ورفعنا لَكَ ذِكْرَكَ
ورفعنا لَكَ ذِكْرَكَ
قال تعالى : الَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
رَفَعْنا : ورفع الشّيء يكون بإعلائه، حتّى يراه جميع الرّائين، فلا يكون محجوبا عن أحد منهم، و منه رفع الرّايات، و رفع المنارات، و رفع المباني، و منه الإذن برفع بيوت اللّه حتّى تكون أعلى من سائر المباني حولها، للاهتداء إليها.
(ذكرك) أي: صيتك الحسن بين كلّ ذوي الإدراك، إنّ انتشار الذكر الحسن بين الخلائق من أجلّ عناصر المجد الّتي يحرص عليها كرام النّاس و عظماؤهم.
فأبان اللّه عزّ وجلّ لرسوله في هذه الآية منّة تكريمه بمجد الذّكر الحسن، والصّيت العظيم، و الثناء الرّفيع بين أهل الأرض، و بين أهل السّماوات.
والذكر هو الاحضار العلمى سواء كان بلسان الحال ام بلسان القال و الرفع هنا عبارة عن القران بالمبدء الاعلى.
اما الاول بلسان الحال ففى مراحل عديدة :
منها اصل التحقق و الوجود : اول ما خلق اللّه نورى.
و منها مرحلة الافاضة و التفضل لقوله تعالى وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ
و منها مرحلة المحبة و العشق لقوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ س 3 ى 31.
و منها مرحلة الرضا لقوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ
ومنها مرحلة البيعة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
و منها مرحلة الطاعة لقوله تعالى قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ
ومنها مرحلة المحادّة و المعاداة لقوله تعالى أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
واما الثانى (بلسان القال) ففى موارد كثيرة
كالشهادة لتحقق الاسلام و التشهد فى الصلوة و الاذان و الاقامة و الخطب و مفاتيح الرسائل و الكتب.
ولهذا التكريم وقائع و تطبيقات كثيرة، منها ما يلي:
* ذكر صفاته والبشارة به في التوراة و الإنجيل، و على ألسنة كثير من الأنبياء والمرسلين.
* اقتران اسمه باسم اللّه جلّ جلاله في الشهادتين.
* أنّ له الشّفاعة يوم القيامة، حين يتخلّى عنها جميع الأنبياء و المرسلين.
* ثناء اللّه عليه بقوله له كما جاء في سورة (القلم/ 68 مصحف): وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4).
ورفع الذكر فيه أقاويل:
أحدها: ما روى أبو سعيد الخدريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية فقال: قال اللّه عزّ و جلّ: إذا ذكرت ذكرت معي
فليس خطيب، و لا متشهّد، و لا صاحب صلاة إلّا يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه
عن القمّيّ قال: تذكر إذا ذكرت و هو قول الناس أشهد أن لا إله إلّا اللَّه و انّ محمّداً رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله.
و في المجمع عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في هذه الآية قال: قال لي جبرئيل قال اللَّه عزّ و جلّ إذا ذكِرْتُ ذكِرتَ معي.
و أي شيء أعلى و أرفع من اقتران اسم محمد باسم اللّه، و طاعته بطاعته «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ»- 80 النساء.
«وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً»- 36 الأحزاب.
والثاني: رفعنا لك ذكرك بالنّبوة.
و الثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا
و ذكر الرسول مرفوع في الدنيا بتأييد اللّه لدينه الذي يظهره على الدين كله و بقبول شفاعته في الاخرة التي يرضيه بها
و الرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.
والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، و إلزامهم الإيمان بك، و الإقرار بفضلك،
وَرفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي أعلناه، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، و أمرناهم بالبشارة بك، و لا دين إلا دينك يظهر عليه، و أخذنا على الأنبياء العهد إن ظهرت و أحدهم حي، ليؤمنن بك و لينصرنك، و هم يأخذون على أممهم ذلك العهد، كما في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ الآية
رفع الذكر إعلاؤه عن مستوى ذكر غيره من الناس و قد فعل سبحانه به ذلك، و من رفع ذكره أن قرن الله اسمه (ص) باسمه فاسمه قرين اسم ربه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، و على كل مسلم أن يذكره مع ربه كل يوم في الصلوات الخمس المفروضة
تنويه : وهذه السّورة مكيّة، بينما الآية الكريمة تتحدث عن انتشار الإسلام، و تجاوز عقبات الدعوة، و إزالة الأعباء التي كانت تثقل كاهل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ارتفاع ذكر النّبي في الآفاق ... وهذا ما حدث في المدينة لا في مكّة.
قيل: إنّ السّورة تبشّر النّبي بما سيلقاه في المستقبل، و كان ذلك سببا لزوال الحزن والهم من قلبه
و قيل أيضا: إنّ الفعل الماضي هنا يعني المستقبل.