القيمة الأساسية لحياتنا الأخلاقية
القيمة الأساسية لحياتنا الأخلاقية
الشيخ حسن بدران
تتناول فلسفة الأخلاق بالشكل الذي تطرح فيه اليوم، البحث في النظرية الأخلاقية، والأخلاق التطبيقية. وتتوزع مجالات الدراسة في النظرية الأخلاقية حول نظرية القيمة، والأخلاق المعيارية، وما وراء الأخلاق.
ويبحث في النظرية الأخلاقية عن طبيعة الأخلاق بمعزل عن القضايا الأخلاقية نفسها، ويتناول البحث فيها نظرية القيمة بغرض معرفة القيمة الاساسية التي تحدد قراراتنا، والأشياء التي ينبغي أن نضع لها قيمة، وما الدلالة التي تشير اليها عبارات مثل الصالح والخير، وهل لهذه القيم واقع موضوعي مستقل أو أنها حالات ذاتية كونها تخضع لتفضيلات الغالبية أو للذوق الفردي أو غير ذلك من اعتبارات نسبية. كما تبحث النظرية الأخلاقية في الأخلاق المعيارية بغرض التعرف على المعايير الأخلاقية لأفعالنا، وتحديد المعيار الأخلاقي الذي يجعل فعلا ما مطلوبا وواجبا أخلاقيا، هل هو لأجل عواقب الفعل وتبعاته أو لأجل الاتساق مع قواعد المسؤولية الأخلاقية التي يلتزم بها الفرد. ومن جهة ثالثة، تبحث النظرية الأخلاقية عن ميتافيزيقا الأخلاق أو ما وراء الأخلاق أو الحقائق الأخلاقية لقراراتنا، وذلك بغرض دراسة هذه الحقائق وتحديد طبيعة المعتقدات والاحكام الأخلاقية من ناحية معرفية.
أما البحث في مجال تطبيق النظريات الأخلاقية على قضايا الحياة، فهي وظيفة الأخلاق التطبيقية التي تعالج مشكلات من قبيل: اشكالية الاجهاض، او القتل الرحيم في الحالات المرضية الميؤوس منها، او قضايا الحرب، أو غير ذلك من مشكلات أخلاقية تعتبر مثار جدل مجتمعي.
وبالعودة الى نظرية القيمة، يقصد بالقيم الأخلاقية القيم الأساسية التي تحدد قراراتنا واختياراتنا الأخلاقية في الحياة. ويعتبر مجال البحث في نظرية القيمة وتحديد الأمر الأساسي الذي يحتل قيمة أعلى من بين سائر القيم الأخلاقية، من أكثر فروع الفلسفة أهمية على صعيد دراسة المبادئ الأساسية التي توجه سلوك الإنسان. إذ يفترض فلاسفة الأخلاق أن هناك قيمة أساسية واحدة، هي التي ينبغي أن تحكم سلوك البشر، وعلى أساسها تبنى منظومة القيم الأخلاقية. وبالتالي، يمكن أن نفهم القرارات الأخلاقية التي نتخذها في حياتنا في ضوء تلك القيمة الأساسية الوحيدة.
وفي الطريق الى تحقيق هذه القيمة الأساسية يمكن أن يقع التزاحم بين قيم وسيطة، ويتطلب هذا التزاحم اتخاذ قرارات تتعلق بالبدائل الأكثر تناسبا بين هذه القيم، وبالتالي التغاضي عن بعض القيم بتفضيل قيم أعلى وأكثر أهمية وبساطة.
ونحن عادة ما نتخذ قرارات معينة، تؤدي الى اعمال ذات نتائج محدودة، ولكن نريد من وراءها تحقيق هدف أكبر وأشمل. في هذه الحالة تكون القيمة الأساسية أكبر من القيمة المباشرة للفعل نفسه. ونحن لا نقوم بهذا العمل لأجل منفعته المباشرة فحسب، وإنما لأجل أن نصل الى قيمة أكبر.
نظرية القيمة تدور حول نوع من القيم هو أساس سائر القيم الأخرى، أي الاشياء التي لها قيمة لذاتها لا لشيء آخر. ومن منظور أرسطو، إذا انطلقنا من القيم الوسيطة وتتبعنا الاهداف التي تقود اليها هذه القيم، سوف نتوصل لعدد أقل من القيم الوسيطة ولكن أكثر أهمية من غيرها، الى أن نصل الى قيمة أساسية مطلوبة لذاتها يمكن تفسير سائر القيم على ضوئها. ولو لم تكن حياتنا موجهة لقيمة أساسية نطلبها لذاتها، وكان كل هدف نسعى لأجله هو مجرد وسيط لهدف آخر، فسوف نواجه متراجعة لانهائية، وتصبح كل رغباتنا عديمة القيمة وخالية من أي مضمون حقيقي.
وعليه، لا بد لكل فرد يريد أن يدرس طبيعة حياته الأخلاقية أن ينظر إليها من منظور عام وشامل، بحيث تنتظم القيم تحت مبدأ وحيد يفسرها. وبهذا الشكل، يستنتج أرسطو أنه وبمجرد التفكير في القيم الأساسية لحياتنا سوف نخلص الى فكرة القيمة الوحيدة المطلوبة لذاتها، والتي يمكن من خلالها أن نفسر كل القيم والأفعال الأخرى.
من هنا، تبحث النظرية الأخلاقية حول مجموعة من القيم المرشحة لأن تحتل مرتبة القيمة الأساسية المطلوبة لذاتها. وكيف يمكن أن تكون هذه القيم مبادئ تنظيمية للحياة بشكل عام، وأسباب اختيار قيمة معينة دون غيرها.
يمثل مذهب اللذة الاتجاه الذاتي في تفسير مفهوم السعادة. ويعتبر مذهب اللذة الفردية أن السعادة تكمن في اللذة، وذلك استنادا إلى أن الطبيعة تقتضي أن تكون اللذة مطلوبة للجميع، وأن قيمة كل فعل تتحدد باعتبار ما يتعقبه من لذائذ أو آلام.
وقد عملت المدرسة الابيقورية على ترسيخ المفهوم الغائي للذة الحسية في الحياة، ومع ذلك فقد اعتقد مؤسس هذه الفلسفة - أبيقور الاغريقي - أن اللذة العقلية الدائمة تسمو على اللذات الجسدية المؤقتة، وأن قمّة اللذة تكمن في هدوء البال وطمأنينة النفس والتي تتحقق بالحد من الرغبات وعدم الاسراف في اللذات الجسدية. وهو ينظر الى هذا الاعتدال في العيش على أنه متعة عقلية وقيمة وسيطة من شأنها أن توصل في النهاية الى حياة الرفاهية بوصفها قيمة مطلوبة لذاتها.
وفي مقابل هذا الاتجاه، هناك اتجاه آخر يفسر السعادة باعتبارها حالة من الوجود تتوفر فيها جودة الحياة على أفضل ما يكون وبشكل موضوعي منفصل عن المشاعر والاحاسيس. هذه الحالة يعبر عنها بنظر الفيلسوف اليوناني أرسطو بالصلاح، والحياة الصالحة التي هي مطلوبا لذاته وقيمة أساسية يجدها الفرد في الفضيلة بغض النظر عن مشاعره وأحاسيسه.
وهناك الاتجاه الرواقي الذي يقع في مقابل اتجاه اللذة، ويفسر السعادة التي هي قيمة مطلوبة لذاتها عن طريق الفضيلة أيضا؛ إذ يمكن للفرد أن يكون في قمة السعادة حتى ولو كان يتألم بل ويدفع حياته ثمنا لأجل الحفاظ على فضيلة الثبات على المبدأ.
وبتعبير آخر، تشكل السعادة قيمة أساسية ومطلوبا لذاته وليس لأي شيء آخر، على ألا يقتصر مفهوم السعادة على المشاعر الايجابية المباشرة، فقد يعيش المرء تجربة مشاعر غير ايجابية، وهو مع ذلك في حالة من السعادة. هنا يكمن التجاذب الحاد ما بين فلسفة اللذة الأبيقورية وفلسفة الزهد الرواقية في تفسير القيمة الأساسية للحياة الأخلاقية، وقد ساد هذا التجاذب بين الاتجاهات التقليدية للفلسفة الغربية قديما وحديثا. فمن وجهة نظر جون ستيوارت ميل، لا يكون الشخص في حالة جيدة إلا حين يشعر بحالة جيدة، ولو لم يشعر بحالة جيدة لن يضع أي قيمة أبدا لفكرة أنه يكون في حالة جيدة. وفي المحصلة، إن القيمة بنظر ميل حسية. وهو يحاول أن ينقض فكرة الزهد والصلاح التي نادى بها فلاسفة الرواق من الأساس، وذلك من خلال ايجاد إطار منطقي لمدرسة المنفعة؛ كامتداد طبيعي لمذهب اللذة. الا انه يجعل من شعور اللذة معيارا للحالة الجيدة، وهذا لا يتناسب مع أن الشخص قد يفضل حياة غير أخلاقية تقوم على اللذة، ومع ذلك يشعر بأنه يعيش حياة غير جيدة.
وفي العصور المتأخرة دحض الفيلسوف الامريكي روبرت نوزياك مذهب اللذة باعتبار أن الشخص يفضل الحصول على اللذة عن طريق معايشة الحياة العادية، وليس عن طريق آخر. ولو كانت اللذة قيمة أساسية ومطلوبا لذاته، لما كان لهذا التفضيل أي مبرر.
تدور رحى هذه التجاذبات على ثنائية الفضيلة واللذة؛ فمن جانب هناك الفضيلة التي يتوهج بريقها ساطعا في سماء الحياة الإنسانية، وقد تتجلى الفضيلة بأنصع صورها حتى ولو لم تكن لها انعكاسات ايجابية في مجال المشاعر والاحاسيس المباشرة، كما في موارد التضحية والايثار. ومن جانب آخر، هناك اللذة التي تجتاح ميدان النفس بما تعكسه من مشاعر وأحاسيس لا يتردد الفرد في أن يجدها جيدة، إيجابية، وفي ان يضفي عليها عنوان سعادته ورفاهية عيشه.
وفي الوقت الذي تصنف فيه مذاهب اللذة في فئة الفلسفات الأخلاقية النسبية، لا ينبغي ان يحملنا ذلك على اخراج هذه المذاهب من دائرة الموضوعية الواقعية، وركنها في دائرة الذاتيات اللاواقعية، فلا شك أن شعور اللذة يفرض نفسه بقوة لا مثيل لها في واقع الأفراد. بل إن الشرائع الدينية تقيم وزنا معتدا به لهذا الشعور في حساباتها التشريعية التي تقوم على المصالح والمنافع، وأيضا في مآلاتها الأخروية التي تقوم على الوعد والوعيد.
اننا لا نحرز الموضوعية حين نحذف المشاعر والأحاسيس كليا من حياتنا الأخلاقية، ذلك أن الموضوعية ذاتها تقتضي ان ننظر الى الحياة الأخلاقية نظرة شمولية، تأخذ فيه الأجزاء مواضعها المناسبة وفق توازن دقيق يحتكم الى مطلب العدالة.
ولا شك في أن الأمور المطلوبة للإنسان تتنوع بتنوع أبعاده الوجودية وتعددها. وهذه الأمور المطلوبة تقع جميعا في طريق تأمين هدف أساسي هو الحياة المطلوبة. وهذه الحياة المطلوبة هي هدف علم الأخلاق. والأمور الاختيارية في المجال الأخلاقي تخضع جميعا للتقييم من حيث إنها تقع في طول هذا الهدف الأصلي. وحينئذ تكون قيمة الأمور الاختيارية من نوع القيمة الغيرية. فيما تكون قيمة الحياة المطلوبة من نوع القيمة الذاتية.
إن منشأ مطلوبية هذه الحياة هو نوع إرادة تقتضيه طبيعة الفاعل المختار، وهو بحسب الفلاسفة حب الذات. وملاك حب شيء هو كونه أمرا ملائما لنا. إننا نحب بعض الأشياء في ظروف معينة، لأنها تناسبنا في تلك الظروف دون غيرها. وبتعبير آخر، ان كل شخص متلائم مع نفسه، ويجد هذه الملاءمة في نفسه، ولذلك فهو يحب نفسه. والميل إلى أي شيء وطلبه يحصل في النتيجة عن طريق الميل إلى الذات وحبها. ولا يمكن لأي شخص إلا أن يحب نفسه، وحتى المنتحر يريد أن يخلص نفسه من الأمور التي يعاني منها والتي يرى أنها غير ملائمة لها. وحينئذ، فإن حب الذات يولد فينا ميلا نحو تحصيل الحاجات المختلفة من الأمور الخارجية التي تلائم وجودنا. وما يلائم وجودنا بأن تزيد حيازته من وجودنا، يسمى کمالا إضافيا.
وعليه، فإن حب الكمال هو من نتائج حب الذات، فالإنسان بطبيعته طالب للكمال، وطلب الكمال - كحب الذات - مشترك بين جميع البشر، وهذا مع غض النظر عما يراه كل فرد كمالا له.
وقد جاء الإسلام دينا سماويا لهداية البشر إلى سعادتهم وكمالهم الحقيقي، بحيث إن اتباع تعاليمه يؤمن تحقيق حياة طيبة ولائقة. يقول القرآن في هذا الصدد: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل: 97. إن نتيجة الأفعال الإنسانية الحسنة أو السيئة تعود على الإنسان نفسه: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) فصلت: 46. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى) النجم: 39 - 41. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة: 7 - 8.
والدين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلل الأمر الذي يكون في الواقع طيبا، ويحرم ما كان خبيثا وغير طاهر، وعلى هذا الترتيب يكون لأوامر الدين ومحرماته منشأ واقعي؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل: 10. فعلى الرغم من كون طاعة الله أمرا قيما، إلا أن الأمر والنهي الإلهين لهما منشأ واقعي أيضا، والله تعالى يأمر بأمور حسنة واقعا، وينهى عن أمور قبيحة واقعا.
ومن هنا، قسم القرآن الناس يوم القيامة إلى فئتين: أهل السعادة وهم أهل الجنة، وأهل الشقاء وهم أهل النار: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ) هود: 105 - 108.
وبما أن للخير والشر معیارا واقعيا، فربما يختلف الخير أو الشر الواقعيان مع ما يكون مطلوبا أو غير مطلوب للناس؛ كما يبين القرآن: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) البقرة: 219. ولهذا، يجب ألا يكون تشخیص صحة الأفعال وخطئها تابعا لأهواء الشخص وميوله، أو لأهواء الآخرين وميولهم؛ (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) محمد: 14. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) الأنعام: 116. ([1])
[1] حول هذا المنظور الأخير، راجع: فلسفة الأخلاق، مجتبى مصباح، الفصل الأخير.