مع المبلّغين موعظة من ربكم .... وذكّر بالقرآن (2)
مع المبلّغين موعظة من ربكم .... وذكّر بالقرآن (2)
إعداد الشيخ سمير رحال
قال تعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل 125
رسمت الآية الكريمة الخط العريض لأسلوب الدعوة في القرآن ضمن ثلاثة عناوين، الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن , والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة.
وكما ان القرآن الكريم هو المصدر الاول والاساس للمعارف الحقة فنتلمّس فيه حقيقة الإسلام وخطوطه العامة وهو صراط الله الى الفلاح في الدنيا والآخرة كذلك هو المرجع الذي نتلمّس أسلوب الدعوة في حناياه وفي آياته وتعاليمه.
وهذا ما يستدعي الاقبال على كتاب الله وتدبّر آياته والاستفادة منه لنستهدي بأساليبه وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
الأمثال القرآنية عبر وتذكير للمتدبر
كنا في المقال الماضي قد عرضنا للقصص القرآني باعتباره من ابلغ المواعظ كما قال تعالى (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (120 هود
وقال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ يوسف[111] أي عظة لأهل العقول.
ومن المفردات الاخرى التي تضاف الى القصة القرآنية والتي تصب في الهدف نفسه أي العظة والاتعاظ , الامثال القرآنية وقد اهتم القرآن الكريم بموضوع الأمثال غاية الاهتمام، ويتضح ذلك في إيراده لها مقترنة بأعظم أصول الدين كالتوحيد والمعاد .
وقد أكثر الله تعالى الأمثال في القرآن للتذكرة والعبرة .
وربما سُمِّي مثلًا؛ لأنه ماثلٌ بخاطر الإنسان أبدًا؛ أي: شاخص، فيتأسى به ويتَّعِظ.
كما ضرب النبي -صلى الله عليه وآله الامثال في حديثه لبيان اهمية التمسك بولاية اهل البيت (ع) فقال: (إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من دخلها نجا، ومن تخلف عنها غرق)
كما قال في بيان دور الصلوات وفوائدها : لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا : لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب.
وكذا استعان بها الداعون إلى الله في كل عصر لنصرة الحق وإقامة الحجة ، ويستعين بها المربون ويتخذونها من وسائل الإيضاح والتشويق ، ووسائل التربية في الترغيب أو التنفير في المدح أو الذم .
ومما يبيّن اهمية المثل ودوره ما ورد عن رسول الله (ص) إن القرآن نزل على خمسة وجوه: حلال، وحرام ، ومحكم، ومتشابه ، وأمثال فاعملوا بالحلال، ودعوا الحرام، واعملوا بالمحكم، ودعوا المتشابه، واعتبروا بالأمثال البحار: 92 / 186 / 3.
فالامثال القرآنية بمعانيها واقسامها المتعددة تشكل مساحة كبيرة في النص القرآني وما كان ذلك ليكون لولا أهمية هذا النوع من البيان ودوره المؤثر في المستهدفين من الخطاب القرآني وخصوصا لمن (القى السمع وهو شهيد) فإن المثل يؤثر في القلوب
ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه.
أهمية الأمثال القرآنية كأسلوب آخر في خدمة الأهداف القرآنية
للأمثال جاذبية خاصة تفتقدها سائر أنواع التعابير، وروعة في التصوير لا يدانيها في ذلك أسلوب من الأساليب البلاغية المعتمدة. وقد نهج القرآن الكريم هذا النهج لما له من وقع بالغ في النفوس ، فهو أبلغ في الوعظ ، وأقوى في الزجر ، وأقوم في الإقناع. ولما فيه من تقريب المعنى المراد وإيصاله إلى المخاطب من خلال تجسيد المعاني وابرازها بصورة حسية فيضحى المعنى المستعصي على أكثر الأفهام محلاً لفهم العوام او كما لو أنه يعاينه أمامه.
عن ابن المقفع قال: “إذا جعل الكلام مثلًا كان ذلك أوضح للمنطق وأبين في المعنى، وآنق للسمع وأوسع لشعب الحديث.
وقال النظام تجمع في المثل أربعة لا تجمع في غيره من الكلام: إيجاد اللفظ وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة.
ولأهمية الأمثال القرآنية فقد أُفردت بالتصنيف.
الغرض العام لضرب الامثال
قال تعالى في بيان دور هذه الامثال والغرض منها ومؤثريتها على النفس الانسانية:
“وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرْونَ”[الزمر 27].
وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) [الحشر:21
وهذا بيان للحكمة التي من أجلها سيقت الأمثال، وهي التذكر والتفكير والاعتبار.
أى: ويضرب اللّه تعالى الأمثال رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم سبحانه بتذكره. و"التذكر" من العمليات العقلية الأساسية التي أكد القرآن الكريم على أهميتها
فالمثل يعمل على ترسيخ الأشياء والأفكار في الأذهان، ويبقيها مستعصية على
النسيان كذلك (يضرب اللّه الأمثال للناس لعلهم يتفكرون) ، فيحملهم هذا التفكير على
الإيمان الحق، وحسن التمييز بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، والحق والباطل.
ومن فوائد وأغراض الأمثال القرآنية :
تقريب صورة الممثل له إلى ذهن المخاطب وتصويره بصورة المحسوس القريب من الفهم ، اذ ان كثيرا من المعاني يصعب إدراكها على الافهام، و بالخصوص عند السواد الأعظم، والتمثيل من أجدى الوسائل لتوضيحها و الكشف عنها
بالاضافة الى ان التمثيل كثيرا ما يضيف على البيان سموا وجمالا، وقد ضرب اللّه الأمثال في العديد من آياته البيانية
منها تمثيله الكفر والايمان بالظلمات والنور، والعمى والبصر.
وتمثيله في هذه الآية الحق بالماء والمعدن، والباطل بالزبد.
كما يستفاد من الامثال للإقناع بفكرة من الأفكار ، والترغيب في أمر ، بذكر محاسن ما يرغب فيه ، أو الترهيب من أمر بذكر مساوئ ما ينفر منه ، والمدح أو الذم، والتعظيم والتحقير.
في بيان المراد بالامثال
والأمثال: جمع مثل، وهو النظير والشبيه لغيره. والمثل بمعنى المِثل كما يقال شَبه وشِبه يقال هذا مِثله ومَثله كما يقال شِبهه وشَبهه.
ومثل الشيء أيضًا صفته فيعبر بالمِثل والمَثل عن وصف الشيئ
كما قال تعالى“مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَقُّوْن بمعنى الصفة .
والمَثَل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً فى شىء آخر بينهما مشابهة، ليبيِّن أَحدهما الآخر، ويصوّره نحو قولهم: الصيفَ ضيَّعتِ اللَبَنَ؛ قد ورد في امرأة، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلًا (يضرب لمن فرط في تحصيل شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في زمن يتعذر فيه تحصيله) ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة.
وعند علماء البيان فهو : "المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة متى فشا استعماله، وأصله الاستعارة التمثيلية المبنية على تشبيه التمثيل، ووجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد وهي كثيرة الورود في الأمثال السائرة، نحو (إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر اخرى) يضرب لمن يتردد في أمر، فتارة يقدم، وتارة يحجم.
فشبهت هيئة من يتردد في أمر بين أن يفعله وألا يفعله بهيئة من يتردد في الدخول،
فتارة يقدم رجله، وتارة يؤخرها بجامع الحيرة ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه
به للمشبه، على طريق الاستعارة التمثيلية.
والمثل في أكثر ما ورد في الآيات القرآنية فهو بمعنى الشبه .
كقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)الجمعة 5
فهم فى جهلهم بمضمون حقائِق التوراة كالحمار فى جهله بما على ظهره من الأَسفار.
وقوله تعالى : {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} فإِنه شبهه فى ملازمته واتّباع هواه وقلَّة مزايلته بالكلب الذى لا يزايل اللهْث على جميع الأَحوال.
وفسرت بغير الشبه في بعض الآيات، ففسرت بالعبرة والعظة
في قوله تعالى: “فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخَرِيْن الزخرف 56
أي عبرة وموعظة لِلْآخِرِينَ الذين يعملون مثل أعمالهم .. وكونهم مثلا لهم كونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا واتعظوا.
والحجة او آية عجيبة إلهية في قوله تعالى:“إِن هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرآئِيْلَ” (الزخرف 59) اي جعلناه آية عجيبة خارقة نصف به الحق لبني إسرائيل.
وبالصفة في الآية: “مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَقُّوْن”[6].
أى: أنه يضرب لنا المثل فقط؛ ولا توجد ألفاظ عندنا تؤدى معنى ما هناك، فيضرب اللّه
الأمثال لنا بما نراه فهناك فارق بين «مثل الجنة» وبين «الجنة»، فالمثل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه؛ فتشبه مجهولا بمعلوم؛ لتأتى الصورة فى ذهن سامعك.
وبما ينافي الشبه في الآيات المتعلقة بذات الله، كقوله تعالى“وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى”النحل 60
فهو الواحد الأحد، المنزه عن الوالد والولد وعن جميع الصفات السيئة كما قال تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»: الشورى: 11
وله من الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص. عن الصادق (عليه السلام) قال: «ولله المثل الأعلى الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهم»
أنواع الأمثال في القرآن
النوع الأول: الأمثال المصرحة: وهي ما صرح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه:
وأمثال القرآن أكْثَرَها وارِد على طريقة التشبيه الصريح؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} يونس: 24
وقوله تعالى : (والَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً...) النّور/39
تشبيها لحال قوم بحال آخرين كقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) البقرة: 17
أو تشبيها لحال شيء بحال شيء آخر؛ كقوله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) الحج: 31
ومنها ما يجيء على طريقة التشبيه الضمني ، كقوله تعالى :(.. ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه )[ الحجرات 12] ، إذ ليس فيه تشبيه صريح
وقد يكون المثل" دون أن يكون فيه تشبيه أوِ استعارة؛ كقوله تعالى: (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له...) الحج 73.
_ وسمى اللّه تعالى ما ساقه في هذه الآية الكريمة مثلا، لأن ما يفعله المشركون من عبادتهم لآلهة عاجزة، يشبه المثل في غرابته وفي التعجب من فعله.
يا أيها الناس لقد بينا لكم قصة مستغربة وحالا عجيبة. لما يعبد من دون اللّه تعالى.
فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد وعلى تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب وعلى تدبير أهون الأمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم وأضرهم بذلك و كيف يستحق الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟
وهذا النوع من الامثال (صريحة ومضمّنة) هو محل نظرنا وكلامنا في هذا البحث ويمكن الافادة منه في المجال التبليغي للتأثير ايجابا في المكلفين توضيحا وترسيخا للمفاهيم وللتفاعل العملي وعلى مستوى الشعور مع القيم والمبادئ التربوية والاخلاقية.
هذا وقد ذكروا انواعا اخرى مهمة اراد القرآن من خلالها ترسيخ مبادئ وانماط من السلوك وكيفية التعامل مع الامور والاحداث.
كالامثال الكامنة وهي التي تدل على معان رائعة في إيجاز، يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها، ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها
ما في معنى قولهم: "خير الأمور أوسطها"
كما في قوله تعالى (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان 67
وقوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) الإسراء 29
وما في معني قولهم: ليس الخبر كالمعاينة كقول الله عز وجل: “قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِيْ” البقرة 260 وغير ذلك
والأمثال المرسلة :
وهي جمل أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه، فهي آيات جارية مجرى
الأمثال. ومن أمثلة ذلك : أَلَيْسَ الصٌّبْحُ بِقَرِيْبٍ _ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ _ هل جزاء الاحسان الا الاحسان _ كُلٌّ يَّعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ”
فوائد الأمثال
والأمثال إما تضرب للتقريب الى الأذهان
كقوله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح 35 النور .
وكقوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) [البقرة:275
أو للترغيب : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِأَةُ حَبَّةٍ... 261 البقرة .
او للتنفير كقوله تعالى في النهي عن الغيبة: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل
لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) الحجرات:12
أو للعبرة والعظة : ألم تر الى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ابراهيم 29. .
او لغرض التأسي والاقتداء او العكس
وذلك كما ضرب الله تعالى مثلا ب امْرَأَة نُوحٍ وَامْرَأَة لُوطٍ فقال:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا)
(صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
للتنفير من امْرَأَة نُوحٍ وَامْرَأَة لُوطٍ ومن مثلهما ممن خان الله ورسوله مهما كانت قرابته من انبياء الله وللدلالة على ان قرابة الخبيث من الطيب لا تنفعه شيئا وان أية صلة من الصلات بأولياء اللّه، لا تنفعهم ما لم يكونوا متقين. فمجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها ما دام الشخص كافرا او بعيدا عن الله.
وان القريب من اللّه تعالى من قرّبته الأخلاق والأعمال حتى و لو كان أقرب الناس لأشقى الأشقياء، و ان البعيد عنه تعالى من أبعدته السيئات و الآثام حتى و لو كان أقرب الناس لأتقى الأتقياء ...
وفي المقابل : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
ضرب مثلا بامرأة فرعون على ان صلة الطيب بالخبيث لا تضره شيئا.
فهي مثال للتمسك بالحق والايمان مهما كانت الصعوبات والضغوطات فلم يمنعها ظلام الكفر في بيت فرعون، ولم يشغلها ما كانت فيه من متاع الحياة الدنيا و زينتها .. عن أن تطلب الحق وتتمسك به، وتعرض عن الباطل.
وكذا (وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ). مثال العفة و الطهر ونموذج عال في الاستعلاء على عرض الحياة و زهرتها ، والتجرّد للّه من كافة الجواذب المتخلفة .
وامْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ هما خير قدوة وأسوة للمؤمنين لما تقدم لهما من صفات ومناقب .
مجالات الأمثال القرآنية
الأمثال القرآنية عبارة عن آيات محكمات من القرآن الكريم أخرجت بأسلوب الأمثال
وقد توزعت آيات الامثال على ما له ارتباط بأصول الاعتقاد والجوانب الاخرى السلوكية والاخلاقية.
ومن الموضوعات الاعتقادية التي تناولتها الامثال
أولًا : التوحيد بكل اقسامه ومراتبه ونفي الشرك وأكثر الآيات تكرارا في كتاب اللّه هي الآيات الدالة على وحدانية الخالق، والتنديد بالشرك وأهله، فقد ذكرها سبحانه بكل أسلوب وبشتى الصور ومنها الامثال
كقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ...) النحل 75
وهذا رد على منكري البعث بدليل ملزم، لأن من قدر على إخراج النبات من الأرض بعد نزول الماء عليها، قادر- أيضا- على إخراج الموتى من قبورهم.
ويقول تعالى في مقارنة بين الذين آمنوا والكافرين :
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون هود 19 - 24
في النص تمثيل الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله بالأعمى والأصم وتمثيل الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالبصير والسميع.
فالكافرون صرفوا أبصارهم عن رؤية آيات الله، وصرفوا أسماعهم عن سماع وتفهم كلام الله ، اتباعا للأهواء والشهوات فكانوا كمن هو مصاب بالعمى والصم.
للرد على شبهات الكافرين
كقوله تعالى :"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" آل عمران/59 فمهما حاول المرء أن يحاول ويعاند في إمكانية خلق عيسى من غير أبٍ فإنه لا يلبث أن يركن إلى إمكان ذلك عندما نذكر له كمثلٍ ولادة نبي الله آدم حيث خلقه تعالى من ترابٍ من غير أب وأم فالقادر على ذلك قادر على أن يخلق من غير أبٍ.
وهكذا الامر في النبوة وسائر الاعتقادات.
الأهداف السلوكية والتربوية للأمثال القرآنية
بالإضافة إلى الهدف العقائدي للأمثال القرآنية وهو الهدف الرئيس ، يوجد هناك الهدف التربوي والهدف السلوكي المتمثل في التوجه الى الله بأداء العبادات ، والثبات على العمل الصالح والخلق الحسن والتزام الحق والسلوك القويم والسعي إلى الخيرات واجتناب الشرور والعيوب.
مثل لبيان قيمة الحياة الدنيا وكيفية التعامل معها
جمع اللّه سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها بالصورة المرئية لكل إنسان، حتى لا يخدع إنسان بزخرف الدنيا ولا بزينتها.
فقال تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يونس (24
ومثله قوله تعالى : كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً [الحديد: 20] وما دامت الدنيا على هذه الصورة فاحذروها، ولا تركنوا إليها ولا تغترُّوا بها. ومهما طالت الدنيا فهى منتهية، أما الآخرة فهي بلا نهاية، فإن قارنت هذا بذاك وقارنت الدنيا بالآخرة لرجحت كفّة الآخرة. لذلك يقول الحق سبحانه: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ[1] لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) [العنكبوت]
مثل لبيان قيمة الاخلاص في العمل والحث عليه مع المقارنة بفاقده
يقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
ضرب الله مثلاً لحال المنفق رياء حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، فقال تعالى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا) البقرة:264
والمعنى: إنّ مثل المرائي في إنفاقه مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب فإذا أصابه المطر الغزير أزال عنه ذلك التراب وجعله أملس ليس عليه شيء، كذلك المراؤون لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم فقد أبطلوا أعمالهم بالرياء.
وفي المقابل ضرب مثلا لصدقة المخلصين كما هو شأنه عز وجل في المقابلة بين
الضدين فقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ).
فان صدقة هؤلاء كجنة في مرتفع من الأرض تثمر في السنة مثلي ما يثمر غيرها في المعتاد لانها "ابتغاء مرضاة اللّه" والمقصود تشبيه نفقة هؤلاء المؤمنين المخلصين في زكائها ونمائها عند اللّه بتلك الحديقة اليانعة المرتفعة التي تنزل عليها المطر الغزير فآتت أكلها مضاعفا وأخرجت للناس من كل زوج بهيج.
ولقد صور القرآن هاتين الحالتين تصويرا مؤثرا بديعا، من شأنه أن يهدى العقلاء إلى فعل الخيرات، وإخلاص النيات، و اجتناب السيئات.
التمثيل للكلمة الطيبة وللكلمة الخبيثة لبيان آثارهما واختيار الاحسن
قال تعالى : أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)
وهذا تشبيه تمثيليّ من روائع التّشبيهات القرآنيّة فيضرب اللّه عزّ وجلّ مثلا للكلمة الطّيّبة في مداليلها الفكرية والعملية وما يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق والتي تدلّ على حقّ مؤيّد بالبرهان، أو تهدي إلى خير أو فضيلة ، أو عمل صالح يرضي اللّه جلّ جلاله, انها بمثابة شجرة مثمرة كثيرة الثمار الطيبة تمتد جذورها قوية في الأرض فيما ترتفع فروعها علوا وكأنها في السماء وهي: تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وجميع ملكات الموحد الأخلاقية وأعماله الصالحة هي ثمار شجرة توحيده.
والغرض منه التزام العقيدة الصحيحة المبنية على البرهان والمتجذرة في الفطرة والتي لا تثمر الا الاخلاق الفضيلة والسلوك القويم واختيار ما هو احسن .
وفي المقابل يضرب مثلا للكلمة الخبيثة متمثلة بالعقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة والخبيثة والصفات السيئة، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ عديمة الجذور ولا إرتباط لها بالأرض لذا فهي لا تقدر على إعطاء الثمار.
وهذا حال الإنسان غير الموحد، لأن الروح هي جذور وجود الإنسان وعليها تستند الأخلاق والأعمال فالعمل هو البناء الفوقي فإذا أفتقدت العقيدة تكون هذه الشجرة عديمة الجذور وفروعها وأغصانها غير مستقرة، بل لا تقر إلا إذا إستندت إلى العقيدة.
التأكيد على ضرورة التزام الحق لانه دائم ومنتصر
يقول تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثال الرعد17
قارن جلت حكمته بين الحق والباطل، وضرب لذلك مثلين:
الأول المقارنة بين الماء الذي يمكث في الأرض، ويحمل للناس الخير والحياة،
وبين الزبد الذي يعلو طافيا على وجه الماء، ثم يقذف به السيل، ويذهب مع الريح .. والحق كالماء النافع، والباطل كالزبد الذي تبدده الأرياح.
والمثال الثاني المقارنة بين المعادن تذاب في النار ليصاغ منها ما ينفع الناس، وبين الزبد الذي يطفو فوق المعدن المذاب، وهذا الزبد يضمحل تماما كما يضمحل الزبد الذي يحمله السيل .. والحق كالمعدن النافع أيا كان نوعه، والباطل كالزبد الخبيث الذي يطفو فوق المعدن حين يذاب في النار
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي يمثل اللّه ويصور الحق بيانا في صورة الماء والمعادن اللذين ينتفع بهما، والباطل في صورة الزبد الذي لا ينتفع به .
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) و هو الماء و المعادن (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) للخير والحياة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) للحق و الباطل وغيرهما.
.