نعمة البعثة النبوية الشريفة
نعمة البعثة النبوية الشريفة
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
وفي سورة البقرة يقول تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
والمن هو العطاء بلا مقابل، والمن هو: تكدير النعمة بالتحدث بها، مثل قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة 262 ) وهذا يسمى «منّا» أى أذى لأنه يؤذى مشاعر و إحساس الآخذ.
والمنّ هنا: إسداء المنّة أي النّعمة، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فأنعم عليهم بالنعمة الكبرى التي تتصل بحركة السعادة في مصيرهم في الدنيا والآخرة.
الرسول نعمة كبرى للخير والخلاص
جاء الرسول الاكرم (ص)ليخلّصهم من الضلال الواضح الذي كانوا يتخبطون فيه، سواء في ذلك جانب الفكر أو جانب العمل، وتلك هي المنّة التي منّ اللّه بها عليهم.
وقوله تعالى: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.بيان لمنته العظمى التي من بها اللّه تعالى على المؤمنين تأكيد لها فقد ابتدأ عز و جل بالنعمة ان بعث فيهم رسولا عظيم الشأن جليل القدر. و (إذ) ظرف- ل من- و يتضمن التعليل.
وقد وصف سبحانه و تعالى هذا الرسول بأوصاف تدل على جلالة قدره وتؤكد المنة عليهم وان كل واحد منها نعمة جليلة تستوجب الشكر:
انه رسول من أنفسهم
فإذا كان مطلق بعث رسول كى يهدى الناس إلى منهج اللّه يكون نعمة فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه مادام من أنفسهم ومن جماعتهم، هو معروف نسبا وحسبا. ومعروف أمانة، فلا يخون، ومعروف صدقا فلا يكذب، كل هذه «منة» ولم يتعب أحدا فى أن يبحث وراءه: أكذب قبل ذلك حتى نعتبر ذلك كذبا؟ أخان قبل ذلك حتى نعتبر ذلك خيانة؟ لا.
وعرف الجميع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الأمانة منذ صغره، إذن فالمقدمات تجعل الناس لا تجهد نفسها فى أن تتحرى عنه أصادق هو أم غير صادق.
ولذلك حينما بعثه اللّه كان هناك أناس بمجرد أن قال لهم: إنى رسول اللّه، آمنوا به، لم يقدم معجزة بل بمجرد أن قال: إنه رسول اللّه صدقوه، فعلى أى حيثية استندوا فى التصديق؟ لقد استندوا على الماضى.
إذن فقوله: «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أى معروف لهم، فلم يأت لهم بواحد سقط عليهم من السماء، و قال: هذا رسول، لا. إنه رسول «مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وهذه أول منّة، «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
أو من جنس و نوع العرب، وهذه أيضا منّة فلم يكن من غير العرب فكان من عظيم المنة على العرب ان سهل عليهم التعرف على الرسول و يسّر لهم الايمان به و ازدادوا بذلك شرفا و عزة، و قد أكد عز و جل هذه المنة في مواضع متعددة في القرآن الكريم قطعا للمعاذير و إتماما للحجة
وهناك قراءة- و إن كانت قراءة شاذة- تقول: «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (بفتح الفاء) أى من أشرفهم لأنه من بنى هاشم و هم أفضل قريش، و قريش أفضل العرب.
أمّا التخصيص بالمؤمنين فلأنهم هم الذين ينتفعون بالرسالة و يهتدون بهداها، ويحصلون على نتائجها، أمّا الآخرون الذين شملتهم الرسالة في دعوتها، فإنهم لا يعيشون الإحساس بهذه النعمة الكبرى، ولا يتفهمون إيجابياتها .
وتضمنت هذه الآية الأمور التالية:
1- ان الرسول احسان من اللّه الى الخلق، لأن الرسول ينقلهم من الجهل الى العلم، ومن المذلة الى الكرامة، ومن معصية اللّه و عقابه الى طاعته و ثوابه.
2- ان هذا الإحسان قد تضاعف على العرب بالخصوص لأن محمدا (ص) منهم، يباهون به جميع الأمم.
3- انه يتلو عليهم آيات اللّه الدالة على وحدانيته، وقدرته وعلمه و حكمته.
وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى.
والتلاوة هي القراءة مع التدبر و التمعن ليسهل عليهم فهم تلك الآيات و يدركوا معانيها وحقائقها و إشاراتها و قد جعل اللّه تعالى معجزة هذا الرسول العظيم و الدليل على رسالته في القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم.
4- يعلمهم الكتاب أي القرآن ، وحثهم على العلم و مكارم الأخلاق، و يعلمهم الرسول أيضا الحكمة. والكتاب هو القرآن. ومادة (ح ك م) تدل على الثبات والإتقان والاستحكام وللحكمة مصاديق مختلفة وقد جعلها سبحانه وتعالى مدار كمال عباده وترقياتهم المعنوية والمراد بها في المقام هو أسرار الشريعة وأحكام الدين
وقيل المراد ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق و تقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال و اختلال النظام، و ذلك من معنى الحكمة
5- وَيُزَكِّيهِمْ. تزكية نفوسهم و تطهيرها من العقائد الزائفة والآراء الباطلة والأخلاق الذميمة و الصفات الرذيلة التي كانوا عليها قبل بعثته فان مع وجود تلك الملكات الفاسدة في النفس لا يمكنها التحلي بالمعارف الإلهية وهي حجب ظلمانية تعوق عن الوصول الى الفيض الالهي، و التخلية متقدمة على التحلية.
ومادة (ز ك ي) تأتي بمعنى النمو ويختلف ذلك باختلاف الموارد فقد يكون في المال؛ أو في النفس يعني: نموها في المعنويات و الكمالات و الأخلاق الفاضلة و العلوم و المعارف الحقة. وتأتي بمعنى الطهارة لكونها من موجبات النمو والبركة. وتنسب تارة إلى العبد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [سورة الأعلى: 14]
وأخرى: إلى اللّه تعالى لأنه المؤثر و الفاعل الحقيقي قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 49]
وثالثة: إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما في الآية المباركة
ورابعة: إلى العبادة لكونها بمنزلة الآلة- كما في نفس الزكاة- قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة، الآية: 103].
و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:
أحدهما: أن تكون بالعمل والإنصاف بالأوصاف المحمودة، ولا ريب في حسنها عقلا و شرعا و إليها تشير الكتب السماوية و القرآن العظيم.
وثانيهما: أن تكون بالقول المجرد وهو مذموم عقلا و شرعا قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النجم، الآية: 32].
والمراد بها في المقام هو المعنى العام وهو تنمية عقولهم و أبدانهم و أموالهم و جميع شؤونهم ببركات تعاليمه القيمة و تطهيرهم من الأدناس و رذائل الأخلاق. ومن أرجاس الشرك و الوثنية، ومن الأساطير و الخرافات، و التقاليد الضارة، والعادات القبيحة.
وقيل: ان المراد بها هنا الفقه
ومعنى الآية الاجمالي هو: وأرسل إليهم رسولا يعلمهم القرآن و أحكام الدين و يطهر نفوسهم من أنواع المعاصي و ذمائم الأخلاق و يزيّنها بالأعمال الحسنة و الأخلاق الفاضلة و الآية على إجمالها تشتمل على الفلسفة العملية و العلمية و الاجتماعية.
ثم إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح و تتجلى تمام الجلاء عند ما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما و هذا هو ما يعنيه قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
و كأن القرآن يخاطبهم قائلا: ارجعوا إلى الوراء و انظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، و كيف صرتم؟؟
وقد وصف القرآن الكريم العهد الجاهلي بقوله: ضَلالٍ مُبِينٍ لأن للضلال أنواعا وأصنافا: فمن الضلال ما لا يمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق و الباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، و تمتع بأقل قدر من الإدراك و الشعور اهتدى إلى الصواب و أدرك الخطأ فورا.
ويلخص لنا ما قاله جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حال الجاهلية والانقلاب الكبير الذي احدثه النبي (ص) ببعثته: «أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسيء الجوار، و يأكل القوي منا الضعيف .. فكنا على ذلك، حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه. فدعانا الى اللّه وحده لنوحده و نعبده، و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات، و أمرنا ان نعبد اللّه، و لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام».