللحم المذكور.
وكذا يحكم ـ عند المشهور من الفقهاء أو كثير منهم ـ بنجاسة الجلد فإنّها كحرمة الأكل مترتّبة على عدم التذكية، وخالف فيه بعضهم منهم السيّد الأستاذ الخوئي M بدعوى أنّ النجاسة متفرّعة في الأحاديث على الميتة، وهذا العنوان لا يثبت بعدم التذكية، إلاّ بناءاً على الأصل المثبت الذي لا يقول باعتباره أهل التحقيق من الأصوليين اليوم، فحكم بطهارته.
وللنزاع ثمرة مهمّة للمسلمين في بعض ملابسهم المصنوعة من الجلد، بل وفي بعض الأشياء الأخر المستعمل فيها الجلد بأقسام من الاستعمال المستوردة من بلاد الكفّار، فلا بدّ من رجوع كل متدّين إلى مرجعه ومقلّده في احراز وظيفته الشرعية، والله الموفّق.
ثانيهما: ملاقاة بدن الكافر المحكوم بالنجاسة مع الشيء المذكور، وفي هذا الفرض تجري أصالة البراءة وأصالة الطهارة، بل واستصحاب عدم الملاقاة، لا سيما في مثل أعصارنا، أعصار المكائن المنتجة المانعة عن مباشرة اليد بالأشياء.
نعم، في مثل الألبسة المستعملة المستوردة من بلاد الكفار لا بدّ من الاحتياط للعلم الاجمالي بنجاستها من سراية رطوبات أبدانهم بها.
وكذا إذا شككنا في مادة مصنوعة مستوردة من بلادهم أنّها مصنوعة من شيء يحرم أكله ولو لنجاسته أو من شيء محلّل أكله، مقتضى الأصل طهارته وحلّية أكله.
نعم، إذا علمنا إجمالاً بوجود محرّمات في عدّة من المواد المستوردة ـ ولم ينحلّ العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ـ فهذا يصبح مجرى لقاعدة الاحتياط دون أصالة البراءة.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=168
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 08 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29