• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : كتاباً متشابهاً لا اختلاف فيه .
                          • رقم العدد : العدد الثاني والثلاثون .

كتاباً متشابهاً لا اختلاف فيه

 

كتاباً متشابهاً لا اختلاف فيه

إعداد : الشيخ سمير رحال

قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}النساء 4/ 82

ذكر العلماء ان  دلالة القرآن على صدق النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم من أوجه كثيرة: منها فصاحته وبلاغته.

ومنها: اشتماله على الاخبار عن الغيوب.

ومنها: سلامته عن الاختلاف، وهذا هو المذكور في هذه الآية

القرآن صياغة إلهية

فالآية الكريمة تقرر أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ ، وأنّه وحي منزل من اللّه الحكيم العليم  وكان دور النبي (ص) التَّلقِّي فقط، هو شخصٌ يتلقَّى الوحي معنىً ولفظًا ويبلغه كما تلقَّاه ،ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقض والاختلاف، وإذا تحقق عدم وجود الاختلاف، فلا بد من الاذعان  أنّه وحي من اللّه تعالى.

القرآن يثبت التشابه وينفي الاختلاف فيه

والتشابه على نوعين:

صفة لبعض آيات القرآن الكريم، وصفة لمجموع آيات القرآن الكريم

ومما وصف به بعض الآيات، قوله تبارك وتعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...}آل عمران:7

فكل آية تشتمل على إجمال، إما إجمال في المفهوم أو إجمال في المصداق، تسمى آية متشابهة، بينما الآية المحكمة هي الواضحة مفهومًا ومصداقًا.. هذا وصفٌ لبعض آيات القرآن.

 _ وهناك تشابهٌ وصف به  جميع آيات القرآن، فكل الكتاب متشابه، {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}الزمر:23 والمراد بالتشابه هنا ورود سائر المضامين بنفس واحد ومستوى واحد.  وهذا معنى التشابه  فهو ليس متفاوتًا، وهذا معنى قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ} لو كان كلام بشر لرأوه متفاوتًا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

ووجه الملازمة: أن غير اللَّه يخضع في كلامه لحالات مختلفة ولظروف مختلفة في حياته المادية والمعنوية؛ وهو خاضع لقانون التكامل الذي يستوعب الإنسان وجوانبه الروحية وأفكاره، فيتغير بموجب هذا القانون كلام الإنسان وفكره وأحاديثه  فيترك ذلك اختلافا كثيرا في ما يصدر عنه.

أما اللَّه سبحانه فلا يختلف أمره في حال عن حال ولذلك فلا يمكن لكلامه أن يكون موضعا للاختلاف والتنافر والتنافي، بل هو الذي يصدق بعضه بعضا، و يفسّر بعضه بعضا، ويبين أوله آخره، وآخره أوله.

فالقرآن نزل في حالات متباينة وأوضاع مختلفة،... وتعرّض لأكثر من موضوع وقضية، بل ربما يتحدث عن القضية الواحدة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة.

وامتدت عملية التنزيل إلى مدى ثلاث و عشرين سنة، ، فلم تختلف فيه آية عن أخرى، ولا مفهوم عن آخر، مما يدلنا أنه كلام اللَّه الواحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والمراد من الاختلاف الأعمّ من التناقض في المعنى، ونفي بعضه بعضا، وليس المراد بالاختلاف خصوص التناقض

ثمّ إنّ المنفي من القرآن الاختلاف بجميع وجوهه، وإنّما وصفه بالكثرة لأنّ الكلام مشتمل على جوانب متعدّدة، فليس المراد نفي الاختلاف الكثير دون الاختلاف القليل اليسير.

ومظاهر الاختلاف المفترضة إما في نظمه و إما في معانيه.

أما في نظمه وبلاغته: فيكون بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه.

وأما في معانيه: فقد يكون بعضه صحيح المعنى وبعضه فاسدا سقيما.

وقد يخبر عن الغيب وقصص السابقين بما يوافق الواقع وبما يخالفه

وقد يصيب في تصوير الحقائق الكونية وسنن الحياة الاجتماعية وغيرها أمور، وقد يجانب الصواب.

وكل ذلك منفي عن القرآن الكريم ولكن لا بد من التدبر فيه والتعمق في مداليله، لئلا يتوهم القارئ الاختلاف في ما ليس فيه اختلاف.

وهذا التوهم منشؤه اسباب كثيرة مثل وجود الآيات المتشابهات وبعض ظواهر الآيات اذا فهمت بعيدا عن جملة الآيات المتناولة للموضوع نفسه، والنظرة التجزيئية لبعض الآيات وعدم فهم اسلوب القرآن في عرض موضوعاته، فان كل ذلك وغيره مما قد نتعرض له قد يؤدي الى مثل هذه التوهمات.

وفي هذا المجال نذكر ما نقل من ان الفيلسوف إسحاق الكِندي كتب كتابا في إثبات تناقض القرآن في آياته، وشغل نفسه به، وعرف الإمام الحسن بن علي العسكري بذلك، وإن بعض تلامذته دخل على الإمام العسكري عليه السّلام، فقال له: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا وفي غيره؟

فقال له أبو محمد الإمام العسكري عليه السّلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم.

قال: فصر إليه و تلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله؛ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي منك ذلك

فقل له: إن هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به غير المعاني التي قد ظننت أنك ذهبت إليها؛ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم، فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعا لغير معانيه؟

فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له:

أعد عليّ. ففكر في نفسه، ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغا في النظر، فقال: أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أين لك هذا. فقال: إنه شي‏ء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا. فقال: أمرني به أبو محمد. فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه‏[1].

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده المتصل إلى أبي معمر السعداني قال: إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي شككت في كتاب اللّه المنزل قال عليه السّلام: و كيف شككت في كتاب اللّه؟! قال لأنّي وجدت الكتاب يكذّب بعضه بعضا، فكيف لا أشكّ فيه؟! فقال الإمام: إنّ كتاب اللّه ليصدّق بعضه بعضا ولا يكذّب بعضه بعضا، ولكنّك لم ترزق عقلا تنتفع به، فهات ما شككت فيه. فجعل الرجل يسرد آيات زعمهنّ متهافتات‏ ويجيب عليهنّ الإمام.[2]

وهكذا روى صاحب كتاب الاحتجاج: أنّ بعض الزنادقة جاء إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام وقال له: لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم.

فقال له: وما هو؟ فجعل يسرد آيات بهذا الشأن ليأخذ جوابه الوافي، وشكره أخيرا و دخل في حظيرة الإسلام.[3]

وهناك كتب مختصة للرد على هكذا شبهات تحت عناوين مختلفة كمتشابه التنزيل او مشكل القرآن او مشكل الآيات(4)

إشكال: اعتماداً على كلام لأمير المؤمنين عليه السلام فإنّ في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً: "وناسخه ومنسوخه"([4]) والاختلاف بين الناسخ والمنسوخ هو تبايني لا محالة، إذن فكيف نُفي الاختلاف التبايني في القرآن في قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}([5])

الجواب: إنّ للتباين بين شيئين شروطاً خاصة من أهمها الاتحاد في الزمان والمكان والحيثية موضع الاهتمام، إذن فالشيئان اللذان لا يجتمعان في زمان واحد لكنّ كل واحد منهما يكون نافعاً وضرورياً في زمانه الخاص فإنهما، وإن تباينا بلحاظ الزمان الواحد وظرف الاجتماع، إلا أنّ استقرار كل منهما في موضعه النافع يبعث على تحويل علاقة التباين بينهما إلى علاقة تناسب.... وتأسيساً على ذلك فإنّ استقرار المنسوخ في زمانه اللازم له وظهور الناسخ في فرصته الضرورية له هو الباعث على اشتمال الكتاب المدوّن لله عزّ وجل على أفضل أنماط الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، مما لا يمكن العثور على كتاب آخر يكون أفضل منه أو حتى مثله... وعلى رغم اشتمال القرآن على الناسخ والمنسوخ، والمُحكم والمتشابه، وما إلى ذلك فإنه لا يُلاحظ أي اختلاف مذموم أو انفصال أو عدم انسجام بين أول القرآن الكريم وآخره...([6])

أسباب الإختلاف الظاهر فى بعض الآيات

هناك عدة أمور ربما يتوهم منها وقوع الاختلاف والتفاوت بين الآيات:

اولاً: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة شتّى.

فتتناول كل آية مرحلة من تلك المراحل مثل مسألة خلق الانسان: 

فهناك أطوار ومراحل مختلفة يمرّ بها خلق الانسان (خلق آدم): ابتداء بالتراب مرورا بالحمأ وهو الطين الأسود المنتن ثم  اللازب، ثم بالصلصال وهو الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، أي صوت إذا قرع بشيء، وقيل الصلصال المنتن، والفخار وهو الطين المطبوخ وهكذا الى النهاية.

ففي آيات ذكر تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ}الحج:5 والمراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها، لأنه أصلهم وهم فروعه

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}‏ قال: هو آدم.([7])

ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طيناً، ولذا قال {اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}الإسراء:61 ثم خمر هذا الطين فصار حمأً مسنوناً، أي طيناً أسود متغير الريح، كما قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}الحجر:26 والمسنون قيل المتغير وقيل المصور وقيل الأملس ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالاً كما قال: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار}الرحمن: 14 فالآيات يصدق بعضها بعضاً، ويتبين فيها أطوار ذلك التراب.

ثم لما خلق آدم من طين خلق زوجه حواء، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها}النساء:1 ثم لما خلق الرجل و المرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره: النطفة، ثم العلقة. الخ.

قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ‏}المؤمنون 12- 14

وكذلك الكلام في عصا موسى عليه السلام:

يقول تعالى في موضع {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}الاعراف:107، وفي آية أخرى {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ}القصص/31

الجآن هو الحية الصغيرة، والثعبان هو الحية الكبيرة فذكر أن الله خلقها ثعبانا كبيرا عظيما، لكن حركته واهتزازه وخفته بسرعة شديدة مثل اهتزاز الجان (الثعبان الصغير)

 

 ثانياً: اختلاف الموضوع

1_ كقوله تعالى {وقفوهم إنهم مسئولون}الصافات:24

وقوله في آية أخرى {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}الأعراف:6

وقوله {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن}الرحمن:39

والجمع بين الآيات بوجوه

منها: ان الاختلاف بين الطائفتين باختلاف المواقف في يوم القيامة، حيث يُسأل الإنسان في موقف ولا يُسأل في موقف آخر.

ومنها: حمل الآيات النافية للسؤال، على السؤال عن طريق اللسان حيث تتكلم الأعضاء مكان الإجابة باللسان، قال سبحانه: {الْيَومَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُون}يس:65

وقيل يسأل للتبكيت والتوبيخ، أما السؤال المنفى سؤال المعذرة وبيان الحجة.

 

2/ وكقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ....} 3:بالنساء

وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}النساء/129

فالآية الأولى تحمل في توفية الحقوق والنفقات، أما الآية الثانية تدل على الميل القلبي وهو الحب. وهذا ليس في قدرة الإنسان.

ذكر علي بن ابراهيم في تفسيره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أما قوله فإن خفتم ألا تعدلوا فإنه عنى في النفقة، وأما قوله‏ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} فإنه عنى في المودّة فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة.([8])

ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية (129) من سّورة النساء حيث يقول سبحانه: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ} أي أنّكم إذ لا تقدرون على مراعاة المساواة الكاملة في محبّة الزوجات وودّهنّ، فلا أقل أن لا تميلوا في حبّ بعض الأزواج ميلا شديدا يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها، فلا هي ذات زوج ولا أيم.

ثالثاً: اختلافهما في جهتي الفعل

مثل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}الأنفال:17

إذا رأيت حدثا أو فعلا منفيا ومثبتا له فى وقت واحد، قد يبدو لك أن فى الكلام تناقضا. وهنا- على سبيل المثال- ينفى الحق الحدث فى قوله: {وَما رَمَيْتَ} ويثبته فى قوله: {إِذْ رَمَيْتَ}. والرمى معروف. والفاعل هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فكيف ينفى عنه الفعل أولا، ويثبته له ثانيا؟

الجواب: أضاف القتل والرمي لله باعتبار التأثير والنتيجة. لكن أضاف القتل للمؤمنين/ والرمي للرسول صلى الله عليه وآله على جهة العمل والكسب والمباشرة.

قال  العلامة الطباطبائي: المراد بقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى‏} نفي أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة...  إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم و سكنت أجراسهم.

فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.

فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي، و لا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، و النبي ص راميا لما رماه من الحصاة([9]).

 

رابعا/اختلاهما فى الحقيقة والمجاز

 مثل{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}الحج:2

الجواب سكارى من أهوال القيامة مجاز. وليس بسبب الشرب حقيقة.

 

خامساً: بوجهين واعتبارين، وهو الجامع للمفترقات

كقوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}ق: 22

وقوله تعالى: {خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ}الشورى: 45.

قال قطرب: {فبصرك} أي علمك و معرفتك بها قوية، من قولهم: «بصر بكذا و كذا» أي علم. وليس المراد رؤية العين.

 

مواضع أخرى من القرآن زعموا أن فيها اختلافا نذكر منها:

1_قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}الزمر:42

ثم قال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}السجدة:11

{..حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}الانعام:61

الجواب على التنافي البدوي:

أن الله تعالى هو المتوفي بالحقيقة وملك الموت والملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره([10]).

فالله تعالى هو المتوفي بالحقيقة وملك الموت والملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره.

في التوحيد، عن علي عليه السلام في حديث: وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: .... فإن الله تبارك وتعالى يدبر الأمر كيف يشاء- و يوكل من خلقه من يشاء بما يشاء- أما ملك الموت- فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه- و يوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه-

وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم- أن يفسره لكل الناس- لأن فيهم القوي و الضعيف، و لأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله- إلا أن يسهل الله له حمله- و أعانه عليه من خاصة أوليائه. وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، و أنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه- من ملائكته و غيرهم.([11])

_قال تعالى: {... وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}52:الشورى 2

ثم قال {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...}القصص:56

 الجواب: الهداية نوعان1/هداية ارشاد ودلالة 2/ وهداية معونة وتوفيق ومساعدة وهذه بيد الله فقط

 فالآية/ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بمعنى الهداية هنا ارشاد ودلالة انك تدلهم على طريق الطاعة وطريق الجنة، اما {إِنَّكَ لَا تَهْدِي} فليس المقصود من الهداية «إراءة الطريق»، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النبي صلى الله عليه وآله، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف»، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد اللَّه وحده.

من مظاهر الاختلاف المفترضة في نظمه.

كما ان ان هناك دعاوى لوجود تناقضات على مستوى المضمون الفرآني , كذلك كانت هناك محاولات لاختلاق تناقضات على مستوى الاسلوب الغرض منها نفي كون القرآن وحياً إلهياً معنى ولغة او بخصوص لغته فيكون حاله حال الاحاديث النبوية الشريفة الموحاة من الله تعالى ولكنها بصياغة النبي(ص) الذي اوتي جوامع الكلم.

ولقد كان موضوع المكي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي اثيرت حولها الشبهة والجدل وتنطلق الشبهة هنا من اساس هي ان الفروق والميزات التي تلاحظ بين القسم المكي من القرآن الكريم والقسم المدني منه.. تدعو في نظر بعض المستشرقين الى الاعتقاد بان القرآن قد خضع لظروف بشرية مختلفة اجتماعية وشخصية تركت آثارها على اسلوب القرآن وطريقة عرضه وعلى مادته والموضوعات التي عنى بها.  

وهذا الاشكال ناشئ من الخلط بين فكرة تأثر القرآن الكريم وانفعاله بالظروف الموضوعية من البيئة وغيرها بمعنى انطباعه بها والتي تعني في الحقيقة بشرية القرآن  وهذا ننفيه وبين فكرة مراعاة القرآن لهذه الظروف بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة حيث تحدد الغاية والهدف طبيعة الاسلوب الذي يجب سلوكه للوصول اليها وهذا لا مانع منه.    

فجميع الشبهات التي تثار حول المكي والمدني هي في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكي والمدني على أساس أن القرآن الكريم نتاج بشري ولا شك في بطلانها.

وقد اجاب على هكذا إشكالات جملة من المحققين.

شبهة التفاوت البلاغي بين سور وآيات القرآن الكريم

 قالوا :بعض سور القرآن أكثر بلاغةً من بعض السور الأخرى، فبالمقارنة بين سورة المسد وبين سورة الرحمن، نجد أن سورة الرحمن أكثر بلاغة من سورة المسد، والوجه في ذلك:

ان كلتا السورتين واردتان في مقام واحد وهو الوصف، لكن سورة الرحمن  أكثر بلاغة لأنها تضمنت أبلغ الأوصاف المؤثرة في جذب النفوس نحو الطاعة والبعد عن المعصية ووفت الغرض الذي من أجله وردت، وهو ترغيب الناس في الطاعة من خلال ترغيبهم في الجنة.

وأما سورة المسد فيقال بأن هذه السورة تتضمن تكرارًا؛  كما أنها تتضمن أوصافًا لا دخل لها في الغرض من السورة، فلماذا قالت: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}؟! أي دخل لذلك في الغرض من السورة، وهو تنفير الناس من الظلم؟!

والغرض من هذه الشبهة التي يثيرها بعض الحداثيين بيان أن هذا القرآن بشري، وصياغته صياغة بشرية، والدليل على ذلك هو تفاوت المستوى البلاغي بين سوره، والتفاوت البلاغي كاشف عن أن المتكلم متفاوت، ولا يكون المتفاوت إلا بشرًا، فهذا يعني أن الصياغة جاءت من قِبَل بشر.

الرد على هذه الشبهة

وقد اجيب على هذه الشبهة بمنع التفاوت المدّعى، فالكلام البليغ هو أن يتطابق الكلام مع المقام، ولذلك يقال: لكل مقام مقال، وكلما كان الكلام وافيًا بمقتضى الحال، كان الكلام أبلغ وأمتن.

في سورة المسد أراد القرآن الكريم أن يصف أبا لهب وصفًا دنيويًا وأخرويًا، يساهم في تصوير الظلم ونتيجته تصويرًا ينفّر الناس من مزاولة الظلم، ورفض الظلم والطغيان، فجاءت هذه السورة لأجل هذا الغرض واستوفته.

إذن هي الأبلغ في موردها وفي مقامها.

وأما سورة الرحمن

فإنها لما جاءت في مقام الترغيب، جاءت بهذه الأوصاف المرغّبة، وبعض الأشخاص يجهل القيمة البلاغية للتعبير، فلأجل ذلك يرى أن هذه السورة أبلغ من السورة الأخرى فإن الجهل بنكات التعبير في بعض السور دون بعض لا يعني أن هذه السورة أبلغ من تلك الصورة، فهذا لقصور في المتلقي للقرآن الكريم، وليس لقصور في نفس القرآن الكريم

كما ان اختلاف تفاعل الناس بين سورة الرحمن وسورة المسد يرجع إلى اختلاف في الطباع، ويرجع إلى اختلاف في النفس، لا أنه يرجع إلى تفاوت في الكلام نفسه من حيث درجة البلاغة والروعة، كي يقال بأن تفاوت القرآن يكشف عن تفاوت في المتكلم، بل المتكلم واحد، ومستواه البلاغي واحد، المتكلم هو الكمال المطلق، وما صدر منه هو الكمال المنسجم مع كماله، لأنه يعيش الأمل، هذا التفاوت مجرد تفاوت نسبي، وبلحاظ المتلقي لا بلحاظ الآية، لكنْ كلٌ من السورتين في مجالها هي تقوم بدور لا تقوم به السورة الأخرى، فكلٌ منهما هي الأكمل في مجالها وأداء دورها، لأجل ذلك لا يوجد تفاوت حقيقيٌ بين هذه السور.

 

 

نعم هناك تفاوت في الفضل بين السور والآيات

يظهر من العديد من الروايات الشريفة الاقرار بوجود التفاضل بين السور والآيات:

فسورة البقرة من أهم السور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل كنوزها، وفيها أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي) وأجمع آية للكمالات الإنسانية/أية البر 177

فقد سئل النبي أي سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة . قيل أي آية البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: إن لكل شي‏ء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي.

وآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ}آل عمران/ 18

 تشتمل على أعظم شهادة تدلّ على وحدانيّته وكماله في خلقه و أفعاله، ولعظم ما تضمّنته الآية الشريفة صارت من أعاظم الآيات، وقد ورد في فضلها بعض الروايات.

وبخصوص سورة الانعام  فقد اشتملت على أربعين احتجاجا وبرهانا على التوحيد وروى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة وشيّعها سبعون ألف ملك فعظّموها وبجّلوها فإن اسم اللّه فيها في سبعين موضعاً...

وهذا الفضل لم يرد في فضل الكثير من الآيات، فلا مانع من التفاضل بين السور والآيات وذلك لأسباب عديدة منها المضامين العالية وغير ذلك من اسباب من غير ان يوجب ذلك اختلالا او تفاوتا في اعجاز القرآن او بلاغته او في قوة التأثير.

_ مصادر البحث : مجموعة من التفاسير

                      تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة

                    علوم القرآن للسيد الحكيم

 

 



[1] ( 1) محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج: 4، ص: 303- 304( نقلا عن مناقب ابن شهر آشوب).

[2] ( 1) راجع: كتاب التوحيد، للصدوق، ص 255، رقم 5، باب الردّ على الثنوية و الزنادقة؛ و أورده المجلسي في كتاب القرآن من البحار، ج 90، ص 127- 142.

[3] ( 2) راجع: الاحتجاج للطبرسي، ج 1، ص 358- 359؛ وأورده المجلسي في البحار، ج 90، ص 98- 127.

[4] كتاب نهج البلاغة، الخطبة 1 المقطع 46، نذكر من تلك الكتب: وللشريف الرضي (ت 406) بحث في ذلك باسم «حقائق التأويل في متشابه التنزيل». والقاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت 415) فصّل الكلام في «تنزيه القرآن عن المطاعن». ولقطب الدين الراوندي (ت 573) في كتابه «الخرائج والجرائح» باب عقده للردّ على مطاعن المخالفين في القرآن. ولابن شهرآشوب المازندراني (ت 588) كتاب قيّم في «متشابهات القرآن ومختلفة». ولجلال الدين السيوطي (ت 911) في كتابه «الإتقان»- نوع 48- بحث مستوف عن مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض فيه.

وللمولى محمّد باقر المجلسي (ت 1111) في موسوعته القيّمة (بحار الأنوار، ج 89، ص 141؛ و ج 90، ص 98- 142) ردّ عليها فيما ورد في كلام المعصومين والشيخ خليل ياسين كتاب حول مشكل القرآن، أسماه «أضواء على متشابهات القرآن». وللعلّامة الشيخ السبحاني تأليف في التفسير الصحيح لمشكل آيات القرآن الحكيم.)

[5] سورة النساء/82

[6] إشكال الناسخ والمنسوخ وجوابه (ذكره الشيخ آملي في تفسيره تسنيم ج 6, ص: 117 _ 118)

[7] حويزى، عبدعلى بن جمعه، تفسير نور الثقلين، 5جلد، اسماعيليان - ايران  .

[8] مختصر مجمع البيان، ج‏1، ص: 348

[9] كتاب تفسير الميزان ج 9 ص 39ـ 40، موسوعة جامع التفاسير الاكترونية الاصدار الثالث.

[10] كتاب تفسير الميزان ج 17 ص 269.

[11] طباطبايى، محمدحسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=808
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20