معرفة الرسالة والمدعوين
الدعوة على بصيرة:
معرفة الرسالة والمدعوين
إعداد: الدائرة الثقافية
يقول تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يوسف:108).
ليس المقصود بالعلم في قوله (عَلَى بَصِيرَةٍ) العلم بالشرع فقط، بل يشمل العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود وهو الحكمة. فيكون بصيراً بحكم الشرع وبصيراً بحال المدعو، وبصيراً بالطرق الموصلة لتحقيق الدعوة ولهذا قال النبي لمعاذ: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب....) "
ومع وجود العلم وفقه واقع المخاطبين يسهل على الداعية اختيار الطرق والأساليب التي بها تُطرح المفاهيم الصحيحة
1- معرفة الرسالة
يقول الشهيد مطهري{: الشرط الأول الذي ينبغي أن يتوفر في أي مبلِّغ هو معرفته بالرسالة التي يريد تبليغها أن يكون مُدركاً لهدفها وأسسها ومبادئها، وأن يعرف الطريق الموصل إلى تحقيق ذلك، والإطلاع على ما تحتويه تلك الرسالة من قيم أخلاقية واقتصادية وسياسية ومعرفية، والمنهج الذي تعتمده وما تتضمنه من شرائع وأحكام ومقررات، وإلا فكيف يمكننا أن نتصوّر أن بإمكان أحدٍ أن يُبلّغ رسالة ما إلى الناس دون أن يعرفها ويُدرك معناها؟ فهل بإمكان المرء أن يصبح مرجع تقليد الأمة ويُصدر الفتاوى الفقهية دون أن يكون قد قرأ الفقه!! وهل نتصور المرء طبيباً ولم يدرس الطب مثلاً! من هنا يتبيّن لنا حجم وسعة المعلومات العلمية والمعرفية المطلوبة من أي مبلِّغ يُريد تبليغ الإسلام، فالإسلام مدرسة متكاملة ومجموعة عظيمة منسجمة ومتناسقة، أي إنه لا يُفيد فهم الإسلام بشكل مجتزأ، بل لا بد للمرء من أن يفهم الإسلام بشكل متكامل .
ويمكن أن يستفاد ذلك من جملة من الروايات الشريفة:
1ـ عن رسول اللهP: (لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر حتى تكون عالما، وتعلم ما تأمر) .
2ـ وعن رسول اللهP: (لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)
3ـ قال الإمام عليQ: (إنما المستحفظون لدين الله هم الذين أقاموا الدين ونصروه، وحاطوه من جميع جوانبه، وحفظوه على عباد الله ورعوه).
والشهيد مطهري{ يعتبر "أن مقام المبلِّغ للإسلام والداعية الإسلامي الذي يُبلِّغ الرسالة الإسلامية لعموم الناس والتعريف بالإسلام باعتباره مدرسة الحياة، هو في الواقع ليس أقل قيمةً من مرجع تقليد المسلمين، لا يحتاج الأمر منكم إلى العجب، فمقام بهذه الحدود، يجب أن يمتلك مؤهلات كبيرة، مع العلم أن هناك أموراً مطلوب توافرها في مرجع التقليد، لكنها غير مطلوبة في شروط المبلِّغ" .
2- معرفة الناس:
إن المبلغ إذا كان عارفا حق المعرفة بالإسلام وكان خبيرا بالحاجات الفطرية للمخاطب، فإنه لا يأتي أبدا، باسم الدين وبهدف تبليغ الإسلام، بما يتعارض وحاجات الناس الفطرية وحقوقهم الطبيعية.
فإذا أردتَ مثلاً أن تدعو إنساناً إلى الالتزام بفكرةٍ، فإن هناك طريقتين:
الأولى هي أن تلقي إليه الفكرة من دون أن تدرس ذهنيته، ومن دون أن تدرس الأسلوب الذي يمكن أن يؤثر إيجاباً في انفتاحه على هذه الفكرة، أو سلباً في انغلاقه عنها.
والطريقة الثانية تنطلق من دراسة ظروف هذا الإنسان، وذلك بأن تعرف أن الإنسان هو عقل يفكر، فعليك أن تعرف عقله وكيف تدخل إليه، ما الذي يحبه؟ ما الذي يبغضه؟ ما الذي ينفتح عليه؟ ما الذي ينغلق عليه؟ فتدرس طبيعة أخلاقه في قبول الآخر أو رفضه، وفي قبوله للحوار أو رفضه له، وما إلى ذلك. أي: أن تحاول أن تدخل إليه بلطف وبرفق، حتى تستطيع أن تجذبه إليك، وهذا على خلاف الذين ينطلقون إلى الآخرين ليصدموهم في ما يفكرون به، بأسلوب العنف، وأسلوب القسوة.
ولتقريب الفكرة من الناحية السلبية، يُنقل في هذا المجال حديث للإمام جعفر الصادقQ، ذكره لأصحابه، ما مضمونه: أن شخصاً ما أقنع شخصاً نصرانياً بأن يعتنق الإسلام، وأراد منه أن يقوم بما يفرضه الإسلام من التزامات عبادية، فقال له: سوف أمرُّ عليك في الصباح، ومرّ عليه، فحدثه عن صلاة الصبح، وعن نوافلها، وعن الأدعية التي لابد له أن يدعو بها، وهكذا استمر به الأمر إلى الظهر، ثم أيضاً أراد له أن يصلي الظهر ونوافلها، وامتد إلى العصر، ليصلي العصر ونوافلها، وهكذا إلى المغرب والعشاء، إلى صلاة الليل، وبعد أن انتصف الليل قال له: اذهب إلى بيتك وسأمرّ عليك في الصباح، وعندما مرّ عليه في الصباح، رفض أن يخرج معه، وقال له: إن هذا الدين يحتاج إلى شخص فارغ، وأنا رجل صاحب عيال، وصاحب حاجات، فلا يمكنني أن أسير معك. فهذا الشخص عندما كان نصرانياً، كان يقوم بأعمال بسيطة في ما تفرضه النصرانية من العبادة، وهذا الداعية لم يدرس ظروف هذا الشخص، ولم يدرس حاجاته، ولم يدرس التزاماته، ولذلك فإنه بأسلوبه أخرجه من الإسلام، وهو يريد أن يدخله فيه.
وتتضح الصورة أكثر من خلال هذه القصة وتعقيب النبي P عليها:
قدم إلى المدينة المنورة أعرابي من البادية وذهب إلى المسجد النبويّ كي يظفر بمال من النبيّP فرأى النبيّ P جالساً بين أصحابه، فدنا منه وطلب مساعدته، فأعطاه النبيّP شيئاً من المال إلاّ أنّ الأعرابي لم يقنع بما أعطاه النبيّP حيث رآه قليلاً، فتفوّه على النبيّP بكلمات بذيئة مما أثار غضب أصحاب النبي عليه فقاموا يريدون طرحه أرضاً، فأبى النبيّP عليهم ذلك، ثمّ خرج مصطحباً الأعرابي إلى بيته فزاده شيئاً من المال فأظهر الرضا والامتنان، وقال: جزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النبيّP إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، وأنا أخشى أن يصيبك منهم أذى، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلته بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك، فاستجاب الأعرابي لذلك ونفّذ ما وعد به.
وهنا توجه النبيّP إلى أصحابه فقال: مثلي ومثل هذا ـ يقصد الأعرابي ـ مثل رجل له ناقة شردت منه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاّ نفورا، فناداهم صاحبها: خلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجّه لها بين يديها فأخذها من قمام الأرض فردّها حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها ثمّ استوى عليها.
ولذلك نجد أن الدعوة الإسلامية لا بدّ أن تتحرّك في إطار الحكمة، كما في قوله تعالى: }ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة{ (النحل/125)، والحكمة ـ بحسب المعنى اللغوي: هي وضع الشيء في موضعه، والكلمة المناسبة مع الشخص المناسب، والأسلوب المناسب مع الشخص المناسب، والمناخ المناسب مع الإنسان المناسب فهذه الآية رسمت الطريق القويم فى الدعوة إلى الله وبينت الوسائل التي يلزم إتباعها لهداية النفوس، ومراعاة أحوال الناس وطباعهم وظروف حياتهم وتنوع ثقافتهم، وأن يخاطبوا بالقدر والأسلوب الذي يؤثر فى نفوسهم وبالطريقة السليمة التي تؤثر فى عقولهم وتستميل عواطفهم.
فالله -عز وجل- خلق الناس لهم طبائع متعددة، وعقول متفاوتة، ومشارب متنوعة، يقول عز وجل: }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{ (هود: 118)، ويقول: }إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى{ (الليل: 4)، ولذا فإن على المبلغ أن يعامل الناس كلا حسب قدراته العقلية والنفسية والبدنية، فالأسلوب الناجع مع الكبار قد لا يناسب الشباب أو الأطفال، والذي يناسب العالم لا يناسب العامي، وما ينجح مع أهل الحضر قد يفشل مع أهل البداوة، وهكذا، وقد كان قدوة الدعاة والمثل الأعلى لهم النبي P يراعي تلك الأمور، فيعامل الناس على حسب سن وعلم وطاقة كل منهم
فإذا قال رسول الله P "لا تغضب" فاعلم أنه لم يقل ذلك لشخص بليد العاطفة، فلا تقلها له، وإذا قال: "اتقوا الله وأجملوا في الطلب"، فاعلم أنه لم يقلها لقعدة البيوت فلا تقلها لهم، وإذا قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"، فاحذر أن تقولها لرجل كسول في العبادات....
فلا بد من مراعاة حال السائل ودراسة الظروف النفسية والأخلاقية، والإحاطة علمًا بظروفه الاجتماعية؛ كي يستطيع الداعية أن يصف له الدواء الناجع بعد أن يقف على تشخيص الداء وملابساته بوعي وفهم.
الناس معادن
والمعدن هو الشيء المستقر في الأرض، وكلنا يعلم بأن المعادن منها النفيس ومنها الخسيس وكذلك الناس معادن، فمن الناس من معدنه نفيس، ومن الناس من معدنه خسيس.
والنفاسة والخسة في معادن الناس، لا علاقة لها بالنسب والحسب والقبيلة وإنما نفاسة الناس وخستهم، بحسب ما معهم من التقوى والدين والخوف من الله، والالتزام بأحكام الإسلام، وبما اتصفوا به من محاسن الأخلاق، وكرائم الفضائل من العفة والحلم والمروءة، وغيرها من الصفات الحميدة .
هناك آيات كثيرة في كتاب الله، تصنف الناس، وتفرز معادنهم
فسورة البقرة مثلاً، وهي أكبر سور القرآن، بدأت بتقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة تؤمن بالله، وأخرى كافرة، وثالثة جائرة مترددة مخادعة، عظيمة الخطر، أطال الكلام عنها لخطورتها، وهم المنافقون. فهذا تصنيف وتقسيم للناس، وفرز لمعادنهم.
في سورة براءة تجد أيضاً تقسيم الناس على هذا الأساس وتجد معادنهم وكل هذا ذكر لمعادن الناس بحسب قربهم وبعدهم عن دين الله جل وتعالى.
بل إن الله سبحانه وتعالى زاد الأمر إيضاحاً في بعض النوعيات من المعادن. فذكر أن من الناس من معدنه معدن الكلب } أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث..{.
ومن الناس، من معدنه معدن الحمار: }مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً... {.
ويشير إلى ما تقدم جملة من النصوص الواردة عن النبي P وآله Q منها:
1ـ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبQ قال: (يا كميل، إن هذه القلوب أوعية؛ فخيرها أوعاها احفظ عني ما أقول ؛ الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق... هاه ! هاه ! إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - لعلما جما، لو أصبت له حملة ! بلى، أصيب له لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدين في الدنيا، ويستظهر بحجج الله على خلقه وبنعمه على عباده ؛ ليتخذه الضعفاء وليجة دون ولي الحق، أو منقادا للحكمة لا بصيرة له في أحنائه... .
3ـ قال الإمام عليQ: (الرجال ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر ؛ فالعاقل الدين شريعته، والحلم طبيعته، والرأي سجيته ؛ إن سئل أجاب، وإن تكلم أصاب، وإن سمع وعى، وإن حدث صدق، وإن اطمأن إليه أحد وفى، والأحمق إن استنبه بجميل غفل، وإن استنزل عن حسن نزل، وإن حمل على جهل جهل، وإن حدث كذب، لا يفقه، وإن فقه لا يتفقه، والفاجر إن ائتمنته خانك، وإن صاحبته شانك، وإن وثقت به لم ينصحك) .
4ـ روي عن بعضهمR: (إن الناس أربعة: رجل يعلم ويعلم أنه يعلم، فذاك عالم فاتبعوه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم، فذاك غافل فأيقظوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه يعلم، فذاك ضال فأرشدوه) (عوالي اللآلي: 4 / 79 / 74).
تعتبر معرفة الجانب النفسي للمخاطب أهم ركن في التبليغ من بعد معرفة الإسلام، وفيها يكمن سر نجاح المبلغ، فإذا لم يعرف المبلغ مخاطبه ولم يكن على بينة مما لديه من قدرات وحاجات تبليغية، فلا شك في أنه يفشل في تحقيق أهدافه التبليغية.
وقد وصف الإمام عليQ الرسولP بقوله: (طبيب يداوي الناس بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة).
و يقول الشهيد مرتضى مطهري (رض) توضيحا لذلك:(كانت لدى الرسولP أدوات ووسائل ؛ فكان في بعض المواضع يستخدم القوة والميسم، ويستخدم المرهم في موضع آخر، وكان في بعض المواقف يتبع أسلوب الشدة والعنف، وفي مواضع أخرى أسلوب اللين والمرونة، إلا أنه كان يجيد معرفة كل موضع، فكان يستخدم هذه الأساليب في كل موطن لغرض توعية الناس وإيقاظهم ؛ فكان يضرب بالسيف في تلك المواطن التي يوقظ فيها الناس، وليس في ما يفضي إلى سباتهم، وكان يستخدم أسلوب المداراة الأخلاقية في ما يكون سببا لتوعية الناس، وكان يستخدم السيف حينما يؤدي إلى تبصير القلوب العمياء، ويكون سببا ينتهي بالآذان الصم إلى السماع، وإلى شفاء الأعين العمي، وإلى إنطاق الألسن البكم، أي إن جميع الأساليب التي كان يستخدمها الرسولP كانت من أجل إيقاظ الناس) (تبليغ ومبلغ در آثار شهيد مطهري (بالفارسية ص: 186).
وكثيرا ما يبتلى العالم المحق بالمبطل اللجوج.. ولا دواء لهذا إلا الإعراض عنه.. ومن خاصم المشاكس المشاغب شاركه في الإثم. قال الإمام علي Q: من بالغ في الخصومة أثم.
و من أجل هذا، أمر اللّه نبيه الكريم أن يترك المبطلين المعاندين وشأنهم، حيث لا مزيد من البينات والبراهين، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب }وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ{ بالبلاغ تنتهي وظيفة الرسول عن اللّه، إذ به تتم الحجة }وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ{ يعامل كلا بما هو أهل له.
و الذي يستفاد من هذه الآية أن اللّه سبحانه قد اختار محمدا P لرسالته، وانه قد رسم له منهجا لتبليغها، وهو الدعوة بالحجة والبرهان، مع ضبط النفس، وتجنّب الخصومة مع اللجوج المعاند، وبهذا الأسلوب الحكيم تتم الحجة على من خالف وعاند، ولم يبق له من عذر يتشبث به، ويلجأ اليه.. وأولى الناس بإتباع الرسول والسير على منهجه هم أهل العلم بدينه وشريعته، الداعون إلى الأخذ بتعاليمه وسنته.