الإمام الصادق (ع) والمذاهب الاسلامية
الإمام الصادق (ع) والمذاهب الاسلامية
عاصر الإمام جعفر الصادق (80-83/ 148هـ) عهد تأسيس وتبلور المذاهب الإسلامية، فقد عاصره إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80-150هـ)، وإمام المذهب المالكي مالك بن أنس (93-179هـ)، وفقهاء آخرون، كانوا أرباب مذاهب في زمانهم ثم انحسرت، كالحافظ عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت: 157هـ)، وسفيان الثوري (ت: 161هـ)، وأعلام كان لهم أتباع وتأثير في مجتمعات الأمة آنذاك. ولقد اعتمد الإمام نهج الانفتاح والتواصل والحوار مع المذاهب الأخرى
معالم منهج الانفتاح
أولًا: تبيين معالم مدرسة أهل البيت عقديًا وفقهيًا وثقافيًا، ليتعرف عليها الآخرون بوضوح، بعيدًا عن التشويه الذي يستهدفها من المناوئين. وليكون أبناؤها على بصيرة من أمرهم، ومعرفة بمذهبهم وانتمائهم
وقد بذل الإمام جعفر الصادق (ع) جهدًا عظيمًا في بثّ علوم ومعارف مدرسة أهل البيت ، حتى نسب المذهب إليه، فيقال: المذهب الجعفري.
وقد ورد عنه : «لَمَّا حَضَرَتْ أَبِي [الإمام محمد الباقر ] الْوَفَاةُ، قَالَ: يَا جَعْفَرُ، أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْرًا، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَاَللَّهِ لَأَدَعَنَّهُمْ وَاَلرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَسْأَلُ أَحَدًا»
ثانيًا: التأكيد على جامعية الإسلام لأبناء المذاهب والمدارس المختلفة في الأمة، وذلك في مقابل اتجاهات التكفير والتطرف، بسبب الاختلاف في جزئيات العقيدة، أو التشريع، أو الموقف السياسي.
فقد ورد عنه : «الْإِسْلاَمُ هُوَ الظَّاهِرُ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلنَّاسُ، شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَحِجُّ اَلْبَيْتِ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهَذَا الْإِسْلَامُ».
وهذا هو نهج أئمة أهل البيت في رفض منحى التكفير، فأمير المؤمنين عليٌّ لم يواجه حتى من كفّره كالخوارج بسلاح التكفير.
ورد عن الإمام محمد الباقر(ع) : «أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ يَنْسُبُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَى الشِّرْكِ، وَلاَ إِلَى النِّفَاقِ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»
ثالثًا: الجامعة المفتوحة لأبناء الأمة، حيث فتح الإمام جعفر الصادق (ع) أبواب مجلسه، وحلقات دروسه، لكلّ الراغبين في العلم والمعرفة، وتحدّثت المصادر عن احتضان مدرسته لما يقارب 4000 طالب من مختلف الأقطار والتوجهات، استفادوا من نمير علمه في مختلف جوانب العلم والمعرفة.
روي عن الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي أنه قال لابن عيسى القمي: (إنّي أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ، كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد(ع)
رابعًا: الانفتاح والتواصل والحوار مع أئمة المذاهب الأخرى
وتنقل المصادر التاريخية عددًا من الشواهد والمشاهد عن العلاقة بين الإمام جعفر الصادق ، وبين بعض أئمة المذاهب وأعلام الأمة المعاصرين له، نذكر منها بعض ما ورد في علاقته بأبي حنيفة إمام المذهب الحنفي
فقد سُئل أبو حنيفة: (مَنْ أَفْقَهُ مَنْ رَأَيْتَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهُ مِنْ جَعْفَرٍ، لَمَّا أَقْدَمَهُ الْمَنْصُورُ الْحِيرَةَ بَعَثَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، إِنَّ النَّاسِ قَدْ فُتِنُوا بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَهَيِّئْ لَنَا مِنْ مَسَائِلِكَ الصِّعَابَ، فَهَيَّأْتُ لَهُ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ الْمَنْصُورُ فَأَتَيْتُهُ، فَدَخَلْتُ، وَجَعْفَرٌ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا بَصُرْتُ بِهِمَا دَخَلَنِي لِجَعْفَرٍ مِنَ الهيبة مَا لَمْ يَدْخُلْنِي لِلْمَنْصُورِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى جَعْفَر فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا: «قَدْ أَتَانَا»، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، هَاتِ مِنْ مَسَائِلِكَ، فَاسْأَلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَابْتَدَأْتُ أَسْأَلُهُ، فَكَانَ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، وَنَحْنُ نَقُولُ كَذَا وَكَذَا»، فَرُبَّمَا تَابَعْنَا، وَرُبَّمَا تَابَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا خَالَفْنَا مَعًا، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى أربعين مَسْأَلَةٍ، مَا أَخْرِمُ فِيهَا مَسْأَلَةً، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: أَلَيْسَ قَدْ رَوِينَا أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالاخْتِلافِ)
وعن علاقة الإمام جعفر الصادق(ع) بمالك بن أنس إمام المذهب المالكي، قال مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَزْدِيُّ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَقِيهَ الْمَدِينَةِ يَقُولُ: كُنْتُ أَدْخُلُ إِلَى الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَيُقَدِّمُ لِي مِخَدَّةً وَيَعْرِفُ لِي قَدْرًا وَيَقُولُ لِي: يَا مَالِكُ، إِنِّي أُحِبُّكَ، فَكُنْتُ أُسَرُّ بِذَلِكَ، وَأَحْمَدُ اَللَّهَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا لاَ يَخْلُو مِنْ إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: إِمَّا صَائِمًا، وَإِمَّا قَائِمًا، وَإِمَّا ذَاكِرًا، وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ اَلْعِبَادِ، وَأَكَابِرِ اَلزُّهَّادِ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، طَيِّبَ اَلْمُجَالَسَةِ، كَثِيرَ اَلْفَوَائِدِ، فَإِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ، اِخْضَرَّ مَرَّةً، وَاِصْفَرَّ أُخْرَى، حَتَّى يُنْكِرَهُ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، وَلَقَدْ حَجَجْتُ مَعَهُ سَنَةً، فَلَمَّا اِسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ اَلْإِحْرَامِ، كَانَ كُلَّمَا هَمَّ بِالتَّلْبِيَةِ اِنْقَطَعَ اَلصَّوْتُ فِي حَلْقِهِ، وَكَادَ أَنْ يَخِرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَقُلْتُ: قُلْ يَا بْنَ رَسُولِ اَللَّهِ، وَلَا بُدّ لَكَ مِنْ أَنْ تَقُولَ، فَقَالَ: «يَا بْنَ أَبِي عَامِرٍ، كَيْفَ أَجْسُرُ أَنْ أَقُولَ لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَأَخْشَى أَنْ يَقُولَ عَزَّ وَجَلَّ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ»
وجاء عن مالك بن أنس أنه قال: اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلّا على ثلاث خصال: إمّا مصلٍّ، وإمّا صائم، وإمّا يقرأ القرآن
خامسًا: المعرفة بآراء المذاهب الأخرى، وعرضها لأتباعها
فمع ثقة الإمام جعفر الصادق بمعرفته لحقائق المفاهيم والأحكام الشرعية، وأنّ آراء الفقهاء الآخرين واجتهاداتهم المخالفة لمدرسة أهل البيت يجانبها الصواب، إلّا أنّه لم يكن يأنف أو يستنكف من الإحاطة بتلك الآراء، بل كان يعرضها وينقلها لأتباع أولئك الفقهاء، ويأمر تلامذته بأن يحذوا حذوه، في الإجابة على أسئلة السائلين والمستفتين.
جاء عن معاذ بن مسلم النحوي قَالَ لِي الإمام جعفر الصاق ، «بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقْعُدُ فِي اَلْجَامِعِ فَتُفْتِي اَلنَّاسَ!» قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ، إِنِّي أَقْعُدُ فِي اَلْمَسْجِدِ فَيَجِيءُ اَلرَّجُلُ يَسْأَلُنِي عَنِ اَلشَّيْءِ فَإِذَا عَرَفْتُهُ بِالْخِلاَفِ لَكُمْ أَخْبَرْتُهُ بِمَا يَفْعَلُونَ، وَيَجِيءُ اَلرَّجُلُ أَعْرِفُهُ بِحُبِّكُمْ أَوْ مَوَدَّتِكُمْ فَأُخْبِرُهُ بِمَا جَاءَ عَنْكُمْ، وَيَجِيءُ اَلرَّجُلُ لاَ أَعْرِفُهُ، وَلاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَأَقُولُ: جَاءَ عَنْ فُلاَنٍ كَذَا، وَجَاءَ عَنْ فُلاَنٍ كَذَا، فَأُدْخِلُ قَوْلَكُمْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ، فَقَالَ لِي : «اِصْنَعْ كَذَا فَإِنِّي كَذَا أَصْنَعُ»
يعني أنّ الإمام الصادق(ع) يجيب السائلين من أتباعه برأيه، والسائلين من أتباع الفقهاء الآخرين برأيهم
سادسًا: توجيه شيعته للاندماج في جمهور الأمة
وتنقل مصادر الحديث وكتب التاريخ، كثيرًا من وصايا الإمام جعفر الصادق (ع) وتوجيهاته لأتباعه، وتلامذته، بأنْ لا ينفصلوا عن مجتمعاتهم، وأنْ يحرصوا على الحضور والمشاركة في المحافل الدينية والمناسبات الاجتماعية.
رَوَى زَيْدٌ اَلشَّحَّامُ عن الإمام جعفر الصادق أَنَّهُ قَالَ: «يَا زَيْدُ، خَالِقُوا اَلنَّاسَ بِأَخْلاَقِهِمْ، صَلُّوا فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَاِشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ»
وعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ، قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللَّهِ [الإمام جعفر الصاق ]: «جَالِسْ أَهْلَ اَلْمَدِينَةِ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَوْا فِي شِيعَتِنَا مِثْلَكَ»
هل نسير على هذا النهج؟
إنّ نهج الانفتاح بين المذاهب الذي أرساه الإمام جعفر الصادق(ع) ، يجب أن يكون سمةً لأتباع مدرسته في كلّ عصر، أما الانغلاق والانكفاء عن ساحة الأمة، فهو مخالف لنهج أئمة أهل البيت ، وتحجيم لدور مدرستهم ودور أتباعهم، وهو يحقق ما يسعى إليه أعداء أهل البيت من إقصاء وتغييب مدرسة العترة الطاهرة.
إنّ حالة الانغلاق والانكفاء تخالف الحكمة والدعوة الإلهية للتعارف بين أبناء البشر، حيث يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات: 13
إنّ أيّ تنوّعٍ بين الناس في انتماءاتهم، ينبغي أن يكون دافعًا للتعارف والانفتاح، لتتعرف كلّ جهة على ما عند الجهة الأخرى.